arpo28

قحط المزرعة.. مطر الطائرات الأميركية في اليمن

لا يزال المطر يقرر نفسية وشعور ومزاج منطقة وصاب الجبلية، الواقعة على بعد 200 ‏كيلومتر جنوب صنعاء، تماما كما هو الحال منذ فتحت عيني على الحياة هناك في الجبال ‏البعيدة، البعيدة عن كل شيء، عن العالم وتفاعلاته، وعن تحقيق حياة كريمة لأبنائه دون ‏اللجوء للهجرة عنه. ‏

خلال زيارتي المرة الاخيرة، سمعت تلك الشكاوى نفسها والأنين من الحرمان التي تربيت ‏اسمعها، ثم عشتها كالآخرين عند بدء قدرتي على تمييز ما حولي، من غياب أبسط مقومات ‏التنمية، سواء الكهرباء أو المستشفيات أو أي شيء سواها يتعلق بمسؤوليات الدولة أمام ‏المجتمع.‏

أنشودة الحياة
المطر هو كل شيء بالنسبة للمزارعين هنا الذين يشكلون الغالبية الساحقة من السكان ‏‏(حوالي المليون نسمة). ذلك أن تساقط الأمطار الموسمية يمنحهم الأمل ويعدهم بالطعام ‏لشهورهم القادمة. ينشغل الناس بمزارعهم ويتعاونون مع بعضهم في الزراعة ويبتسمون مهما ‏أصابتهم الأمراض أو طال انتظارهم طريقا معبدا بالإسفلت، أو ماتت النساء وهن يحملن ‏أواني الماء من الآبار البعيدة على رؤوسهن إلى البيوت.‏

حينما يهطل المطر ويزرعون، ينشدون الأغاني الشعبية وقت الحصاد بنشاط قلما ترى له ‏مثيلا. إنه نشيد الحياة بالنسبة لهم أكثر من كونه فنا موسميا. يتأخر المطر فتنكسر نفوسهم ‏وأرواحهم ويرسم البؤس نفسه بعناية فائقة على وجوههم. تنشأ المشاكل فيما بينهم، ويقلقون ‏على قوتهم للعام القادم، وتنشأ الصراعات بينهم. اشتد القحط هذا العام، وشارفت الآبار على ‏النضوب بعد أن قل سريان المياه بحدة لم يسبق لها مثيل. اعتاد الناس أن يجتمعوا في قمم ‏الجبال الشاهقة (حتى يسمعوا بعضهم بعضا من أماكن مختلفة فيتوافدون) يتضرعون إلى الله ‏بشكل جماعي أن ينزل عليهم المطر وهم يجهشون بالبكاء والتوسل. وحينما يصعدون إلى ‏الجبال، يحمل أغلبهم المظلات لأملهم الشديد بكرم السماء، وبأنهم لن يعودوا إلى بيوتهم إلا ‏بعد هطول المطر. ومهما تكررت خيباتهم، واستخدموا في الاغلب مظلاتهم للحماية من أشعة ‏الشمس اللاسعة، يحدث أحيانا أن يحتاجوا مظلاتهم لحماية رؤوسهم من التبلل بمياه السماء ‏التي يعشقون وقع قبلاتها على هاماتهم.‏

هطول شيء آخر
في ليلة قحط، منتصف نيسان/ابريل الماضي، وبعد صعود بعضهم إلى الجبال المختلفة ‏لمناشدة السماء بالمطر، هطل عليهم في تلك الليلة شيء آخر غير ما كانوا ينشدون. ضربت ‏طائرات أميركية من دون طيار إحدى مناطق «وصاب»، وعرف لاحقا أنها استهدفت شخصا ‏معروفا لدى أغلب أهل هذه المنطقة، وهو حميد الردمي، في ضربتين متتاليتين هزتا سماء ‏الجبال التي تجاور نجومها منازل سكان ثاني جبال اليمن ارتفاعا عن سطح البحر (حتى ‏‏2400متر)، وصعقت الآلاف منهم.‏

‏ هرع بعضهم هلعين إلى الطوابق السفلى لبيوتهم (المخصصة للمواشي)، فتح البعض الآخر ‏بيته وخرج هاربا لا يدري إلى أين ولا إلى ماذا أو لماذا، لكنه كان متيقنا أن الصوت الذي ‏سمعه ليس برق المطر الذي كان يرجوه، خاصة حينما تكررت الضربة مرة أخرى بعد دقائق ‏من ضربة الطائرة الأولى. من لم يسمع صوت الضربة في الجبال البعيدة، وصله الضوء ‏الهائل للصواريخ وهي تهبط نحو مستقرها. ومع أن الوقت لم يكن قد تعدَّى الثامنة مساء ‏ليلتها، إلا أن أغلبهم كانوا قد خلدوا إلى النوم كعادتهم. فوصاب منطقة لم تصلها الكهرباء بعد، ‏والقليل من أهلها يستطيع شراء مولدات صغيرة ليشعلها لساعات قليلة خلال الليل. ولذا فان ‏بعض من يمتلكون الهاتف المحمول يتركونه كل مساء في منازل جيرانهم المالكين للمولدات ‏لشحن بطارياتهم.‏

