دراسات وبحوث

الخيوط المنسية: اليمن وثلاثون عاماً من حكم علي عبدالله صالح

يتفرد موقع "نشوان" بنشر كتاب الخيوط المنسية في حلقات لأول مرة على الإنترنت.
الكتاب: الخيوط المنسية: اليمن وثلاثون عاماً من حكم علي عبدالله صالح
الكاتب: عادل علي نعمان الأحمدي
التقديم: بقلم نصر طه مصطفى

صادر عن مركز نشوان الحميري للدراسات والنشر. 2008

التقديم
اضغط هنا

المقدمة:

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله..
ثلاثون عاماً على تولي الرئيس علي عبدالله صالح الحكم.. بدت المناسبة مغرية لي لإنجاز كتاب رجوت من خلاله أن يمثل إضافة جديدة باعتباره يحمل وجهة نظر مواطن يمني نشأ ترعرع في عهد الرئيس علي عبدالله صالح.
وفي هذا الكتاب لم أحاول التوثيق الدقيق لأحداث وتحولات هذا العهد بقدر ما حرصت على أن أضعه في سياقه الزمني الطبيعي. محاولاً في البداية إعادة النظر في معايير التقييم وسائد التصورات، ذلك أن ثمة خللاً منهجياً فادحاً أصبح يعتور ساحة التصورات وطرائق التقييم إلى أن انخرط الجميع في غمرة التفاعل اليومي مع مستجدات الأحداث دون أن يحاول أحد الإمساك بتلابيب الصورة كاملة. وهذا باعتقادي هو ما سُنح لي من خلال خوض تجربة التأليف في هذا الكتاب الذي آمل أن يمثل شيئاً ذا قيمة لدى القارئ الكريم..
وحسبي أنني حاولت وبذلت ما في وسعي وأن مقصودي من هذه المحاولة خدمة الحقيقة والإسهام في توسيع دوائر الرؤية، ووضع ما أمكن من النقاط على ما أمكن من الحروف. ذلك أنني أشعر بضبابية كثيفة في الرؤية لدى الكثير من الكتابات والتقييمات الراهنة، واختلال فادح في المعايير مع غياب مشين لكثير من "الخيوط" اللازمة للوصول إلى تشخيص واقعي للأوضاع الراهنة والإمساك بتلابيب اللحظة اليمنية النافرة.
أشكر كل من ساعدني في إنجاز هذا الكتاب.. بدءاً بوالديّ العزيزين، حفظهما الله، اللذين ربياني وعلماني وأرشداني إلى معالي الأمور.. كما أتقدم بالشكر الجزيل إلى شريكة العمر التي هيأت لي ظروف التأليف المناسبة وصبرت علي وأمدتني بكثير من المحفزات والشكر موصول إلى كافة الأهل وفي مقدمتهم أم عمار ، وأم بشار ، وأم صادق، وأم ضياء والأخ زين العابدين، كما أشكر أبنائي على كل الدقائق التي فوتوها عليّ أثناء التأليف، ولعل الشكر الأكبر أقدمه لأخي رياض الأحمدي المهندس والمبدع الذي لم يقتصر إسهامه على التكفل بكافة اللمسات الفنية بل كان ملهماً لي بالكثير من الأفكار، ولقد عاش مع الكتاب لحظة بلحظة وطوراً بطور. كذلك أشكر صديقي الأستاذ أنيس ياسين رفيق الدراسة والسياسة وليالي التأليف. كما لن أنسى أن أتقدم بالشكر والعرفان لأستاذي الكبير نصر طه مصطفى الذي وقف إلى جانبي مؤزراً ومسانداً، وتكرم بهذا التقديم السخي الذي أعده وساماً على صدر الكاتب والكتاب. ولله تع إلى الحمد من قبل ومن بعد، له المنة وله الفضل وله الثناء الحسن.
عادل الأحمدي
صنعاء 20يوليو 2008م.

