استطاعت الحركة الحوثية، بشكل لافت للنظر، خلال السنوات الثلاث الأخيرة منذ انطلاق الثورة الشبابية في 2011، تحقيق توسع وانتشار عسكري، خارج معاقلها الأصلية في محافظة صعده، وصل إلى خمس محافظات شمال اليمن، وأظهرت قدرة عسكرية صلبة بقدرتها على خوض القتال في أكثر من جبهة في وقت واحد.
قد يكون من الصعب الجزم بالمرامي النهائية للمشروع الحوثي وأهدافه الاستراتيجية، وفي أي المسارات سيمضي؛ لكنه يبدو أنه يراوح بين ثلاثة مسارات محتملة: مسار السيطرة العسكرية، ومسار الاندماج المدني، ومسار ثالث يجمع بينهما. تحدد ذلك التجاذبات داخل الحركة ومدى تأثير اللاعبين اليمنيين والإقليميين على توجهاتها.
مقدمة
تُظهر التطورات الأخيرة في اليمن اتجاه القضية الحوثية نحو أبعاد جديدة؛ حيث بات نموها كظاهرة مسلحة يثير قلق العديد من الأطراف، لأنها انتقلت في استخدام قوتها العسكرية من وسيلة للدفاع إلى أداة للتوسع والانتشار، مستفيدة من انشغال الدولة بوضعها الانتقالي، والتحديات السياسية والاقتصادية العميقة التي تواجهها، فاستطاعت الحركة خلال وقت قصير تحقيق تمدد واسع، خارج معاقلها الرئيسية في محافظة صعده، وصل إلى الحزام الاستراتيجي المحيط بالعاصمة صنعاء، فبات الوجود الحوثي بنسب متفاوتة في كل مناطق اليمن.
موازاة مع ذلك، تقدم الحركة الحوثية خطابًا مزدوجًا؛ فهي من ناحية تتبنى خطابًا سياسيًا يعبّر عن رغبة الاندماج في دولة مدنية يحكمها الدستور والقانون وفق مخرجات الحوار الوطني. ومن ناحية أخرى، تتبنى خطابًا دينيًا مذهبيًا كحركة إحيائية جهادية تتبنى قضايا كبرى، مستندة إلى آلة عسكرية نامية تسعى للتوسع كلما وجدت الفرصة متاحة، في مسار يتعارض مع خطابها السياسي ومقتضيات الدولة المدنية.
تبرز نتيجة ذلك عدة علامات استفهام حول دوافع الحركة وراء التوسع العسكري، وحقيقة مشروعها وأهدافه، وإلى أين يمكن أن يصل وسط التأرجح بين المسار العسكري والاندماج المدني، في ظل معطيات البيئة المحيطة، ومواقف بقية الأطراف المحلية والإقليمية والدولية؟
مرامي التوسع العسكري
استطاعت الحركة الحوثية، بشكل لافت للنظر، خلال السنوات الثلاث الأخيرة منذ انطلاق الثورة الشبابية في 2011، تحقيق توسع وانتشار عسكري، خارج معاقلها الأصلية في محافظة صعده، وصل إلى خمس محافظات شمال اليمن، وأظهرت قدرة عسكرية صلبة بقدرتها على خوض القتال في أكثر من جبهة في وقت واحد.
