تسبب النزوح المتزايد لأغلب سكان أكبر المدن اليمنية وتوجههم إلى الأرياف وقراهم الأصلية، في تنامي الحركة السكانية والاقتصادية بالقرى والأرياف التي ينتسب إليها الغالبية العظمى من سكان صنعاء وتعز (وسط) وعدن (جنوب).
ولأن الأرياف اليمنية تعتمد على كم محدد من مخزون المواد الغذائية والمحروقات والمياه يتناسب مع عدد السكان، فإن الكثافة الناتجة عن النزوح سببت أزمة حادة على مختلف الأصعدة في الأرياف وبعض المحافظات التي تعيش هدوءاً نسبياً لبعدها عن مواقع القصف والمواجهات المسلحة.
ومع انتقال العائلات من العاصمة صنعاء إلى كل من محافظة حجة والمحويت (غرباً)، زادت أسعار إيجارات المنازل في هذه المحافظات رغم تدنيها في الظروف العادية مقارنة بإيجارات المساكن في المدن الكبرى.
عبدالملك فتح الله، أحد من نزحوا من صنعاء إلى محافظة المحويت مع بداية عاصفة الحزم في نهاية مارس/آذار الماضي، يؤكد لـ"العربي الجديد" أنه اضطر إلى استئجار منزل في مدينة المحويت بإيجار قدره 20 ألف ريال يمني (أقل من مائة دولار) مقابل السكن في ثلاث غرف ومطبخ وحمام واحد. لكنه يشكو قيام صاحب المنزل بفرض مبلغ عشرة آلاف ريال يمني اضافية بعدما زادت قيمة إيجارات المنازل في المنطقة بسبب النزوح المستمر.
ويقول: "حتى الآن ما زلت أفاوض صاحب المنزل، لكنه مصر على أن يرفع مبلغ الايجار مع أني لا أستطيع دفع هذا المبلغ شهرياً". مشيراً إلى أنه سيضطر للخروج من المنزل نهاية الشهر الحالي ليلتحق بأحد المخيمات أو المدارس التي خُصصت لتسكين النازحين القادمين من صنعاء.
وفي محافظة حجة، تعلو أصوات المواطنين احتجاجاً على عدم توفّر غاز الطهو المنزلي في أسواق المحافظة ومناطقها الريفية. يقول أحمد المحبشي وهو صاحب محل بيع الغاز: "لدي كم محدود من اسطوانات الغاز، وهو بالقدر الذي يحتاجه أهل القرية، لكن توافد النازحين إليها سبب عجزاً وجعلها تنفد في فترة وجيزة". مشيراً إلى أن شركة الغاز منذ بدء "عاصفة الحزم" لم تزود المنطقة باحتياجاتها من الغاز المنزلي.
ويضيف المحبشي لـ"العربي الجديد"، "يأتي كثير من أهالي القرية بحثاً عن الغاز، وعندما يعجزون في توفيره، لا يخفون تذمرهم من الحرب التي كانت سبباً في توافد النازحين إلى المناطق الريفية، مسبباً أزمة خانقة في كثير من السلع والخدمات".
إلى ذلك، وفي ظل الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي والذي سبب انقطاع المياه عن كثير من المنازل، تزايدت أعداد النساء والأطفال الذين يقصدون الآبار والعيون المائية في المناطق الريفية بهدف جلب الماء، وهو الأمر الذي سبب في حدوث نزاعات بين الأهالي على المياه في بعض الأرياف اليمنية.
مع ذلك، ثمة من استفاد من وراء ازدياد أعداد النازحين في المناطق الريفية. عبد الولي الضبيبي صاحب متجر صغير في محافظة ريمة (جنوب غرب) يؤكد أن النازحين مصدر رزق وفير.
ويقول لـ"العربي الجديد": "تحركت عملية البيع والشراء كثيراً، وأصبحت مؤخراً أشتري بضاعة بكميات أكبر بعد تزايد الطلبات عليها من قبل النازحين". مشيراً إلى أن الأرياف هذه الأيام تحولت إلى ما يشبه المدن.
وفي السياق، يفسّر أستاذ السكان والتنمية في جامعة صنعاء عبدالملك الضرعي هذه الحالة المجتمعية النادرة الحدوث بقوله، إن الهجرة من الأرياف إلى المدن الرئيسة والثانوية في اليمن مثلت "إحدى سمات الربع الأخير من القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين"، مرجعاً أسباب ذلك إلى "نقص الموارد الطبيعية وعلى وجه الخصوص المياه والحيازات الزراعية وتدني مستوى الخدمات الاجتماعية في الأرياف".
وأوضح الضرعي لـ"العربي الجديد" أن موجة النزوح من المدن إلى المناطق الريفية التي تعاني في الأصل من عجز حاد في توفير الاحتياجات المعيشية للسكان، ستتسبب في تفاقم الأوضاع الإنسانية في هذه المناطق. مشيراً إلى أن "الطلب على الموارد الطبيعية والسلع والخدمات في المناطق الريفية سيتضاعف".
وحذّر من خطورة "شح المشتقات النفطية التي تساعد على استخراج المياه من الآبار، وصعوبة إيصال المواد الغذائية إلى المناطق الريفية خاصة في المناطق الجبلية شديدة الوعورة". لافتاً إلى أن محدودية المواد الغذائية في الأرياف وزيادة الطلب عليها ستزيد من أسعارها وهذا ما يسبب عجز الأسر الفقيرة في الأرياف عن شراء احتياجاتها.
وأكد أن سكان المناطق الريفية سيعانون من "مشكلات مركبة نتيجة المأزق السياسي والأمني في اليمن بالإضافة إلى أعباء النازحين، الأمر الذي يقود بعض المناطق الريفية إلى صراعات محلية أساسها اقتصادي". مشيراً إلى أن حالة القبول بنازحي المدن كضيوف لن تطول كثيراً، كون طول الفترة الزمنية ومحدودية الموارد ستؤدي لتفكك الحواجز الاجتماعية التي لازالت موجودة حتى اليوم، بحسب قوله.
ويرى متابعون ضرورة قيام المنظمات الإغاثية بتنفيذ برامج موجهة للمناطق الريفية حتى لا تتحول الأرياف إلى بؤر صراع جديدة نتيجة شح الموارد الغذائية وازدياد عدد السكان فيها بسبب النزوح المستمر.