في أيّ بلد غير العراق، يكون من المبكر الحديث عن منصب رئيس الجمهورية قبل حسم نتائج الانتخابات التشريعية، وتحديد الكتل الفائزة. لكن التقسيم الطائفي للمناصب الثلاثة، في عراق ما بعد الاحتلال، يقفز على جميع النتائج الدستورية لتلك الانتخابات، ويختصرها بالتوافقات والصفقات أو حتى التدخلات الخارجية.
ثلاثة سيناريوهات عراقية تحدّد هوية الشخص الذي سيعتلي كرسي رئاسة الجمهورية، وجميعها تنتهي عند نتيجة واحدة: التوافق والصفقات بين المكونات الثلاثة، الشيعية، والسنية، والكردية.
ويعتبر الأكراد أنّ منصب رئيس الجمهورية هو حقّ دستوري لهم، معلّلين ذلك بما نص عليه الدستور من أن "العراق دولة اتحادية مؤلفة من العرب والأكراد وأقليات أخرى". وعلى الرغم من أن المنصب الرئاسي لم يحدَّد سلفاً لفئة أو طائفة معينة، لكن وجود شخصية سياسية توافقية، مثل جلال الطالباني، كان كفيلاً بقبول الجميع به رئيساً.
ولولا مرض الطالباني، وإصابته بجلطة دماغية العام الماضي، أخرجته من الواجهة كرئيس "لا بديل عنه للعراق"، لما كان بمقدور أحد إعادة فتح الحديث عن هذا المنصب.
ويشغل الطالباني (79 عاماً)، منذ عام 2006 ولغاية اليوم، منصب رئيس الجمهورية. وعلاقات الرجل جيدة مع دول الخليج وإيران فضلاً عن الولايات المتحدة، كما أنه شخصية محببة لدى العرب السنة والشيعة على حد سواء، إذ يُوصَف بأنه "رجل إطفاء" وحلقة وصل بين المكوّنَيْن، لتقريب وجهات النظر، وحل المشاكل العالقة بينهما. وكان لغيابه القسري، نتيجة وضعه الصحي، أثر كبير في تفاقم المشاكل السياسية في البلاد.
ويسعى الاكراد اليوم إلى الاحتفاظ بمنصب رئيس الجمهورية، على الرغم من أنه منصب فخري أكثر من كونه تنفيذياً. لكن أصوات قادة العرب السنة ارتفعت في الفترة الأخيرة، لتطالب بالمنصب في مقابل منح الأكراد رئاسة البرلمان، من منطلق العمق القومي العربي للعراق.
وينبع الإصرار الكردي على التمسك بالمنصب، من اعتبارات عراقية عامة، وأخرى داخلية خاصة بإقليم كردستان، تتعلق بالمحاصصة الحزبية داخل الاقليم الكردي، بموجب اتفاق نصّ، العام الماضي، على أن يتولى الحزب الديمقراطي منصب رئاسة الإقليم (من خلال مسعود البارزاني)، وحزب "التغيير" منصب رئاسة برلمان الإقليم، في حين يرشح رئيس الجمهورية من التحالف الكردي للأحزاب الثلاثة الرئيسية، على أن يكون من حصة "الاتحاد الوطني الكردستاني"، الذي يتزعمه الطالباني.
ويرى حزب الطالباني أنّ ضياع المنصب سيجعله خاسراً بشكل مضاعف، إذ سيفقد بذلك منصب رئاسة الجمهورية والمناصب المهمة في الإقليم، فضلاً عن الخسارة على الصعيد العراقي العام.
إلا أن "الاتحاد الوطني الكردستاني" لم يستطع حتى الآن إعداد شخصية بديلة للطالباني، إذ إنّ معظم قياداته هم من الشخصيات التي دخلت معارك سياسية حادّة مع حكومتَي نوري المالكي الأولى والثانية في السنوات الماضية، على خلفيات النفط والموازنة الاتحادية وملف حزب العمال الكردستاني، عقب انسحابه من الاراضي التركية الحدودية بناءً على اتفاق مع حكومة رجب طيب أردوغان، ومعارضة بغداد دخولهم الأراضي العراقية، وهو ما اعتبرته قيادات "الاتحاد الوطني" في حينها "حقاً مشروعاً" ينبع من كونهم أكراداً.
على الرغم من ذلك، تتداول الأوساط الكردية أسماء عدة من داخل "الاتحاد الوطني"، من بينها زوجة الطالباني، هيرو خان (65 عاماً)، التي تتولى عملياً مهام زوجها في قيادة الحزب، وبرهم صالح، القيادي الابرز في "الاتحاد الوطني"، وسبق له أن شغل منصب نائب رئيس الحكومة العراقية.
وتبدو هيرو خان صاحبة الحظوظ الأكبر في تولي المنصب، بسبب شعبيتها داخل اقليم كردستان، إذ تُعرف شعبياً ب"الأم هيرو"، وهي تملك خبرة سياسية واسعة في حل المشاكل. آخر تلك المشاكل، التي كان لهيرو الدور الأكبر في حلّها، حادثة مقتل صحافي عراقي في بغداد على يد عناصر من قوات الامن الكردية "البشمركة"، وقد نجحت في حينها في سحب فتيل الأزمة، وتسليم القاتل إلى القضاء في بغداد، فضلاً عن إرسال وفد إلى عشيرة الضحية التي كانت قد أعلنت عن قرار بأخذ الثأر.
