مثلت الحركة الحوثية إحدى ثلاث حركات دينية سياسية برزت بقوة وملأت المشهد اليمني جدلا وضجيجا خلال المائة العام الماضية، وإن كانت هذه الحركة هي آخر تلك الحركات، حيث كانت البدايات الأولى لها مع السنوات الأولى لعقد التسعينات من القرن الماضي، وبروز قوة الإخوان المسلمين ممثلة بالتجمع اليمني للإصلاح كقوة دينية سياسية لها موقفها من التشيع بالتضامن -في هذا الموقف فقط- مع الحركة الدينية - نصف السياسية المعروفة بالسلفية (الوهابية)، حيث كانت حركة الإخوان المسلمين هي أقوى هذه الحركات التي تتصدر المشهد وقد تبرعمت باكرا مع ثورة فبراير عام 1948م، أما الحركة السلفية (الوهابية) فقد كانت حصيلة المخاض الذي أنجبته واقعة جيهمان العتيبي في الحرم المكي في نوفمبر عام 1979م، التي ألقت بأحد أفقه رجالها المحظوظين إلى منطقة دماج في صعدة بعد تلك الواقعة.
يقف الحوثيون في صدارة الأطياف الدينية التي تناصب وتجاهر بالعداء -بشقيه السياسي والديني- لجماعة الإخوان المسلمين والجماعة السلفية (الوهابية) اللتين تمددتا بشكل كبير في مفاصل الدولة وعلى الواقع، على نحو يضاهي، ربما، الحضور الذي كان يشغله من تضمنهم صلح عام 1970م من فلول الملكيين وبخاصة الهاشميين الذين تسللوا مرة أخرى إلى الحكم الجمهوري رغم أنهم يعتبرون ثورة سبتمبر الصخرة التي سقطت في طريق انتظام تواثب الألف الثاني من حكمهم لليمن، والحدث الذي انتزع منهم "الحق الإلهي في الحكم" عن طريق الانقلاب الناصري-على حد وصف بعض مثقفيهم- في إشارة إلى ثورة سبتمبر عام 1962م.
فالإخوان المسلمون هم المتهم الأول في أحداث الثورة الدستورية في اليمن عام 1948م، وكان الفضيل الورتلاني (الجزائري) هو قرينة تلك التهمة لانتمائه لجماعة الإخوان وبروزه كملهمٍ روحي وفكري لرجال هذه الثورة، حتى أن مقتل مؤسس حركة الإخوان في مصر، الإمام حسن البنا، وذلك في فبراير عام 1949م، كانت إحدى التكهنات بمقتله تقول بضلوع نظام اليمن حينها انتقاما لمقتل الإمام يحيى، وهو النظام الإمامي الذي استوفاه بعده الإمام أحمد يحيى حميد الدين، بعد مقتل والده في تلك الثورة، إلى أن سقط عرش حكمه بثورة سبتمبر عام 1962م.
وفي اتجاه آخر يمثل السلفيون (الوهابيون) الامتداد السني المرعب للمتشيعين من هاشميي اليمن والمدعوم من حكام المملكة العربية السعودية التي أسقطت أحد أقوى الحكام الهاشميين في الجزيرة واستولت على ملكه في الحجاز، وتضخم معه العداء لتدخل معه أذرع التاريخ والجغرافيا والاقتصاد، مع بروز وتحول النظام السعودي كقوة كاملة، ضاربة، مميتة في مواجهة أي إطلالة شيعية تحاول التدّول في أي مكان على حواف محيط دائرة مُلكها، سواء في الشمال أو الجنوب أو الشرق؛ وهذا هو ملمح آخر من ملاح البغض الذي ولدت وترعرعت فيه الحركة الحوثية في اليمن.
في ظل هذه الثقافة والتوجسات من القادم الأخطر، نشأ شاب ملأته أحلام العودة إلى السيطرة والحضور لجذوره الإمامية التي تداخلت فيها منحنيات الدين والاصطفاء والسياسة، وكانت أذلّ الطرق بالنسبة له، التسلل من الشقوق التي تعصف ببنية نظام صنعاء الجمهوري الطامح أعلى رجل فيه بالتوريث لواحد من أبنائه، وهو النظام الذي حرم أسرة هذا الشاب من أن تكون يوما ما في قصر من قصور صنعاء تصدر الأوامر وتنتظر -كل لحظة- الجموع من الرعية وهم يهتفون بحياة أمير المؤمنين وخليفة رسول الله!!
كانت القفزة الأقوى إلى السلطة هي فوزه بمقعد في مجلس النواب عام 1993م، عن الدائرة (294) في صعدة، وممثلا لحزب الحق، وفي تلك الفترة نضج فكره السياسي واستشعر بالقلة وهو يتلفت يمنة ويسرة بين أغلبية لا يقوى على مواجهتها أو التحالف ضدها، فلما أتم فترته كنائب أراد أي يدير المعركة من خارج البرلمان كما فعل أولئك؛ ولذلك لم يرشح نفسه لدورة تالية بل دفع بأخيه يحيى الحوثي ليكون بمثابة الجناح السياسي الذي يستند عليه في مشروعه الذي يخطط لتطويره وهو خلق كيان يتقوى به، وهي جماعة الشباب المؤمن، لاسيما وأن أخاه يحيى أضحى ممثلا لحزب المؤتمر الشعبي العام الذي يدير البلاد حقيقة، بصرف النظر عن الهامش الذي يتمتع به أولئك الخصوم من الإخوان ومن في قافلتهم.