وخلال الشهرين الماضيين فقط، حققت الحركة سلسلة من الانتصارات العسكرية على مناوئيها؛ في كتاف ودماج على السلفيين والقوى القبلية والجهادية المتحالفة معها، أفضت إلى إخراج سلفيي دماج من صعده بموجب اتفاق صلح رعته الدولة. وفي جبهة حاشد، حققت الحركة انتصارات ملموسة على مشايخ آل الأحمر؛ فاستطاعت الوصول إلى مسقط رأسهم في حوث والخمري، وتدمير منزل الشيخ فيها. وبالتوازي، خاضت الحركة حربًا في منطقة أرحب القريبة من العاصمة مع قبائل موالية لحزب الإصلاح الإسلامي، وكذلك في محافظة الجوف القريبة من الحدود السعودية، انتهت بتوقيع اتفاق صلح توسطت فيه الدولة. وفي الأيام الماضية، دخلت الحركة في حرب جديدة في منطقة همدان شمال شرق العاصمة (تبعد عن العاصمة حوالي 12 كيلو مترًا) سيطرت فيها على عدد من القرى، ودمرت عددًا من المنازل ومراكز تحفيظ القرآن الكريم المحسوبة على حزب الإصلاح، وتوقفت بوساطة الدولة. وتجري المناوشات العسكرية الحوثية حاليًا حول مدينة عمران (تبعد عن العاصمة 50 كم تقريبًا)، يحول دون سقوطها مرابطة اللواء (310) فيها، وتجنب الحوثيين الدخول في مواجهة مباشرة مع الجيش.
استفادت الحركة الحوثية في تحقيق انتصاراتها العسكرية الأخيرة، من حالة الضعف التي تمر بها الدولة، وانشغال النظام السياسي بقضايا الوضع الانتقالي، وعملية التغيير السياسي الجارية في البلد، حيث نجحت الحركة خلال الفترة السابقة في تكوين قوة عسكرية احترافية عالية التدريب مزودة بأسلحة ثقيلة، لا تستطيع الأطراف الاجتماعية والسياسية الأخرى مجاراتها فيها؛ فباتت الأقوى في ميزان القوى الداخلي، في حال التزمت الدولة الحياد. بالإضافة إلى تقاطع المصالح بين الرئيس السابق صالح والحركة الحوثية في مواجهة العملية الانتقالية الحالية؛ حيث استفادت الحركة من نفوذ الرئيس صالح السياسي والاجتماعي للنيل من "عدو مشترك". تجلّى ذلك بوضوح في الدور الذي لعبه صالح في تفكيك قبائل حاشد وإلحاق هزيمة بآل الأحمر مشايخ القبيلة، انتقامًا من دورهم المباشر والقوي في إسقاط نظامه، علاوة على التغير الحاصل في السياسة السعودية تجاه الحركة الحوثية في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي؛ حيث تراجع موقعها في قائمة التهديدات السعودية ليحل محلها (في الأولوية) تهديد الإخوان المسلمين كتهديد مباشر له علاقة بالثورات والدمقرطة في المنطقة العربية. ويمكن القول: إن الحوثيين انتهزوا هذه الفرص لتحقيق انتصاراتهم الأخيرة ولإضعاف الإصلاح وحلفائه، القوة اليمنية التي يمكن أن تتصدى لهم.
تحديد الأهداف الحوثية الخاصة من تحركاتها العسكرية الأخيرة محل جدل بين المراقبين؛ فمن جانب يُنظر إلى تقاسم الحركة مع الرئيس السابق هدف إفشال العملية الانتقالية، من خلال تأجيج الفوضى وإرباك المشهد الداخلي عبر إشعال فتيل الحروب في أكثر من منطقة، كمصلحة مشتركة تؤدي إلى إرباك نظام الرئيس هادي منصور الهش، وتفكيك تحالفاته الداخلية لإنهاكه وإسقاطه سياسيًا. كما تتيح الفوضى وإرباك النظام فرصة أكبر للحركة الحوثية لتحقيق مزيد من التوسع والانتشار العسكري. وفي نفس الوقت استخدام الحركة لتوسعها العسكري كورقة ضغط على الرئيس عبد ربه منصور هادي، لانتزاع مكاسب معينة تتعلق بتوسيع حصة الحركة في الحكومة وإعادة النظر في تقسيم الإقليم؛ وتحسين وضعهم التفاوضي، على المدى البعيد، في حال بدأت خطوات جدية لتسوية القضية الحوثية.