مع ذلك، يبقى واضحاً أن رصيد العرب السنّة من القيادات، التي تصلح لتولي منصب الرئاسة، أكبر بكثير من الأكراد.
وبالعودة إلى السيناريوهات المحتملة للمنصب بين المكونات العراقية، سيكون السيناريو الاول المحتمل أن يسعى المالكي، الطامح إلى نيل ولاية ثالثة، إلى استمالة عدد من الكتل العربية السنية الفائزة بالانتخابات، من خلال منحهم رئاسة الجمهورية في مقابل دعمه للبقاء في منصبه. وهذا احتمال صعب نظراً إلى أن إقناع أطراف عربية سنية بذلك، يحتاج إلى وقت طويل، إلا أنه غير مستحيل في خريطة التحالفات السياسية، خصوصاً مع إعلان رئيس البرلمان السابق، محمود المشهداني، أن "منصب رئاسة الجمهورية ليس حكراً على الأكراد، والهوية العربية للعراق تحتم عليه أن يكون له رئيس عربيّ".
لكن سيكون هذا السيناريو معمِّقاً للعزلة الكردية عن العراق، كدولة واحدة، في حال انتقلت الرئاسة الأولى من يد الأكراد من دون موافقتهم.
أما السيناريو الثاني، الأكثر ترجيحاً، فينص على أن يتشكل تحالف سني شيعي بزعامة رئيس "المجلس الأعلى الإسلامي"، عمار الحكيم، وزعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، ومباركة ودعم كرديين لتولي منصب رئاسة الحكومة من قبل "التحالف الشيعي" بعد استبعاد المالكي.
وبحسب هذا السيناريو، يمكن منح منصب رئاسة الجمهورية للسنة العرب، في حين يمنح الاكراد منصب رئاسة البرلمان، مع وزارتين سياديتين هما المالية والخارجية أو النفط، وهو ما نوّه إليه القيادي في "التحالف الكردستاني"، حمة أمين، في حديث مع"العربي الجديد"، مشدداً على أن تلك الوزارات "ستكون كفيلة بأن يكون الأكراد غير مهمشين في التشكيلة الحكومية".
والسيناريو الثالث، غير المستحيل أيضاً، والذي يتكرّر الحديث عنه عند كل استحقاق برلماني وحكومي منذ وصول المالكي إلى رئاسة السلطة التنفيذية، فجوهره أن يتسلّم الأكراد منصب رئيس الجمهورية، وتبقى رئاسة البرلمان للسنة العرب، مع منح هؤلاء ثلاثاً من أصل خمس وزارات سيادية (الخارجية والمالية والنفط والداخلية والدفاع)، وتكون بطبيعة الحال حصة التحالف الشيعي رئاسة الحكومة. وبموجب هذا السيناريو، لن يخرج العرب السنة خاسرين من الاتفاق، على اعتبار أنهم سيحققون بذلك منفعة تغيير الحكومة، والإتيان بشخصية جديدة توافقية لرئاستها.
جميع تلك السيناريوهات غير معزولة عن التأثيرات الإقليمية والدولية، ذلك أن نتائج الانتخابات الحالية، وفق ما يتم تسريبه، ستكرّس حالة الاستقطاب الطائفي والقومي في العراق، بدليل أن الأحزاب العلمانية فشلت في الدخول إلى ساحة المنافسة كرقم صعب حتى الآن، وهو ما يعني استدعاء الاستقطابات الخارجية، التي لن تكون أبداً في مصلحة العراق والعراقيين، ولا في مصلحة سرعة تشكيل الحكومة الجديدة.
سيكون منصب رئيس الجمهورية مادة للمنافسة ثم الاتفاق بين العرب السنة والأكراد، وخصوصاً أن رئاسة الحكومة حُسمت للشيعة، لكن تلك المنافسة لن تكون طويلة، تحديداً على ضوء تسريبات من مكتب رئيس البرلمان، أسامة النجيفي، وصلت إلى "العربي الجديد"، عن أن "السنة مستعدون لأية تفاهمات مع الأكراد والشيعة شرط إزاحة المالكي من الحكم".
ويرى كثُر أنه سيكون صعباً على المالكي "ابتزاز" الأكراد بمنصب رئاسة الجمهورية، كون هؤلاء يمثلون حالياً الورقة الأقوى المرجِّحة داخل قبة البرلمان لتشكيل الحكومة، لذا قد تُترك المسألة للتفاوض بين العرب السنة من جهة، والأكراد من جهة ثانية، في ظل استعداد العرب السنة لتقديم أية تنازلات في مقابل إطاحة المالكي.
غير أن أيّاً من سيناريوهات وتوقعات الوصول إلى قصر "الرحاب" الرئاسي، في وسط بغداد، لن يكون مضموناً في بلد اعتاد قادته على تغيير مواقفهم بين ليلة وضحاها.