مدخل:

اقتضى تكاثر بني البشر وتعدد قدراتهم واحتياجاتهم: اجتماعهم، واقتضى اجتماعهم: اختلافهم وفقاً لتباين مصالحهم وأفهامهم وثقافتهم. واقتضى الاختلاف وجود حكَم من بينهم يستطيع المواءمة بين الفرقاء ويجنبهم الصراع ويفرض قراره فيما اختلفوا فيه بما يمتلكه من شوكة وقوة شخصية وإجماع مسبق. وبالتالي يتوجب عليهم الطاعة والنصيحة ويتوجب عليه العدل والاستشارة. ذلك أن للصواب وجوهاً قد تغيب عليهم أو عليه.
من هنا فإن قوة أية دولة تكون بقدر فَهْم أهلها ونخبها للحدود الفاصلة بين حقوق وواجبات الحاكم تجاه الشعب وحقوق وواجبات الشعب تجاه الحاكم.. وعلى قدر انسجام واكتمال هذا الفهم تكون مسيرة البلد نحو القوة ثم القوة الإقليمية ثم المشروع العالمي في حال اضطراد التماسك ووجود مشروع تعبوي جذاب؛ يقوي اصطفاف الداخل ويستغل أوضاع الخارج.
والقصة في كل الأحوال مسألة سيطرة وحصد مصالح، وعلى قدر خيرية و"سننية" المشروع التعبوي الملهِم لمشروع الدولة (سواء كان ديناً سماوياً أو نظرية فكرية أو حاصل مزج بينهما) وكذا على قدر دأب المجموع الصاعد بحكامه ومحكوميه تستمر فترة التمكين، والعكس صحيح.

مواصفات الحاكم

وفقاً لما سبق يبدو أن الرؤية ليست واضحة عند حكام اليوم ومحكوميهم في وطننا العربي فيما يتعلق بالحدود الفاصلة بين حقوق وواجبات كل طرف. وإنه لمن البدهي والمفترض ألا يلغي وجود الحاكم دور المحكومين في الإسهام في تسيير دفة الأمر؛ إذ في تقديري، أنه يكفي أن يتمتع الحاكم بمواصفات أساسية هي أساس كونه يستحق بجدارة الجلوس على مقعد الحكم، تتمثل في قوة الشخصية التي يفرض بها رأيه عند اختلاف المحكومين، وكذا عدم انحيازه لطرف دون آخر، وهو ما يسمى بالعدل، (وإلا لكان بدون العدل طرفاً من هذه الأطراف المختلفه وليس حكماً بينها). ولكي يسري حكمه على الجميع؛ ينبغي أن الجميع هؤلاء، أو معظمهم، قد ارتضوا به حكماً بينهم، وبالتالي فهم ملزمون بما سوف يصدر عنه من قرارات حتى وإن لم تعجب البعض منهم.
أقول: يكفي في الحاكم قوة الشخصية ووجود مؤسسات إلى جانبه ذات خبرة وشوكة تعينه على نفاذ أوامره وتجمع له البيانات اللازمة، وتبصره بأهل القدرات وذوي الجاهزيات في المجتمع ليضع كلاً منهم في مكانه المستحق خدمة للصالح العام، كما تزوده بالخطط اللازمة وفق سُلَّم الأولويات. وبالتالي فإن الحاكم الناجح هو الذي يكون عنده فراسة بالرجال، فلا تنطلي عليه أساليب التحايل، وكذلك يكون انحيازه إلى الحق والمصلحة العامة أكثر من انحيازه إلى شخصه، حتى لا يتسلق المبطلون إليه عن طريق امتداحه، ولن تتوفر له هذه الخاصية الأخيرة ما لم يُظهر له الجميع توقيراً واحترماً يليق بمكانته، لا يضطر بعده إلى امتداح من أحد يحفظ به لنفسه شيئاً من العزة التي قام البعض بالتفريط فيها.