ومن منظور استراتيجي أيضًا، من الواضح أن الحركة الحوثية تستهدف أطرافًا داخلية محددة هي في حالة عداء معها، وتعتبرها عوائق أمام توسعها المذهبي والسياسي. وكان قيام الحركة الحوثية في حروبها الأخيرة بتدمير مراكز التحفيظ والمدارس الدينية والمساجد المحسوبة على الإصلاح والسلفيين، دلالة واضحة على ذلك. ويكاد يكون أحد البنود الثابتة في اتفاقيات الصلح التي يعقدها الحوثيون مع القبائل، التأكيد على ضمان حرية انتشار توجهاتهم الفكرية والمذهبية دون عوائق.
ومن وجهة نظر البعض، فإن سعي الحركة الحوثية لبناء قوتها العسكرية، وتحقيق مزيد من التوسع والانتشار العسكري على الأرض، يأتي في الواقع كجزء من استراتيجية متكاملة تسير عليها الحركة بصورة متدرجة هدفها النهائي السيطرة على الأوضاع عسكريًا والتمكين لمشروعها المذهبي والسلالي الخاص غير القابل للاندماج في دولة مدنية.
التأرجح بين الاندماج المدني والسيطرة العسكرية
يكاد يكون تحديد حقيقة المشروع الحوثي، ومراميه النهائية مسألة صعبة، لأن الحركة تطلق إشارات متضاربة، فمن جانب تقدم نفسها في خطابها السياسي على أنها حركة اجتماعية سياسية، مسالمة تعرضت للظلم والإقصاء والتهميش، فلجأت إلى السلاح للدفاع عن نفسها في بيئة معادية، ولديها مشروع مدني اندماجي يقر التعددية ضمن النظام السياسي الجمهوري القائم لكن من جانب آخر تستخدم قوتها العسكرية في التوسع وليس للدفاع وتردد خطابا إحيائيا يستعيد أمجاد فترة الحكم الإمامي. وبالفعل نجحت الحركة خلال الثورة الشبابية 2011، في كسر طوق العزلة السياسية المفروض عليها، وتقديم نفسها كلاعب وشريك سياسي، قادر على المناورة السياسية وعقد التحالفات مع القوى الأخرى في الساحة، فشاركت بفاعلية في مؤتمر الحوار الوطني (ب37 مقعدًا)، وقدمت خطابًا مدنيًا نافست به الأحزاب الليبرالية في المطالبة بالدولة المدنية وسيادة القانون والتداول السلمي للسلطة. وأبدت رغبة الاندماج في دولة مدنية تستوعب الجميع، واستعدادها التخلي عن مشروعها العسكري في إطار تسوية شاملة للقضية، وفق مخرجات الحوار.
ولكن بالتزامن مع خطابها السياسي المدني، كانت الحركة ماضية بخطى ثابتة في تطوير قدراتها العسكرية الذاتية، والحصول على مزيد من الأسلحة المتطورة من الخارج، وتطوير قدراتها على التصنيع الحربي لبعض أنواع الأسلحة في الداخل، واستخدامها لتحقيق مزيد من التوسع العسكري، في وقت تراجعت فيه بصورة ملموسة حدة التهديدات المحيطة بالحركة؛ فالنظام السياسي القائم -على عكس سابقه- متمسك بتسوية القضية وفق مخرجات الحوار، والقوى الداخلية المناوئة للحركة في حالة تراجع وضعف لأسباب إقليمية، مثل تراجع التهديد الحوثي في مدركات المملكة السعودية الأمنية.
