arpo28

عسل اليمن.. سمعة عالمية يلطخها الغش

لم يكن أمام الحاجة الخمسينية فاطمة، سوى احتساب أمرها عند الله، مرددةً: "حسبي الله ونعم الوكيل"، بعد أن أخبرها مبروك سالمين، وهو أقدم تاجر عسل في سوق القطن في محافظة حضرموت، جنوبي اليمن، بأنها خدعت في سبعة كيلوجرامات من العسل اشترتها من النوع المخلوط على أنه من الصنف الأصيل.

سالمين، أوضح لـ"العربي الجديد" والحاجة فاطمة، أن قيمة ما اشترته لا تتجاوز ربع ما دفعت من ثمن 30 ألف ريال يمني (150 دولاراً أميركياً). حاول سالمين، التخفيف من صدمة المرأة قائلاً: "كل يوم يأتي عشرات الأشخاص يشتكون من عسل مغشوش، أخاف انهيار سمعة سوق القطن أكبر سوق تصدير للعسل على مستوى الوطن العربي".

يتابع سالمين، الذي قضى 60 عاماً من عمره يعمل عسّالاً "تحول بيع وشراء العسل في اليمن من تجارة إلى مهنة خداع مربحة، يمارسها بعض ضعفاء النفوس".

ضعفاء النفوس الذين يقصدهم العم مبروك سالمين، لا يبتعدون سوى متر واحد عن باب محله الذي يبيع فيه العسل، كما وثّق كاتب التحقيق في جولة في السوق.

"تحديداً منذ عام 2008 بدأ الناس يتفننون في بيع العسل المغشوش" بحسب عبد الله بامؤمن، وهو واحد من أقدم النحالين في حضرموت. ويؤكد بامؤمن، لـ"العربي الجديد"، أن "أكثر ما شجع الغشاشين على ذلك هو تسلل أنواع العسل المستورد إلى السوق اليمنية من بينها العسل الباكستاني والكشميري والتركي، ومن هنا بدأت الثقة تهتز بين البائع والمشتري وارتبك السوق اليمني بالخارجي، والأصلي بالمغشوش".

تكثر طرق إنتاج العسل المغشوش، كما تتعدد خصائص ودرجات أنواع العسل اليمني، وبعد أن كان عبدالله بارشيد (تاجر عسل) يبيع الكيلوجرام الواحد من "السدر" بـ21450 ريالا يمنيا (مائة دولار) أصبح بالإمكان الحصول على جالون كامل مغشوشاً وزن سبعة كيلوجرامات بنفس القيمة، يقول عبد الله، إن ذلك "يجعله يشعر بالإحباط والقهر".

أساليب الغش

أهم الطرق التي يتم بها إنتاج العسل المغشوش، تتمثل في عملية خلط أنواع من العسل المستورد مع النوع اليمني الطبيعي، يروي بعض من النحالين في شارع القطن لـ"العربي الجديد" الطريقة. من يريد الغش يقوم بشراء جالون سبعة كيلوجرامات من أجود أنواع العسل اليمني "السدر"، ويتم في المقابل شراء أربعة جالونات من العسل المستورد الكشميري أو التركي، ويتم توزيع الجالون اليمني إلى أربعة أقسام متساوية بعد أن يتم تنقيص الربع من وزن كل جالون مستورد.

عملية الخلط لا تستغرق كثيراً، يقوم بعدها العسّال الغشاش بإضافة ثلاثة أرباع من الكشميري أولاً، ثم الربع من "السدر" اليمني، وتتم العملية بطريقة بدائية من خلال تبديل أوعية الجالونات البيضاء المصنوعة من البلاستيك التي يستخدمها بقية النحالين اليمنيين ويخرج الجميع بها إلى السوق للمنافسة ومن يريد الشراء، منهم فعليه أخذ عينة من الطبقة العليا في بداية الجالون وفحصها كما يريد.

إضافة إلى عملية الغش عن طريق الخلط، يقول بائع العسل سالم بازهير (50 عاماً) إن "عدداً من النحالين يستخدمون السكر لإطعام النحل، وهذه الطريقة تعتبر أكثر تعقيداً من الأولى، من حيث صعوبة التمييز، ويكون التفريق صعبا بين درجات وأصناف العسل بحسب المناطق التي يتغذى فيها النحل، خصوصاً على من يريد معرفة درجة نقاوة السدر من النوع الملكي الذي طالته تدابير الغشاشين أخيراً".

طريقة أخرى ثالثة تستخدم في الغش، إذ يقوم بعضهم ببيع نوع جديد اقتحم السوق اليمنية ويطلق عليه "العسل البشاوري". يقول صاحب محل في سوق القطن إن هذا النوع من غير النحل واقرب إلى التصنيع الكيمائي لكن يتم بيعه باعتباره عسل مراعٍ، تتباين قيمة الجالون الواحد منه ما بين 32 ألف ريال يمني إلى 43 ألف ريال يمني (150 - 200 دولار) ويشتري هذا النوع الكثير من الناس الذين ليس لديهم خبرة بالعسل.

