arpo28

رحلة خلف القضبان.. السجون امتهان للكرامة ووكر للانتحار

السجون هي الأماكن التي أقرتها الشرائع السماوية والدساتير البشرية لمعاقبة من يثبت مخالفتهم للقوانين، كوسيلة عقاب وتأديب حتى يعود المخالفون إلى جادة الصواب ويلتزموا بتلك القوانين واللوائح.

ولذلك تهتم الأنظمة الحاكمة بالسجون، وترفع درجة تأهيلها كي تكون المكان المناسب لتأهيل نزيلها، وتعريفه بمدى الأخطار الناجمة عن مخالفته، سواء على نفسه أو تجاه الآخرين، وفي ذات الوقت تعمل على حل القضايا والنزاعات، بما يتوافق مع القوانين المختصة، دون إهدار لكرامته أو انتقاص من إنسانيته، فتسعى إلى تزويد السجون بالإمكانيات اللازمة التي من شأنها المحافظة على كرامته وصون حقوقه، ولذلك أسوأ أنوع السجون تلك التي لا يرى فيها السجين شجرة، وهذا تعبيراً عن درجة الحرمان وما توحيه المشاهدة للأشجار من معاني في أعماق النفس والواجدان.

في بلادنا تعد السجون وجهاً آخر من وجوه المعاناة، ووكراً مظلماً من أوكار الظلم التي لا تزول، وألوان الحرمان التي لا تنتهي، بل تتجدد كل يوم، وتتعدد مظاهرها وأشكالها، فيذهب القائمون على السجون، ويُطلق ويخرج السجناء، بينما حياة السجن وبؤس أجوائها تظل ثابتة كما عاشها هؤلاء بل تزداد قتامة واكتظاظا وبؤسا.

السجون في بلادنا هي أنسب الأماكن لامتهان الكرامات والمتاجرة بالحريات.. في السجون سوف تعيش عالماً آخر، وتكتشف مجتمعاً جديداً، هو الصورة المجسدة للمجتمع الذي نعيش في جنباته، ولكن بمستوى أعلى من الإنسانية المقيتة خارج أسوار السجون.

سجن البحث الجنائي بأمانة العاصمة.. وحشة المكان وغربة الانسان

حين يتعرف المرء على الشيء لأول مرة، يعتقد لاشعورياً أنه أول من اكتشفه، وبالتالي يصبح وقعه على كاهله ثقيلاً وئيداً، وأن تدخل السجن لأول مرة فذلك التاريخ نقطة تحول في مسيرة حياتك، ومنعطفا هاما يفتح لك صفحة جديدة من صفحات كتابك المنسية، تلك مشاعر لا يدركها إلا من خاضوا ذات التجربة.

"السجن للرجال" عبارة طالما سمعناها صغاراً، ورددناها مرراً، لكن إيقاعها النجس عند تحققها، ينزل على المرء كأنه جبل نقم، ليس خوفاً من السجن، ولكن حين تدرك أن السجن ليس للرجال كما كنا نعتقد، ولكن للمظلومين، هذه هي الطامة الكبرى، والصاخة التي تشق الأنفس وتطحن الأفئدة وتعصر الروح كما تعصر المرأة الثوب المبتل لتجفيفه.

سجن البحث الجناني بالأمانة يصفه من يعرفه، أو سبق له التعامل معه بأنه أوسخ سجن، ويقال إن بناءه تم في عهد الرئيس الحمدي، وهو ما تعكسه ملامح بنائه المشابهة لتلك المباني التي شُيدت في السبعينات.

هناك كل شيء يبدو مهترئاً، جدران المبنى، وأثاثه الداخلي، وغرفة المتعددة، حتى منتسبيه لهم نصيب من ذلك الاهتراء الذي أصابهم، ولكنه اهتراء من نوع خاص، إنه اهتراء الإنسانية، وفقدان المشاعر، وضياع الضمير، شبابيك المبنى وممراته الداخلية وأجواء المكاتب توحي لك بالاكتئاب والحزن الذي يلف المكان، وتشكو لك قصص وأحاديث مريرة من الظلم والمظلومين الذين دلفوا إليه، أو ساقتهم الأقدار إلى هناك.

اللحظة الأكثر، بؤسا حين تقف لأول مرة أمام بوابة السجن، وبين يدي السجان، هناك تتلاشى قيمتك كإنسان، وتتبخر مكانتك كفرد في المجتمع، فبمجرد ان وصلت باب السجن، قام السجان من مكانه، وأخذ كل شيء حاد "الحزام، المفاتيح، الفلاشات، القلم" حتى القات قال إنه ممنوع، ثم دس يده في كيس القات خاصتي وأخذ نصيبه، وفتح باباً آخر، ثم باباً ثالث، وبكل برود يدفعك نحو الداخل، ويقفل الباب خلفك، ويعود هو ليواصل تخزينة القات، أما أنت فتكون للتو قد دخلت عالماً جديداً.