تصبح قوة الحركة العسكرية ونزوعها للتوسع مثار قلق أكبر حينما يتم ربطه بخطابها الديني، كحركة إحيائية جهادية تحمل مشروعًا توسعيا -لها أجندة سياسية وطائفية خاصة- يربط الحركة بقضايا كبرى تتجاوز الإطار المحلي، تستهدف إصلاح الأمة وتحريرها من قوى الاستكبار العالمي، عبر تعبئة أعضائها دينيًا وتجنيدهم كمقاتلين في سبيل هذا المشروع، وتأسيس ذلك على مشروعية مرتبطة بالتراث الشيعي كخروج اليماني والمهدي والملاحم الشيعية الكبرى. ومن هذا المشروع تستقي الحركة المشروعية الدينية والأخلاقية للتمدد والانتشار، وحتى ممارسة القتل ضد الآخر المختلف -المصنَّف حسب خطاب الحركة الديني- ضمن الموالين لأعداء الأمة.
ومن جانب آخر تستند الحركة وفق خطابها الديني، على إحياء مظلومية آل البيت وحقهم في الولاية الدينية والسياسية، وأنهم الأجدر بقيادة الأمة وإنهاضها من كبوتها، وتستند بشريًا (في تركيبتها الهيكلية والتنظيمية) على شريحة الهاشميين والمنتمين تقليديًا للزيدية، كدعامة رئيسية للحركة، وهي طبقة اجتماعية (سلالية ومذهبية) كانت حتى وقت قريب هي الحاكم الفعلي لشمال اليمن لما يقارب الألف عام. ويعتبر الحوثيون أن سعيهم لإعادة التمكين لآل البيت جهاد ديني في سبيل الله يؤجرون عليه. والمخاوف ملموسة في الداخل اليمني من أن يؤدي تمكن الحركة الحوثية من السيطرة على الأوضاع إلى إسقاط النظام الجمهوري القائم، وإقامة نسخة محسنة ومطورة من النظام الإمامي (الملكي) السابق.
اتجاهات المستقبل: الحوثيون بين السيطرة والاندماج
قد يكون من الصعب الجزم بالمرامي النهائية للمشروع الحوثي وأهدافه الاستراتيجية، وفي أي المسارات سيمضي؛ فيبدو أنه يراوح بين ثلاثة مسارات محتملة: مسار السيطرة العسكرية، ومسار الاندماج المدني، ومسار ثالث يجمع بينهما. تحدد ذلك التجاذبات داخل الحركة ومدى تأثير اللاعبين اليمنيين والإقليميين على توجهاتها.
السيناريو الأول: السيطرة العسكرية على الأوضاع
يفترض هذا السيناريو أن الحركة ماضية نحو السيطرة العسكرية على الأوضاع، وتغليب مشروعها الخاص، وهو مشروع لا تشترك فيه مع القوى الأخرى، ولا يمكن تحويله إلى واقع سوى بالقوة العسكرية، بسبب طبيعته الفئوية وغير القابل (بنيويًا) للاندماج في دولة تشاركية مدنية، لأنه يقوم على مقولات دينية طائفية وسلالية، غير قابلة للمشاركة في الإطار العام مع القوى الأخرى؛ فالمشروعية السياسية تنحصر في سلالة بعينها، وهو ما يتعارض مع النظام الجمهوري، ومقتضيات الديمقراطية القائمة على المساواة المطلقة بين المواطنين في الحقوق والواجبات.
وطبيعة المشروع الديني للحركة، كمشروع إحيائي جهادي يعبئ أتباعه دينيًا وطائفيًا كمقاتلين من أجل قضايا كبرى تتجاوز الإطار المحلي، تجعل من الصعب احتواءه بالتحول فقط إلى قوة سياسية أو اجتماعية منزوعة السلاح، تنافس بالوسائل السلمية من أجل الحصول على عدد من المقاعد في البرلمان أو الحكومة.