في سنوات العقد الأول من الألفية الثالثة، كانت المعركة الكونية على الأرض العربية إسلامية مسيحية، ولو بدت في صورتها الظاهرية على خلاف ذلك، إلا أن الجميع في الشرق أو في الغرب يعلم هذا الكُنه ويعي مراميه، وكان تنظيم القاعدة السني التوجه يفرز زعاماته واحدا بعد آخر، وتعالت أصواتهم في السودان والعراق وأفغانستان والشيشان وغيرها، غير أن الصوت الشيعي كان غائبا، وقد كان ظهور حزب الله في لبنان أقوى دافع خارجي لظهور الحوثية في اليمن مع ما تجمعهما من قواسم كثيرة، أولها المذهب، وثانيها السياسة، ثالثها التاريخ، فضلا عن قواسم أخرى، وكان حسين بدر الدين الحوثي في انتظار اللحظة.. وكانت تلك اللحظة.
مع تطور نشاطه الديني في الاتجاه الذي يحاكي جذوره، استطاع حسين الحوثي اجتذاب الكثير ممن غلبهم بؤس الحياة في هذا البلد، فتقاطروا إليه من مدن يمنية كثيرة، سواء من أتباع المذهب الزيدي وشيعته، أو من أتباع المذهب السني، واستطاع خلالها تكوين فكرة مفادها: أن ما يدعو إليه هو سبيل الخلاص مما تعانيه الأمة الإسلامية من حالة ذل وانحطاط.. وكان ذلك الاستيعاب قويا لدى مريديه مع انحسار المواجهة السنية الحاكمة ضد التسلط الأمريكي والغربي في البلاد العربية ومنها اليمن، وانفراد الجماعات الدينية -فقط- بذلك، والتي حققت على المستوى المحلي نجاحا ملموسا من خلال حادثة إعطاب المدمرة الأمريكية يو إس إس كول في ميناء عدن عام 2000م، وتعرض ناقلة النفط الفرنسية ليمبورج للضرب في ميناء ضبة بحضرموت عام 2002م.
تخللت دعوته الكثير من الآراء التي أثارت حفيظة كبار رجال المذهبين الرئيسيين في البلاد، واستشعرت الحكومة بالخطر على غرار ما كان يعتمل في العراق من مواجهة واستهداف للغربيين، وبلوغ تلك الدعوة طموح الانفلات من العقد الذي يربطها بالدولة اليمنية التي يقوم نظامها على المبدأ الجمهوري؛ فكانت مواجهة المصير لدى كل طرف أو هكذا صور للناس، حيث خرج حسين الحوثي من كهف سلمان عام 2004م ولم تسلم روحه بعد ذلك الخروج، وكانت تلك اللحظة هي ما لم يكن يتوقعها أو ينتظرها، في حين كانت بالنسبة للطرف الآخر اللحظة الحقيقية لسقوط المشروع الحوثي للأبد، لولا المكايدات السياسية في صوف رجال النظام الحاكم التي بعثته مرة أخرى لتدخل اليمن بعد ذلك غمار خمسة حروب أخرى حتى العام 2011م.
والآن، وبعد أن حضر المشروع الحوثي بقوة، سياسيا وفكريا ودينيا وجغرافيا، وحضرت معه جثة صاحبه الذي أوشك أن يوهم أتباعه أنه تسردب كحال من يسمونه بالإمام المهدي الذي يؤمنون بمثل واقعة اختفائه وخروجه؛ تجد الأطراف التي كانت ضده على خطوط المواجهة الحربية لستة حروب، أنها إزاء جماعة تسللت إلى عنق البئر تبحث عن مخرج مدوٍّ أكبر، وقد خدعتهم بالتحاقها بالثورة كمثل إسلام ابن سلول، في حين يراها آخرون من ذلك الفريق أنها المكسب السياسي القادم، وأن الطريق إلى العودة يمكن أن يأتي من التحالف مع هؤلاء.
إن الحركة الحوثية -بعد ثورة الشباب عام 2011م- لم تعد كمثيلاتها من الحركات، كحركة الإخوان المسلمين، والحركة السلفية، ولم تعد تقاتل في جبال مران ويختبئ رجالها في كهوف تلك الجبال مثلما كان يفعل واحد من أقطابهم في قلعة ألموت ومصياف، وهو الحسن بن صباح في القرن الحادي عشر الميلادي.. إنهم قوة سياسية دينية مسلحة تبسط بقوتها المسلحة هذه على أراضٍ محررة، وتمارس السلطة والسيادة عليها كما تمارس ذلك الدول المستقلة، ويحضر ممثلوها مؤتمر الحوار، ولا تعترف بسلطة فبراير 2012م!!