ما أقسى تلك اللحظات وما أتعسها، ولا مشكلة في تجرعها، إذا كان الشخص ظالماً أو جانيا،ً لكن أن تكون مظلوماً، فلا يسعك إلا أن تقول كما قالت السيدة مريم العذراء عليها السلام:" يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسيا".
أن تتعود على نمط حياة معين ثم تجد نفسك مجرداً من كل شيء تعودت عليه، فتلك مرارة لا يعلمها إلا الله والقابعون في السجن.

دلفتُ إلى السجن من بوابة قياسها متر ونصف طولاً في نصف متر عرضاً، أغلق الباب خلفي، كان ضوء الغرفة التي ينفتح من جانبها الآخر باباً يؤدي إلى بقية غرف السجن، أصفر فاقع اللون، وزادته دهانات الجدران الصفراء اصفراراً وكآبة، تنعكس على نفسيتك وأنفاسك، فتجعل الهواء الذي تتنفسه كله إحباطاً وبؤساً، تتقلص له الصدور، وتنكمش له الأفئدة والاروح، فتشعر وكأنك عود ثقاب في علبة كبريت.

فجأة وجدتُ نفسي في تلك الغرفة واقفاً، على يساري "مشاري"-الذي عرفني لاحقا على اسمه- وبدا لي من نظرتي الأولى إليه، أنه في نهاية عقده الثالث، ويوحي لباسه الأبيض المنسدل وغترته الحمراء أنه من أبناء محافظة مأرب، وللتو سحب قدميه وأفسح لي المكان بجواره، ودعاني وهو يمسك بمسبحة ثلاثينية بيده للجلوس.

بجواره شاب من نهم يرقد ممدداً على ذمة قضية ثأر، وفي ركبتيه مسامير طبية جعلته غير قادر على القيام، أو تقليص ساقيه، وبجواره في الزاوية شخص مغطى بدثار، عبارة عن قطعة قماش قديمة غطت كامل جسده، وهو نائم على بطنه لا يحرك ساكنا، حتى ظننت أنه مغمى عليه، وعند أقدامه يجلس شاب في العشرين من عمره تقريباً على كرسي خشبي، وتبدو عليه ملامح الفتوة والاعتناء بالنفس.

جلستُ، ووقتها بدأت تنهال علي الأسئلة، من أنت؟ وأين قبضوا عليك؟ وما جريمتك؟ ومن أين أنت؟ وهذه الأسئلة تبدو بديهية لكل شخص جديد يدخل السجن، حاولت أن أبدو طبيعياً متماسكاً قدر الإمكان، لكن جدران المكان المغلقة، وذلك الضوء الأصفر الفاقع، أثار لدي الضيق، ورفع مستوى التوتر حتى آخر علامة، خصوصاً عندما بدأتُ الحديث مع هؤلاء الأشخاص، وأخبروني بقصصهم وفترة بقائهم الطويلة داخل السجن، دون أن يحالوا للجهات المختصة، وكان هذا الحال هو ذاته الذي اتفق عليه كل القابعين في السجن.

وجدتُ نفسي مضطراً للإجابة عن تلك الأسئلة، ولكن كل نزيل يراك لأول مرة، يأتي ويكرر عليك ذات الأسئلة، ذلك الفتى الذي كان على كرسي الخشب بدا لي الشخص الذي اطمأنت نفسي إليه، فطلبتُ منه أن يصحبني لنكتشف تفاصيل المكان كاملة.

اجواء مقفرة وجدران تعبر عن المشاعر

دخلتُ من بوابة تلك الغرفة إلى الغرف الداخلية، والتي كانت عبارة عن غرفة طويلة تسمى بلغة السجن والأمن "العنبر"، كانت طويلة وعريضة إلى حد ما، وفي نهايتها غرفة أخرى مضاءة بذات الضوء الأصفر، وبجوارها مساحة بسيطة عبارة عن حمامات، ليس لها أبواب، وأبوابها ستائر قماشية سوداء، عليها فتحات توحي بتمزقها، وتمتد من أعلى إلى مستوى منتصف الباب، أي أن الشخص الذي سيجلس أمام الحمام يستطيع أن يرى من بالداخل بوضوح.