وبسبب الأبعاد الطائفية والسلالية للحركة الحوثية، وإدراك قادتها صعوبة تقديم تنازلات في هذه الجوانب، والتخلي عن المشروع الخاص من أجل مشروع مدني عام يستوعب الجميع على اختلاف مذاهبهم وانتماءاتهم المناطقية (وهو شروط ضروري للتحول إلى حزب سياسي مدني)؛ فهي في هذا السيناريو غير قادرة على التخلي عن مشروعها العسكري، الأداة الرئيسية التي يمكن أن تضمن لها القوة وتحول مشاريعها إلى واقع؛ لذلك ستمضي في بناء قوتها العسكرية، والتوسع والانتشار عسكريًا كلما سنحت لها الفرص. ويصنف، في هذا السياق، خطابها المعلن عن الدولة المدنية وإقامة تحالفات سياسية مع بعض القوى، كخطوات تكتيكية لذر الرماد في العيون.
وتتطلع الحركة وفق هذا السيناريو إلى أنّ تنامي قوتها العسكرية، وسيطرتها على مساحة أوسع من الأرض، سيؤدي بها في النهائية إلى السيطرة على السلطة السياسية في اليمن، وفرض رؤيتها الدينية والسياسية على باقي القوى. ويمكن أن يحدث ذلك على المدى القصير -من وجهة نظر البعض- من خلال التحالف التكتيكي مع شبكة صالح للدخول في مغامرة إسقاط العاصمة عسكريًا وقلب نظام الرئيس هادي في ثورة مضادة شبيهة بما حدث في مصر، قد تدعمها أطراف إقليمية، مستغلة الأوضاع الهشة للدولة، والطبيعة الانتقالية والمفككة للنظام السياسي، لتحقيق سيطرة سريعة على الأوضاع. وكون الحركة الطرف الأكثر قوة ستستطيع لاحقًا التخلص من شريكها المليء بالعيوب والثغرات، وفرض رؤيتها الخاصة للسيطرة الكاملة على السلطة والدولة، أو على المدى المتوسط من خلال تحقيق توسع عسكري تدريجي للسيطرة على الهضبة القبلية الشمالية التي تعد المجال الاستراتيجي للمذهب الزيدي، في تكرار للنموذج التقليدي لسيطرة الأنظمة الإمامية الهاشمية على اليمن خلال السنين السابقة؛ حيث تبدأ شرارة الدعوة من صعدة معقل الزيدية، ثم تتوسع لتسيطر على قبائل الهضبة الشمالية -كمخزون للقوة البشرية- تستخدمه لاحقًا للزحف والسيطرة على مركز الحكم والسلطة في العاصمة وعلى باقي أجزاء الدولة.
وفي الواقع، إن هذا السيناريو على المدى القصير والمتوسط صعب التحقق؛ فقيام أي من الأطراف المتصارعة بمغامرة إسقاط النظام القائم عسكريًا، لن يؤدي إلى سيطرته على الأوضاع، وإنما جرّ البلاد إلى الفوضى والحرب الأهلية، بسبب توازن القوى القائم. وبالتأكيد لن يكون هذا خيارًا مرحبًا به من القوى الدولية والإقليمية الرئيسية الراعية للعملية الانتقالية. ولا يمكن تكرار الثورة المضادة المصرية في اليمن بسبب الطبيعة المختلفة للمجتمع اليمني وتوازن القوى الداخلي.
كما أن افتراض استمرار التوسع العسكري سيضع الحركة الحوثية في مواجهة مباشرة مع الدولة، لأنه يأتي أيضًا على حساب قدرتها على بسط نفوذها ويقضم تدريجيًا من سلطتها؛ فالدولة لا تزال قادرة على إيقاف التوسع الحوثي عسكريًا -في حال أرادت ذلك- وإلحاق هزائم بالحركة خارج تحصيناتهم في جبال صعده الوعرة. وفي حال تقاعست الدولة، لسبب أو لآخر، عن صد التوسع العسكري الحوثي، فمن المتوقع أن يدفع ذلك القوى المجتمعية التي ترى في توسع الحركة عسكريًا خطرًا يهدد بقاءها، إلى عسكرة نفسها وبناء ميليشياتها الخاصة للدفاع عن نفسها ومساحة نفوذها، وسيجرّ ذلك البلاد نحو الفوضى والحرب الأهلية (في تكرار محتمل للنموذج السوري على المدى الطويل)، وهو خيار ليس في مصلحة أحد بما فيهم الحركة الحوثية نفسها.