يتعامل أغلب الناس مع عدم امتلاكهم للكهرباء بالنوم باكرا بمجرد غياب الشمس، ‏والاستيقاظ فجرا بمجرد أن تبزغ أنوار الفجر الأولى، كسلوك أجدادهم في القرون الغابرة، من ‏دون أي منغصات تعتري نومهم العميق. لكن تلك الليلة، كانت مختلفة، حينما أيقظهم الفزع ‏من الزائر الغريب ذي الصوت القاتل.‏

الضربة
مؤخرا، بدأت الحكومة اليمنية شق طريق الاسفلت إلى وصاب بعد وعود متوالية لأكثر من ‏ثلاثة عقود. ولذا، فحينما ضربت الطائرة ظن بعض القريبين من مكان الانفجار أن شركة ‏مقاولات الطرق تفجر الجبال مساء لتشق الطريق، فخرج يصيح ويلعن ويشتم الشركات، قبل ‏أن يحس بثلاث طائرات مختلفة تحوم فوق سماء المنطقة: واحدة نفذت الضربة الأولى من ‏جهة معينة والأخرى كانت تراقب وثالثة قامت بتوجيه الضربة الأخيرة من جهة أخرى.‏

من موقع الضربة، يُرى مقر الحكومة المحلية وإدارة أمنها وسجنها (لا شيء سوى ذلك ‏هناك، مما له علاقة بمصالح السكان). ويمكن الوصول إلى المقر مشيا على الأقدام في أقل من ‏‏20 دقيقة داخل الطرق الوعرة. يتحدث شهود عيان عن تفاصيل الضربة، وكيف أن رجال ‏الأمن في المبنى غير البعيد عنها أصيبوا بالفزع. أحد أول الواصلين إلى المكان بعد الضربة ‏يتحدث عن سماع أنين أحد الضحايا معرفا باسمه، ومناشدا القادمين إنقاذه وإسعافه إلى الوحدة ‏الصحية التي يعزفون عادة عن زيارتها لرداءة خدماتها. لكن لم يستطع أحد منهم الاقتراب لأن ‏البقعة كلها كانت تشتعل وكانت الطائرات لا تزال تحوم فوق المكان كأنما تريد الاطمئنان ‏على ذهاب ضحاياها إلى مصيرهم الذي رسمته قبل دقائق، أو لتؤكد أن الموت الذي تجلبه ‏أكثر وقاحة من موت القتلة العاديين الذين يلوذون بالفرار بعد انتهائهم من فعلتهم.‏

في الحادثة ، قتل ثلاثة أشخاص كانوا برفقة الردمي، المستهدف من الضربة، جميعهم لم ‏يعرفوا أنهم/هو هدف لموت قادم من الأعلى، وجميعهم لا علاقة لهم بارتباطاته بالقاعدة التي ‏قالت الحكومة اليمنية لاحقا أنه كان أحد أعضائها. أحدهم شاب تخرج من الثانوية، يقول أقاربه ‏أنه كان دائما يحلم بالانخراط في إحدى الكليات العسكرية. آخر كان عاطلا عن العمل ويذهب ‏مع الردمي بحثا عن دخل يؤمن له طعام يومه لا أكثر. أما الثالث، فقد كان يخطط للسفر إلى ‏السعودية بحثا عن لقمة العيش له ولزوجته ولأولاده وابنه المنتظر في احشاء زوجته التي ‏تحولت في لحظة إلى أرملة بدون عائل.‏

