في النهار لا ترى إلا مساكنهم، حيث يطبق عليهم العمى مع تمدد أشعة الشمس في الأفق بينما يستعيدون نعمة الإبصار عند الغسق وسكون الليل. تلك وضعية بلدة يمنية تتوارى خلف جبل تلع بمحافظة لحج وتسبح في مستنقع المرض والفقر والنسيان.
إلى الشمال من مدينة الحوطة عاصمة محافظة لحج بنحو 50 كيلومترا توجد بلدة يمنية صغيرة بها نحو 20 منزلا، ضائعة خلف جبلٍ أشمٍ يُدعى تلع يحاصرها الفقر والمرض من كل جانب ويقطنها سكان مكفوفون نهارا لكنهم، للعجب، يبصرون ليلا.
ويعيش سكان تلك البلدة -التي تُدعى "الخشب" وتتبع لمديرية تبن- حياة قاسية ومريرة في بيوت صغيرة من الطين والقش متناثرة ومتباعدة فوق ربوة صخرية، دون كهرباء أو ماء صالح للشرب معتمدين في إدارة معيشتهم على أعمال مضنية تكاد لا تسد جوعهم.
وتبدو البلدة للناظر إليها كأنها بيوت مؤقتة، لكن تاريخها يعود إلى أكثر من أربعين عاما، حسب سكانها البالغ عددهم أكثر من 100 نسمة والذين لم يغادروها طيلة تلك الفترة.
تفاصيل المرض
لكن الأكثر إثارة في هذه القرية أن سكانها يشكون من انتشار ظاهرة العمى التي تبدأ لدى الأطفال بعد شهور من ولادتهم، وهي حالة غريبة يعاني معها الفرد من عدم القدرة على الرؤية في ضوء النهار، ومن بين المصابين بالمرض أطفال ومنهم من أصبح في ريعان الشباب وبينهم نساء وشيوخ.
وتبدأ معاناتهم مع ظهور نقطة بيضاء في كل عين ومن ثم تتوسع مع الأيام لتتحول إلى ما يشبه السحابة البيضاء التي تفقد الشخص القدرة على الرؤية في النهار، بينما يستعيد بصره في الليل.
ودفعت الظاهرة بمحكل عبده صالح (40 عاما) إلى التوقف عن الإنجاب بعدما أصاب هذا المرض جميع أطفاله الأربعة، أكبرهم في الرابعة عشرة من العمر وأصغرهم طفلة لا تزال في بداية ربيعها الثاني.
العمى النهاري أصاب معظم أفراد إحدى العائلات القاطنة في بلدة الخشب (الجزيرة)
ويقول للجزيرة نت إنه قرر بعدما رزق بالطفلة الرابعة التي لحقها المرض بعد شهر من ولادتها التوقف عن إنجاب الأطفال خوفاً من أن يحل بهم ما لحق بإخوتهم.
ويضيف "ليس أمامي شيء أفعله سوى التوقف عن الإنجاب والرضى بقضاء الله وقدره، خصوصا بعدما أخبرني الأطباء بأنه مرض وراثي ولا يوجد أمل في علاجه، مع أني وزوجتي لا نعاني من الإصابة بهذا الداء".
ويلجأ صالح إلى جمع أعواد السواك من شجرة الأراك ويبيعها لإعالة أطفاله المكفوفين، رغم أن صحته لا تساعده على الحركة كثيرا بسبب إعاقته جسديا نتيجة إصايته في الساق، بينما يعتمد بقية المبصرين بالبلدة في معيشتهم على قطع الأشجار وإحراقها وتحويلها إلى فحم إلى جانب رعي الأغنام.
اتساع الظاهرة
ويشير سمير الجبلي -وهو أحد أبناء البلدة- إلى وجود نحو 20 حالة إصابة بالعمى "النهاري" إضافة لحالات أخرى مشابهة قال إنها بدأت تظهر في مناطق وقرى مجاورة.
ويقول للجزيرة نت إن بداية ظهور هذا المرض تعود لنحو ثلاثة عقود، وإن نطاقه كان محدودا لكنه انتشر بين الأطفال حديثي الولادة وبات عدد الناجين منه أقلية في البلدة.
العمى النهاري ضاعف من معاناة سكان القرية الذين يشكون الفقر والإهمال (الجزيرة)
ويشكو العديد من سكان محافظة لحج من انتشار ظاهرة العمي في عدد من المناطق. ويقدر رئيس جمعية المكفوفين فضل محمد سبيت للجزيرة نت عدد حالات الإصابة بالعمى بالمحافظة بأكثر من 700 حالة.
أما عن رأي الأطباء في هذه الظاهرة فهم يعزونها إلى عامل الوراثة الذي يصيب صبغيات شبكة العين المسؤولة عن الرؤية في الضوء الساطع، مما يسبب صعوبة الرؤية في ضوء النهار وتحسن الرؤية في العتمة وانخفاض حدة الإضاءة خاصة في الظل وداخل الأماكن المغلقة.
وقال استشاري أمراض العيون وجراحتها بمكتب الصحة في محافظة لحج الدكتور حسين النفيلي إنه قام بزيارة ميدانية لبلدة الخشب وعاين 11 حالة تعاني من مشكلة في الإبصار ولاحظ وجود علاقة قربى بين كل الحالات المصابة.
وأكد أن نتائج الفحص أثبتت أنهم يعانون من ضعف نظر شديد مع وجود تغير في شكل العصب البصري، وذلك لوجود مرض وراثي في العينين يؤدي إلى اعتلال في صبغيات الشبكية المسؤولة عن الرؤية في النهار أو الضوء الساطع مع عدم تأثر صبغيات الشبكية المسؤولة عن الرؤية في الليل أو الضوء المنخفض.
وأوضح -في حديث للجزيرة نت- أن هذا النوع من الأمراض ينتقل بين الأشخاص وراثيا، مشيرا إلى أن بين المصابين أربعة إخوة.
وأضاف "هذا النوع من الأمراض الوراثية لا يتوفر له علاج نهائي حتى الآن، وكل ما نستطيع تقديمه لهم هو نظاره شمسية بصبغة خاصة تحد من دخول الضوء إلى العين إلا بنسبة 20% فقط مما يسمح لهم بممارسه نشاطهم في ضوء النهار".