4 طرق لكشف المغشوش

من السهل جداً أن يصبح جميع أبناء محافظة حضرموت الشهيرة بالعسل تجاراً فيه، لكن من الصعب للغاية عندما تجلس مع أكبر التجار أن تتعلم منه كيف يمكنك النجاة من خديعة شراء المغشوش. "الخبراء يقعون في الفخ" يقول ضافر (تاجر عسل) متابعاً لـ"العربي الجديد"، إنه رغم أني أعمل منذ 20 سنة في بيع وشراء العسل، لكنني أحيانا اكتشف أني خدعت".

أهل حضرموت يعرفون منصور محسن، وهو من عائلة "باتيس" أقدم أسرة في حضرموت لها علاقة وثيقة بخلايا النحل وتجارة العسل، لذلك يملك خبرة كافية بمعرفة الوسائل التي يمكن لمن يريد شراء العسل من خلالها التمييز بين أنواع العسل المغشوش والأصلي.

يقول محسن، لـ"العربي الجديد"، إن عملاءه يأتون من أجل شراء العسل من منزله، إذ وفرت شهرته عليه الخروج إلى السوق، ويلخص أربع وسائل مختلفة، يستخدمها للتفريق بين المغشوش والسليم.

يتابع باتيس: كيف أصف طعم العسل الجيد لمن لا يعرف شجرة السدر؟ من خلال عينة كان يقلبها منصور بهدف مقارنة نتائج فحصها مع عينة أخرى من العسل الذي تغذى على السكر، تم الحصول على العينة من بائع متجول في سوق القطن. خلص منصور، إلى نتيجة أن عسل المراعي (مكون من غذاء النحل على السكر) برزت فيه طعم الحلاوة بعكس العسل الجيد (السدر) الذي يتميز بطعم خال من الحلاوة.

وعن طريقة اللمس كوسيلة ثانية يتم معرفة المغشوش بها إذ إن السدر يكون ملمسه لزجاً وتبقى آثاره ملتصقة على اليد، بعكس المخلوط الذي لاحظنا أنه أملس.

اللون هو الخاصية الثالثة، التي يتم عبرها كشف المغشوش، العينة التي كانت بحوزة منصور باتيس من نوع "السدر"، أجود أنواع العسل، ويصل قيمة الجالون الواحد منه إلى 161 ألف ريال يمني (750 دولارا أميركيا) ولونه أقرب إلى لون بني أحمر، ولا يتغير حتى لو بقي عاماً كاملاً، بينما المغشوش يتغير لونه نتيجة الخلط بعد أقل من شهر، وتظهر فيه خطوط لونية مصفرّة، ويكون لونه أقرب إلى الأحمر.

إضافة إلى التمييز عن طريق الطعم واللمس واللون، يمكن أيضا استخدام الرائحة، يقول باتيس، إنه "يجب على من يريد شراء السدر أن يكون لديه خلفية حول رائحة أشجار السدر".

لكن كل هذه الوسائل البدائية في النهاية تبقى محصورة عند الخبراء العارفين بالعسل فقط، فما هو الحل؟!

نتائج فحوصات المختبر

بعد عودة كاتب التحقيق من حضرموت، تمكن بصعوبة من التنسيق مع إدارة هيئة المواصفات والمقاييس اليمنية بالاستعانة بالمختبر المركزي التابع لوزارة الصحة اليمنية، إذ قام بأخذ عينات عشوائية لصنفين مختلفين من أحد محلات بيع العسل في صنعاء، وأثبتت نتائج فحوصات المختبر أن نسبة السكريات المختزلة في عينة العسل الأولى نسبتها 74.71 في المائة، والعينة الأخرى نسبتها 48 في المائة، وكذلك نسبة السكروز في العينة الأولى 8.7 في المائة، ويقابلها 19.96 في المائة بالعينة الثانية، أما فحوصات هيدروكسيد ميثل فرفورال (فترة التخزين) بالنسبة للعينة الأولى فكانت 50 في المائة، وأكبر منها في العينة الثانية بنسبة 65.14 في المائة وفحص إنزيم الدياستيز (إنزيم يوجد في النحل يعطي مؤشرا حول العسل ومدى نقائه) والأخير كانت نسبته في العينة الأولى 20 شاد (وحدة قياس إنزيم الدياستيز) وأقل منها في العينة الثانية (2.2 شاد).