وحتى لو افترضنا جدلاً أن الحركة الحوثية استطاعت التوسع في الهضبة الشمالية (وهو افتراض محل شك حتى الآن)؛ فإنها غير قادرة على إحكام قبضتها عسكريًا على المناطق الوسطى (الشافعية)، خصوصًا مع تمسك الحركة بمقولات مذهبية مثيرة لعداء أتباع المذاهب السنية؛ فأحد الأسباب الرئيسية التي مكّنت دولة الأئمة الزيدية من حكم اليمن بمكوناته السنية والشيعية لأكثر من ألف عام، وسطية المذهب الزيدي واعتداله تجاه السنة.
وفي كل الأحوال يبدو أن إعادة نسخة جديدة من النظام الإمامي يقوم على اعتبار النسب الهاشمي مصدرًا للشرعية السياسية، غير قابل للتحقق في المدى المنظور بسبب متغيرات البيئة المحلية، وحالة الوعي السائدة. ولا تزال الذاكرة اليمنية حديثة عهد بالخبرات المؤلمة لنظام الحكم الإمامي، والتضحيات الكبيرة لإقامة النظام الجمهوري.
عامل آخر لا يقل أهمية، وهو أن قوى إقليمية ودولية رئيسة، تبدو غير متسامحة حتى الآن مع فكرة السيطرة الحوثية على الأوضاع في اليمن؛ مما يوسع النفوذ الإيراني في منطقة حساسة لمصالحها الاستراتيجية. والإدراك السائد لدى المراقبين، أن الانتصارات الحوثية الأخيرة جاءت نتيجة سماح أطراف محلية وإقليمية ودولية، وسكوت بعضها عن التمدد العسكري الحوثي، بهدف تقليم أظافر حزب الإصلاح الذي تعتقد أنه خرج بعد الثورة الشبابية، أكثر قوة وتماسكًا، مع تراجع وانحلال المؤتمر الشعبي العام (الحزب الحاكم السابق)، وضعف القوى المحلية الأخرى. وترغب في الحد من قوته، والدفع بإيجاد توازن قوى داخلي، لا يسمح لطرف واحد بالسيطرة على القرار السياسي. ومن المتوقع أن تتغير مواقف هذه الأطراف الداعمة أو الصامتة في حال أرادت الحركة الحوثية تجاوز الحدود المسموح بها، لتحقيق التوازن المرغوب.
السيناريو الثاني: الاندماج في دولة مدنية
يفترض هذا السيناريو أن الحركة الحوثية ستتجه لتغليب مشروع الاندماج السياسي المدني، والتخلي عن مشروعها العسكري المثير للجدل، متى توافرت البيئة المحلية الضامنة لها لتتحول إلى قوة سياسية مدنية، تنافس من أجل التوسع والوصول إلى السلطة بالوسائل السلمية.
يدعم هذا السيناريو أن هدف الاندماج في دولة مدنية يتوافق مع المطالب السياسية المعلنة للحركة الحوثية، وأثبت سلوكها السياسي الفعلي في المرحلة الماضية قدرتها على الاندماج وإقامة تحالفات سياسية متجاوزة التخندقات الأيديولوجية المذهبية وخطابها الديني الجهادي. ومن المتوقع أن قطاعًا عريضًا داخل الحركة مع خيار الدولة المدنية في حال تلاشت وتراجعت التهديدات المحيطة بالحركة، وهي بالفعل كذلك. وستستطيع الحركة في ظل دولة مدنية ضامنة لحرية التعدد أن توفر بيئة مواتية كي تنشر أفكارها، دون حاجتها إلى القوة العسكرية. ويقدر البعض أن السلمية ستفرض على الحركة تشذيب خطابها المذهبي العدائي والمثير للصراع تجاه السنة، لتحقيق الانتشار المحلي، والتقارب مع أطراف إقليمية ذات تأثير في الشأن اليمني، يقلقها التماهي بين توجهات الحركة الفكرية والمذهبية والنفوذ الإيراني.