لا شيء يبعث على الحياة، كلما حولك أجواء تزهق النفس، وتقضي على بقايا الأمل، وتبعث التوتر والانفعال، كيف يمضي هؤلاء يومهم؟ وكيف يمكن أن أقضي ما قدر لي من سجن في هذا المكان؟ هناك تضيع كل الأماني الجميلة، ولحظات الأنس والمودة التي تقضيها منفردا في الخارج أو مع عائلتك وأصدقائك تصبح جزءاً من الماضي السحيق، حتى لحظات الحزن والضيق التي كنت تشعر بها في الخارج، تتمنى أن تعود عليك، وأنت في الخارج، أفضل ألف مرة من لحظات تقضيها في السجن.

هنا الرحمة غادرت المكان، والدولة عبارة عن حاكم يغط في النوم، والعدل والقضاء بعيد عن اهتمامك، وأبعد من أن ينظر إليك، وحده السجان والجلاد من بيده حياتك، ويستطيع ربطك بالعالم الخارجي.

لا مجال للهواء كي يتسلل إليك، فلا توجد نوافذ أو شبابيك، وفتحة السقف التي تبدو كدائرة مغلقة بالزجاج الصلب بالكاد تنعكس منه أشعة الشمس.

أما الجدران فقد بدت عبارة عن سبورة واسعة يفرغ عليها النزلاء المشاعر التي تراودهم، بعبارات ونقوش ورسومات وخطوط وألوان متعددة، تعكس المشاعر التي تختلج بها صدورهم، وتلخص قضاياهم ومطالبهم وتشكو إلى رب الملوك آلام السجن وقهر الظالمين، وقساوة الحياة، وتسجل شهادتهم وذكرياتهم، فهذه عبارة من السجين الفلاني تدعو وزير الداخلية إلى تقوى الله ومخافة دعوة المظلوم، وهناك بيت شعري يصف غربة السجن، وتلك عبارة تتوعد الغريم بالانتقام بعد الخروج، وهناك دعاء بقرب الفرج وتسلية الروح، وكل تلك العبارات إذا تفحصتها وقرأتها تلخص لك المشاعر الإنسانية ومعاني الظلم والتعابير النفسية الدقيقة لهؤلاء النزلاء، والوقوف أمامها يكشف لك لحظات النفس الحقيقية، حين تتجلى وحيدة مهمومة فتفرغ ما بداخلها من أحاسيس في كتابة متعرجة على الجدران، تشرح الأوجاع، وتُشهد الجدران عليها، صحيح أن غالبيتها كُتبت بطريقة إملائية مغلوطة تبعث أحيانا على الضحك، لكن تصل إلى أعماق النفس وجذور الوجدان وتهز المشاعر وتكتسحها، لأنها خرجت من نفوس ذاقت طعم الهوان، وشربت كأس الحرمان، واكتوت بنار الذل والمهانة، وتجرعت مرارة الحسرة والقهر، مرتين، الأولى لأنها مرمية في الداخل بينما غرماؤها في الخارج، والثانية لأنها تكابد أهوال السجن، دون أن تجد للخروج سبيلا.

وتحت ضغط القلق، وحالة الضيق التي انتابتني هرعتُ إلى باب السجن وطرقتُ الباب طالباً الخروج بأي ثمن، وكانت إجابة الشخص الموجود عند البوابة:" اهدأ شكلك أول مرة تسجن.. ارجع لبقعتك أحسن من أن يأخذوك ويدخلوك بين المساجين في العنبر الثاني وكلهم سكارى وقتلة وقطاع طرق.. أو يدخلوك زنزانة انفرادية مظلمة، الصرصور فيها سع هذا -ويبرز يده مفتوحة الأصابع- هنا ما فيش يا أمه ارحميني".

صدمني كلامه قليلاً، ولكنه هون علي الحال الذي أنا عليه، وجعلني أتقبل البقاء في المكان الذي أنا فيه، بدلاً من المبيت في غرفة مظلمة مع الصراصير السجينة، أو الانضمام لقطاع الطرق والقتلة.

عدتُ إلى الداخل، ودعوتُ الجميع للجلوس بجواري كي أطلعهم على قضيتي، وأتعرف على قضاياهم، كانوا حوالي 25 شخصاً أصغرهم في سن العشرين وأكبرهم في السبعينات، وهم من محافظات شتى وفي أشكال ووظائف مختلفة، أدخلتهم الظروف والأقدار إلى نفس المكان، ووحدت مشاعرهم أجواء السجن حتى صاروا كالأخوة والعائلة الواحدة، يختلفون في لهجاتهم ووجوههم الحزينة باختلاف قضاياهم ومشاكلهم، ويتمايزون بأعمارهم المتفاوتة، ويتفقون جميعاً على مرارة السجن وقساوة السجان وغياب القانون وموت العدالة.