يتضح من خلال النتائج بالنسبة للعينة الأولى أن العسل يقع ضمن الحدود المسموح بها والتي حددتها هيئة المواصفات فيما تجاوزت نتائج العينة الثانية النسب المسموح بها للعسل الطبيعي والتي حددها مسؤول المختبر في الهيئة لـ"العربي الجديد"، متابعاً أن "نسبة السكريات المختزلة يجب أن لا تقل عن 60 - 65 في المائة، والسكروز لا تزيد على 5 - 10 في المائة، ومثلها لا تزيد (فترة التخزين) على bmm 60 ونسبة إنزيم الديستايز لا تقل عن 3 - 8 شاد.

لعل نتائج العينة الثانية هي التي دفعت اختصاصية المختبر، عهد، وهي تكتب أرقام الفحص، إلى التساؤل عن المسؤول عن توقيف ضعفاء النفوس؟ أما ناظم، وهو مسؤول قسم المياه والأغذية في المختبرات المركزية فأكد لـ"العربي الجديد" أن هذه المواصفات المحددة هي أصلاً وفقاً للمواصفات العُمانية والخليجية. ويعتبر ناظم، مسألة الكشف عن العسل المغشوش كرامة، خصوصاً لمن لديه خبرة، وأن "هذه الفحوصات لا تضر ولا تنفع، ولا يمكن من خلالها تحديد نوع العسل".

الأمانة رأس المال

"نشتري من ناس معروفين ونتعامل بالثقة"، هكذا قال محمد البعداني، وهو صاحب محل عسل في صنعاء عن طريقة شرائه العسل، وأضاف لـ"العربي الجديد"، أنه "إذا اضطررنا إلى الشراء من شخص مجهول، فإننا نبحث عمن يزكيه، ويؤكد لنا أن نحله لا يُغذى بالسكر".

ووفقاً لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء التي يوثقها "العربي الجديد"، فإن إنتاج اليمن من العسل خلال السنوات الأخيرة، وصل إلى خمسة آلاف طن في السنة بقيمة 13 مليار ريال (80 مليون دولار) أي أن قيمة الطن الواحد من العسل تعادل 16 ألف دولار أميركي.

مصدر في وزارة الزراعة اليمنية، كشف لـ"العربي الجديد"، أن قيمة ما صدرته الجمهورية اليمنية من العسل فقط، من دون منتجاته الأخرى، خلال الربع الأخير من العام المنصرم وصل إلى 13.6 مليون دولار، أي قرابة 20 في المائة من دخل اليمن من العائدات النفطية، والتي تقدر في نفس الفترة بحسب جهاز الإحصاء بـ255.34 مليون دولار، تستحوذ السوق الخليجية وحدها سنوياً على صادرات بقيمة 13 مليون دولار، يذهب النصيب الأكبر منها إلى المملكة العربية السعودية بحسب المصدر.

إهمال الحكومة اليمنية

الدور الرسمي في مكافحة ظاهرة بيع العسل المغشوش ليس من أولويات وزارة الصناعة اليمنية، التي صادفنا اثنين من مسلحي جماعة "أنصار الله" (الحوثيين) أمام بوابتها الرئيسة، قبل أن نواجه أحد المسؤولين، الذي رفض ذكر اسمه، داخل الوزارة الذي اكتفى بالتأكيد أنه "من يسمح باستيراد العسل من دون رقيب أو عتيد، لا يجب أن يُتوقع منه أن يخاف ويحرص على سمعة العسل اليمني العالمية المهددة بالانهيار".

كل الجهات المعنية الأخرى لا دور يذكر لها، حتى لحظة كتابة التحقيق، وزارة الزراعة تحدثت أن لديها مشاريع تطوير وإنتاج العسل، بالتعاون مع صندوق الفرص الاقتصادية اليمني ومثلها كذلك هيئة المواصفات والمقاييس اليمنية.

في المقابل، يرجع رئيس "الجمعية اليمنية لحماية المستهلك"، فضل منصور، المشكلة إلى النحالين أنفسهم، لأنهم "لم يفكروا بالحد من ظاهرة الغش من وضع علامات جودة لمنتجات كل منطقة يتم إنتاج العسل فيها".

ويرى منصور، أنه بالإمكان الحد من عمليات الغش عن طريق منع استيراد العسل الخارجي بعبوات كبيرة (براميل) و"يتم السماح باستيراده فقط بعبوات صغيرة، لا تزيد على كيلوجرام للعبوة الواحدة".

تبدو مسألة اكتشاف العسل المغشوش ومنع غش النوع اليمني الفاخر صعبة وبالغة التعقيد، لكن من يريدون العسل الجيد عليهم التعامل بحذر، فيما تبقى المهمة الأعقد من نصيب وزارة الصناعة اليمنية التي طالبها منصور، بتشكيل جمعيات خاصة بالنحالين ومنتجي العسل في كل منطقة من مناطق الإنتاج، ووضع علامات تجارية وعلامات جودة على عبوات العسل اليمني للحفاظ على مصدر هام للدخل القومي.

زر الذهاب إلى الأعلى