وقد أوجدت مخرجات الحوار الوطني الشامل أرضية مناسبة لتسوية القضية الحوثية أو ما اصطُلح على تسميته: قضية صعده، سواء بخصوص بناء دولة مدنية ضامنة للتعدد وحرية الفكر والاعتقاد، وحيادية الدولة ومؤسساتها عن الصراعات السياسية والمذهبية، أو بخصوص وضع الخطوات العامة لتسوية القضية، كالسير في نزع الأسلحة المتوسطة والثقيلة من جميع الأطراف، بما فيها الحركة الحوثية، وفق آلية محددة وفي وقت متزامن، لتكون الدولة وحدها المحتكر لأدوات القوة، والسيد على كامل أراضيها. ويمكن الاعتماد على مخرجات الحوار للدخول في حوار أضيق مع الحركة الحوثية، يفضي إلى وضع خارطة طريق، مؤطّرة زمنيًا تقوم على التراتبية في الخطوات، تبدأ بالجوانب الأكثر أهمية مع مراعاة القدرات والإمكانيات المتاحة. وقد أبدت الحركة الحوثية استعدادها لتسوية القضية والتخلي عن مشروعها العسكري وفق معالجة شاملة.
ويمثل خيار الاندماج المدني، والتسوية السلمية للمسألة الحوثية مصلحة مشتركة لجميع الأطراف الداخلية والخارجية، لأن البديل عنها هو الفوضى والعنف وتنامي بذور الصراعات الطائفية المسلحة. ويستطيع نظام الرئيس عبد ربه منصور هادي، بدعم الدول العشر الراعية للمبادرة الخليجية، فرض هذا الخيار، وإرغام الأطراف الممانعة على الانصياع، بعد أن أصبحت بيده أداة قوية يستطيع استخدامها للضغط على الحوثيين وبقية القوى للسير في طريق التسوية وبناء الدولة المدنية المنشودة، أو التعرض للعقوبات الدولية بوصفها قوى معوقة للعملية الانتقالية تضعها تحت الفصل السابع حسب قرار مجلس الأمن 2140.
وقد عبّرت الدول العشر في بيان مشترك عن قلقها بشأن التوسع العسكري الحوثي نحو العاصمة، وتنامي لجوء الأطراف المتصارعة (التي وصفها البيان بغير القانونية) إلى القوة كوسيلة لحل النزاعات بدلاً عن الحوار (1). ومن الواضح أن الأطراف الإقليمية والدولية الرئيسية تدعم خيار نزع الأسلحة من الأطراف المحلية، وتحول الحركة الحوثية إلى قوة مدنية تنافس بالوسائل السلمية، ولا تفضّل -كما يبدو حتى الآن- أن يتحول توازن القوى بين الأطراف المحلية خصوصًا بين تياري الإسلام السياسي: السني والشيعي، إلى توازن عسكري، يؤدي إلى خلق بؤر صراعية متفجرة على طول نقاط التماس بين التيارين في طول اليمن وعرضها، فيتقوض السلم والاستقرار الاجتماعي، وقدرة الدولة على بسط سلطتها على أراضيها، فتنشأ بيئة داخلية رخوة لانتشار الأسلحة ونمو الجماعات المتشددة.