جدي وأنا...‏

مكان الضربة هو نفسه الطريق الذي أسلكه حينما أعود إلى قريتي في الجهة المقابلة من ‏جبال وصاب كل عام، ويسلكه أقاربي وأصدقائي بشكل شبه يومي. في مكان مقارب، زرع ‏جدي ذكرياته، وبذر إرثه قبل عشرات السنين. وبمجرد نطقي لاسمي كاملا في المكان يحتفي ‏بي المسنون من سكانه، ويحدثونني لساعات عن ذلك الجد الذي ورثت منه حتى اسمي. ‏يتهامس البعض الاخر عن مغامراته كرجل كان مفتوناً بالنساء، قبل ان يسألوني بمودة عن ‏‏«الدراسة في لبنان». اعتراني شعور غريب وأنا بجوار منزل الردمي الذي لم اسمع به إلا يوم ‏حولته الطائرات الأميركية إلى جثة (كونه لم يعد إلى منزله في تلك الجبال إلا قبل بضع ‏سنوات). فقد كان مهاجرا ثم سجينا في مركز المحافظة، لكن أغلب وصاب تعرفه، ويصل ‏حديث الناس عنه كشخصية اجتماعية إلى جهاتها الأربع. شعور متناقض تلبسني وأنا أتحدث ‏مع بعض أقارب الضحايا وجميعهم يسألونني عما إذا عرفت في أميركا (عند شهادتي أمام ‏مجلس الشيوخ عن فعل الطائرات بلا طيار في اليمن) لماذا قتل الرجل والأبرياء الذين كانوا ‏معه. شعرت بثقل الأرض وسماواتها على كتفي، ووالد أحدهم يمسك كتفي بيده الممتلئة ‏بالجروح ويسألني إن كانت ستُدفع لهم تعويضات مالية بعد خطابي في أميركا أمام الكونغرس، ‏وعن «فائدة» ما قلته/أقوله حول العالم عن هؤلاء المدنيين الضحايا، بينما كان يقلب صورة ‏من الشهادة الثانوية لابنه.‏

لم أكن معروفا في وصاب بشكل واسع بعيدا عن محيط قريتي، لكن شهادتي أمام مجلس ‏الشيوخ في واشنطن (كانت قد جرت قبل حادثة قصف الردمي بأسبوعين تقريبا) جعلت مني ‏حديث المجالس في اليمن عامة ووصاب خاصة، إلى درجة لم أكن أتوقعها، وأصبحت تشكل ‏عبئا ثقيلا أعاني من وقعه عند كل لقاء بجديد من الناس هنا.‏

أخبرت والد الشاب/الضحية أن ما أقوم به هو فقط عمل حقوقي وتعريفي للمهتمين في ‏الغرب عن أضرار الطائرات، وأنني لا ادري إلى أين ستصل جهودي، ولا ما يمكن أن تقوم ‏به الحكومتان اليمنية والأميركية من أجل الضحايا المدنيين. فأصابه كلامي بالخيبة ولم يبدو ‏أنه اقتنع به، ولم أملك شيئا آخر لقوله أمام هذا العجوز الذي تحمل عيناه أسئلة العالم وتدفعني ‏للتبلد الأبدي الذي يليق بحجم خيبته وحزنه. عدت مساء إلى منزل والديّ في الجبل الاخر. ‏كانت والدتي قد جهزت لي حليبا طازجا من بقرتنا التي تشاركنا المنزل كأفخر ما يمكنها ‏تقديمه لي، وبعض الأكل الذي ننتجه في مزرعتنا. وبدلا من الاحتفاء بهذه الوجبة الأثيرة ‏والبسيطة كالعادة، ظللت طوال الليل أفكر في كل هذه الفوضى التي قام بها شخص /أشخاص ‏من على بعد آلاف الكيلومترات، كما لو أنه/هم يلعب/ون «بلاي ستيشن»، ورأسي ممتلئ ‏بأسئلة وأفكار بحجم الجبال التي تحيط بي.‏

شعرت بخطوات والدتي فجرا وهي تحمل حليب الإفطار لي أنا ضيفها القلق، بينما لم أزل ‏أتقلب على الفراش لا أرى أفقا لأي شيء، ولا قدرة لاستيعاب كل ما حدث ونتج عن قصف ‏أميركا لبلدتي، وشهادتي في مجلس الشيوخ وما صاحبها من ضجيج إعلامي في بلدي، دون أن ‏يعيد الأبرياء من ضحايا قصف الطائرات. وحتى فيما يمثله استلقائي على أرضية غرفتي هذه ‏ولم تمنحني اليوم الشعور بالمودة المنتظرة، التي كنت أشعر بها في كل عودة لي من صنعاء ‏او أميركا أثناء دراستي هناك.‏

لم تكن أميركا حينها قد جنت على بلدتي التي أحب، بل منحتني فرصة للتعلم دخلت بها عالم ‏القرن الواحد والعشرين. لكنني اليوم على الفراش ذاته مجرد قادم من كهوف القرن السابع ‏الميلادي، غير أني لا أحمل سيفا، بل القليل من السلام أمنحه لهذه البلدة التي أعطتني شعور ‏حب العالم، بطمأنينة المزارع الذي لا يكره إلا حجب السماء لقطرات المطر التي ينتظرها ‏الآن لتصب وافر مودتها على مزرعته بالجوار، وترفع أحزانه عن عالم يعاني قحطا موازيا ‏في ثقافة السلام والقدرة على التعايش بين مخلوقاته.‏

زر الذهاب إلى الأعلى