سجن غير قانوني

بحسب القانون لا يحق للبحث الجنائي احتجاز شخص أكثر من 24 ساعة، ثم يحال للنيابة المختصة، إلا إذا تقدمت نيابة البحث بطلب تجديد لإبقائه في السجن، ويكون لفترة لا تزيد عن 72 ساعة ثم يحال إلى الجهة القضائية المختصة، لكن في سجن البحث الجنائي هناك نزلاء مضى عليهم الشهر والشهران إلى الستة أشهر دون أن يحالوا إلى أي جهة قضائية.
وكلما لاحظوا في عيوني مشاعر الضيق والرغبة المستميتة في الخروج، يحاولوا مواساتي بالقول إن من دخل هذا السجن فعلى الأقل يقضي عشرة أيام كاملة إذا كان لديه من يتابع قضيته في الخارج.
تذكرت وقتها كل الذين تعرضوا للسجن في حياتهم، أو في نهاية حياتهم، كالنبي يوسف، وصدام حسين، وغاندي، ومانديلا، وسيد قطب، ومرسي، حتى مبارك استحضرته ذاكرتي، وغيرهم من الزعماء والسياسيين والعلماء، أردتُ بذلك إقناع الإنسان الذين يتألم بداخلي بأني لستُ أول من سُجن، وبالتأكيد لن أكون الأخير، لكن كل ذلك التذكار لم يستطع أن يضع حداً لعراك المشاعر والتوتر الذي بداخلي، والذي حركته قساوة السجن، خاصة حين أتذكر أني دخلتُ السجن لقضية كيدية تافهة مدفوعة الثمن، ومن شخص ظل يصول ويجول في الخارج، وأنا أتجرع الحزن وأقتات الهوان.

وكر للانتحار

لم يكن أمامي سوى الاستسلام والقبول بالوضع الجديد، والتهيؤ له نفسياً وروحياً، لأتجنب الوحشة التي تلتف حول روحي، خاصة عندما أخبروني أن أحد الأشخاص انتحر قبل أسبوع من قدومي داخل ذات السجن، شنقاً بعد فترة طويلة قضاها دون أن يلتفت إليه أحد، وتلك نتيجة طبيعة لمن ضعف وازعه الديني، وقذفته الأقدار إلى ذلك المكان، وعاش تلك الحياة الكئيبة، وتجرع تلك الأهوال دون رحمة من القضاء أو استجابة لتوسلاته من إدارة السجن.

بالنسبة له كان ذلك هو الحل الأنسب لأنها حياة وجدت نفسها في نهاية العمر داخل دهاليز سجن مقفر، وسجان لا يرحم، فشنق نفسه في إحدى الزوايا عندما ربط رقبته بقطعة قماش، وقفز في الهواء، ولم يشعر به زملاؤه النزلاء إلا بعد فوات الأوان.
قرر الاحتكام إلى محكمة النفس الداخلية كي تفصل بينه وبين معاناته في السجن، وإدارة السجن، فحكمت عليه بالإعدام، فنفذه باختيار وطواعية واستجابة فورية، معلناً الانتصار على نفسه وسجانيه، ومخلداً قصة وحشية تدعو للاقتصاص من قاتليه، وممن اضطروه إلى ذلك الخيار الحتمي الذي لم يجد له بديلاً.

إنها الوحشية بأنصع صورها، إنها جريمة ترتعد لها الأنفس، وترتعش لها الضمائر، إنها المهانة والاحتقار للآدمية، إنها الإزهاق المتعمد للنفس والاغتيال المدفوع للروح.
تكفي قصة كهذه أن تحرك دولة بكاملها، وحكومة بكل طاقتها وثقلها، ووزارة كوزارة الداخلية كان من المفترض أن ترتجف قطاعاتها أو رجالاتها قليلاً للوقوف أمام هذه الحادثة، بل منظمات حقوق الإنسان المهتمة بما يصل إليها من بلاغات.. جميعهم مرت عليهم دون أن يحرك أحد ساكنا، وما أكثر قصص الانتحار داخل السجون في اليمن، حتى أعضاء مجلس النواب، هم الآخرون في سبات عميق، لم تصل القصة إلى مسامعهم، أو ربما لا يأبه لها أحد منهم كي يقوم على الأقل بتوجيه سؤال للقائمين على تلك السجون لماذا انتحر فلان؟ وما هي ظروف وملابسات انتحاره؟!، أيوجد احتقار للإنسانية كهذه؟.

ذهبتُ إلى المكان الذي انتحر فيه، وشعرت برجفة تهز كياني، وكأن ملك الموت لا يزال حاضراً بانتظار ضحية أخرى تصعد إلى ذات البقعة التي تدلى منها الرجل، ثم عدتُ إلى إحدى الزوايا الفارغة، ودعوتُ الجميع ليتلف حولي ويسمع قصتي وأسمع قصتهم وحكايات سجنهم التي يحتفظون بها.

زر الذهاب إلى الأعلى