السيناريو الثالث: نموذج حزب الله في لبنان
يفترض هذا السيناريو أن الحركة الحوثية تسعى لتحقيق الاندماج السياسي مع الاحتفاظ بمشروعها العسكري في تكرار لنموذج حزب الله في لبنان؛ وهو ما يظهره جزء من سلوكها الحالي، ومحاولتها استخدام قدرتها العسكرية على التوسع كأداة ضغط لتحقيق اختراق للنظام السياسي، وتوسيع حصتها في السلطة؛ فتربط الحركة التخلي عن مشروعها العسكري ببناء هياكل دولة مدنية وسلطة سياسية جديدة، تكون هي جزءًا منها قبل تقديم أية تنازلات فيما يتعلق بنزع سلاحها. ولا توجد ضمانات أنها ستفعل ذلك. ومن وجهة نظر البعض فإن نزع سلاحها بعد أن تصبح جزءًا من السلطة السياسية ومتواجدة في مؤسسات الدولة سيكون أكثر صعوبة، لأنه يمكّن الحركة من فرض نفسها كقوة عسكرية سياسية في نفس الوقت، تقوم بحصد النفوذ السياسي من الثقل العسكري، في تكرار لنموذج حزب الله في الاندماج بالدولة اللبنانية والمشاركة في النظام السياسي مع الاحتفاظ بمشروعه العسكري الخاص، فأمكنه الجمع بين القوة السياسية والعسكرية من فرض نفسه كأمر واقع على الدولة والقوى الأخرى.
هذا السيناريو مرجح في المدى المتوسط لأن الحركة ترغب في الاحتفاظ بسلاحها (لعدم قدرتها على تقديم تنازلات للأسباب البنيوية المذكورة في السيناريو الأول)، ولأن الدولة اليمنية هشة وتواجه صراعات في جبهات عديدة، أو لتأثير قوى إقليمية داخل الحركة، بهدف استعمال الحركة كورقة ضغط على المملكة ومواجهة النفوذ الأميركي.
قد تنجح الحركة الحوثية في تحقيق الاندماج مع الاحتفاظ بمشروعها العسكري الخاص، وتكرار نموذج حزب الله لبعض الوقت، إلا أنه لن يكون قابلاً للاستدامة في البيئة اليمنية، المختلفة في طبيعة التهديدات الخارجية، ومعطيات البيئة المحلية الاجتماعية والسياسية، وموقعها الجغرافي وأهمية الاستقرار فيها للمصالح الإقليمية والدولية. ومضي الحركة الحوثية في الجمع بين القوة السياسية والعسكرية، سيدفع على الأرجح، في حال تحييد الدولة وتعطيل قدرتها على التدخل لضبط الصراع الداخلي، باتجاه عسكرة المجتمع، وسعي أطراف أخرى إلى محاكاة الحركة في الجمع بين السياسي والعسكري، وهو مسار سيفاقم حدة العنف والصراعات الطائفية في المجتمع، وقد ينقل الصراع الطائفي والسياسي إلى داخل الدولة ومؤسساتها، في محاولة كل طرف السيطرة عليها والاستقواء بها ضد الآخر.
وهذا السيناريو بطبيعته انتقالي ومن المتوقع أن يتطور على المدى الطويل إلى أحد السيناريوهين: إما العودة إلى خيار الدولة المدنية، وتخلي جميع الأطراف عن أسلحتها، والسعي لتحقيق اندماج مدني حقيقي، باعتباره الخيار الأمثل لجميع الأطراف، في ظل التوازن المذهبي والاجتماعي القائم، وصعوبة أن يقوم أحد الأطراف بفرض سيطرته الأحادية على البقية. أو السيناريو الآخر: الدفع باتجاه انهيار الدولة بصورة متدرجة، والانزلاق نحو حرب أهلية على أساس طائفي كامتداد لحالة الصراع الطائفي المتنامية في المنطقة والمنتشر من سوريا إلى العراق ولبنان وغيرها، تغذيه أطراف خارجية لها مصلحة في إذكاء صراع إقليمي طائفي ساخن في المنطقة. وقد يفضي في النهاية إلى تقسيم اليمن طائفيًا وجهويًا، والسير في نفس الاتجاه الذي تسير نحوه سوريا اليوم.