في بداية تبنّي جماعة أنصار الله (الحوثيين) الثورة على النظام قبل أشهر بعدما اتخذت من مطلب إسقاط الجرعة السعرية (رفع أسعار المشتقات النفطية) ذريعة لذلك، وانطلاقها بالحسم العسكري في المحافظات اليمنية انقسمت الآراء حيال ما تقوم به الجماعة بين رافض بالمطلق، سواء انطلاقاً من حسابات وتحالفات سياسية وقبلية وعسكرية، وبين مؤيد بالمطلق يحلم بدولة جديدة خالية من القوى التقليدية ومن الظلم والفساد والفقر بعدما دغدغته الشعارات التي تبنتها الجماعة في خطبها في إطار تبرير الأهداف التي دعتها للتصعيد في وجه النظام.
فئة ثالثة اختارت التأييد بغرض التشفي من قوى عسكرية وسياسية وقبلية كانت تتحكم على مدى عقود بحياة اليمنيين. في المقابل فضّلت فئة رابعة الوقوف على الحياد ومراقبة ما ستؤول إليه الأوضاع، انطلاقاً من قناعتها أن قدرتها على التأثير في مشهد يتحول بسرعة ويعاد فيه ترتيب خارطة القوى معدوم، ولا سيما أن الجزء الأكبر من التفاهمات التي أوصلت الحوثيين إلى قلب العاصمة لا تزال غامضة.
وجعلت هذه الفئة حسم موقفها من الأحداث مرهوناً بنتائج المشهد المتشكل حديثاً، فإما تتخذ موقفاً يؤيد الجماعة إذا ما أثبتت الأخيرة أنها جادة في تحويل شعاراتها إلى أفعال وإما تعارضها في حال تبين العكس.
أما الجماعة، فتحت تأثير نشوة النصر الذي أحرزته، أخذت منذ اليوم الأول لسيطرتها على صنعاء تتغول على حياة اليمنيين لتعزز بذلك من الشكوك حول أهدافها وتقدم لخصومها فرصة على طبق من ذهب لإثبات صحة الاتهامات التي وجهت إليها منذ البداية.
انطلقت الجماعة في تصرفاتها من أنها الطرف الأقوى الذي لا يجرؤ أحد على اعتراضه بعدما كان سلاحها كفيلاً ببسط نفوذها في المحافظات الشمالية من صعدة مروراً بعمران ووصولاً إلى صنعاء وامتداداً إلى محافظات يمنية أخرى.
وبينما يثبت الحوثيون في سلوكهم مع اليمنيين أنهم لا يملكون سوى أداة القوة، تبدو الجماعة في الآونة الأخيرة كمن وقع في مستنقع سيغرقها، إذ إن رقعة انتشارها الواسعة وتشعب مهامها، سواء من خلال اللجان الشعبية أو اللجان الثورية وحتى لجان التحكيم، جعلتها تعمد إلى نشر أعداد كبيرة من المسلحين سواء من أنصارها أو من قبل قوى وشخصيات تحالفت معها لضمان استمرار سيطرتها. هكذا لم يعد مستغرباً أن تنتشر شكاوى من تحالف الحوثيين مع متنفذين وفاسدين معروفين ممن يعمدون إلى تصفية حساباتهم مع خصومهم مستفيدين من غطاء الحوثيين وقوتهم. فأًصبحت الجماعة مجرد سيف مسلّط على رقاب اليمنيين تضرب به القوى التي كانت أنصار الله تبشّر اليمنيين أن "الثورة" التي قادتها قامت من أجل التخلص منهم.
وتدفع الجماعة ثمن ما يجري عبر التحول حكماً إلى رهينة بيد هذه القوى، وخصوصاً بعد تكاثر الحوادث وتراجع قدرة أنصار الله على احتوائها إلا متأخرة.
كما تدفع الجماعة ثمن الانتهاكات، التي تترجم نفسها في عملية اعتقال وسجن خارج القانون لمواطنين وتوقيف مسلحيها لصحافيين والتعرض لناشطين، من رصيدها الشعبي وتحديداً في أوساط الفئتين اللتين كانتا تؤيدانها. ليبدأ جزء من المنظّرين للجماعة طوال الفترة الماضية بالانتقال إلى خانة المحذرين لها من مغبة الاستمرار في الانزلاق في هذا المستنقع فيما اختار آخرون الانتقال إلى صفوف المعترضين علناً على أدائها بالتزامن مع تصاعد الأصوات الرافضة لاستمرار تواجد مسلحيها، وتحديداً في صنعاء، على غرار الحراك في جامعة صنعاء الذي أجبرها بعد سلسلة تظاهرات وتجاوزات على الانصياع لمطلب الطلاب وتسليم أمن الجامعة إلى شركة أمن خاص.
وتبدو خيارات الجماعة للخروج من هذا المستنقع محصورة ببناء تحالف سياسي يتيح لها الانتقال من الإطار العسكري إلى الإطار السياسي. وهو ما لا يبدو أن الجماعة تريده في هذه الفترة بعدما أثبتت أنها ليست أكثر من نسخة أشد بطشاً وأكثر سوءاً من القوى السياسية والعسكرية والقبلية التي كانت تنتقدها في ظل استمرارها في تقويض ما بقي من سلطة الدولة المتآكلة وتحديداً نهب المعسكرات، بينما تبدي الجماعة حرصاً على إيصال رسائل طمأنة للدول الغربية، ولو غير مباشرة، عبر مشاركات علنية لممثلين عنها في مؤتمرات حول اليمن في الخارج، على غرار الولايات المتحدة وألمانيا.
ومما يساهم في تعقيد حدوث عملية التحول السياسي للجماعة شبه انعدام الخيارات في ظل مشهد التحالفات الحالي في البلاد، إن لجهة عدم قدرة الجماعة على إعلان تحالف واضح وصريح مع المؤتمر الشعبي العام برئاسة علي عبد الله صالح المتهمة بالتواطؤ معه سراً لإسقاط العاصمة، أو لجهة التحالف مع تكتل أحزاب اللقاء المشترك الذي يعد حزبا التجمع اليمني للإصلاح والحزب الاشتراكي أبرز مكوناته.
كما أنه من غير المتوقع بلورة أي حراك من هذا القبيل إلا بعد إعادة تحريك الحياة السياسية وتحديداً الانتخابية المؤجلة، نتيجة استمرار المرحلة الانتقالية الغير المحددة بمهلة زمنية. وهو ما يتطلب الإسراع في إعلان انتهاء المرحلة الانتقالية.
* صحفية لبنانية خبيرة بالشأن اليمني