تكامل الأداء بين الحاكم والمحكوم

مع هذا؛ حتى وإن وجد الحاكم الذي يحوي كل هذه المواصفات، فإن قافلة المجموع المحكوم لن تسير إلى الأمام ما لم يكن أصحاب التخصصات والجاهزيات والرؤى النافذة في المجتمع واعين لواجبهم في تكميل الصورة، فيقوم، مثلاً، أصحاب الاقتصاد والفاهمون فيه بإمداد الحاكم بالرؤى النافعة في مجال تخصصهم؛ إذ هم أساساً يمتلكون الرؤية وهو يمتلك السلطة الكافية لإنفاذ هذه الرؤية وإخراجها إلى حيز التطبيق. كذلك هو الحال في بقية المجالات، التعليم والصحة والعلاقات الدولية والإعلام وقضايا الأمن القومي... إلخ.
ولا تحدث انتعاشة لأي شعب ما لم تتنافس فيه الرؤى على إبراز نفسها، كلٌ في مجاله، كي توفر للحاكم كماً وافراً من الخيارات النافعة.
ويحدث أحياناً، كما هو الحاصل الآن في بلادنا، أحد أمرين أو كلاهما معاً وهما:- إما أن يفترض أصحاب الجاهزيات والنخب المتخصصة وعموم الشعب في الحاكم فهمه في كل شيء، في الاتصالات، والزراعة، والأسماك، والبيئة... الخ، فلا يبادرون بتقديم الرؤى المساعدة له؛ بل يتركونه لاجتهاده ثم يسلقونه بألسنة حداد حين لا يحالفه التوفيق!
وإما أن يتجرأ فقط ذوو الرؤى القاصرة، ويتفننوا في تقديم طروحاتهم للحاكم ويقنعوه بها، فيما أصحاب الرؤى السديدة قابعون في البيوت، ينتظرون أن يأتي الحاكم إلى بيوتهم ويتوسل إليهم رؤاهم، وهذه هي منتهى السلبية والسذاجة، لأن أمثال هؤلاء لم يدركوا سنة لطيفة من سنن الله في الحياة، وهي أنه لا يكفي أن يكون لديك شيء نافع ما لم تعمل على إخراجه للناس وإعماله في ساحة النفع. لهذا ورد في الأثر النبوي أن: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف".

تصورات خاطئة في نظرية الحكم والمعارضة

إن ما يمكن تسميته بعلم الحاكم والمحكوم؛ يعتوره في أيامنا هذه خطل كثير وتصورات مغلوطة، منها؛ أن التنافس للوصول إلى الحكم غدا أمراً تجيزه الدساتير، وتقننه القوانين. وهذا مكسب حقيقي. غير أنه لا توجد لوائح تنظم تسديد دفة الحكم وتلزم أهل الرؤى تقديم رؤاهم، وتكفل لهم حقوقهم المادية والمعنوية. وهذا أساساً هو ما يتم تحقيقه عند وجود عمل مؤسسي، لكن المؤسسية في بلداننا لم تزل شعاراً تستهلكه الأفواه ولمّا يصل بعد إلى تنزيله على أرض الواقع تشريعياً وعملياً. زد على ذلك أن مضمار التنافس السياسي عندما يتم خوضه بشكل مشوش من قبل السلطة والمعارضة، فإنه يطال الجاهزيات والقدرات الوطنية اللازم حيادها في مربع السياسة وتفرغها لخدمة الصالح العام أياً كانت انتماءات أصحابها.
والحاصل في كل ذلك أن حالة التنافس المحموم للوصول إلى الحكم جعلت من الحكم وكأنه مغنم لا مسئولية بالغة؛ "إذ حينما يَزِلُّ الحاكم فإنه يزلُّ بزلته خلق كثير"، تماماً مثلما أن أي قرار خاطئ مهما كان صغيراً فإنه قد يكون إثماً يتسبب في معاناة الآلاف، وحدوث الكثير من الظلم.
ومن التصورات الخاطئة كذلك، الممارسة الخاطئة لمصطلح القوى السياسية المنافسة التي تعرف باسم "المعارضة"؛ إذ أن استعمال مثل هذا اللفظ قد فعل مفعوله في لاوعي الناس مع مرور الأيام، بحيث أصبحت وظيفة هذه القوى وكأنها مجرد "الاعتراض" على تصرفات الحاكم وأجهزة الحكم، حقاً كان الاعتراض أو باطلاً. في حين أن لفظة "المعارضة" لا تعني الاعتراض بل المحاكاة، أي قيام القوى المنافسة بعمل يوازي عمل الحزب الحاكم ولا يصادمه، وذلك من باب التنافس على تقديم الأفضل. ولذلك يقال في اللغة: "عارض شاعرٌ شاعراًٌ آخر" إذا كتب على منوال قصيدته وجاراها في الموضوع والوزن والقافية! وتكون ثمرة ذلك مزيداً من الإثراء والإشباع وخدمة الصالح العام، علاوة على الاعتراف بالآخر.

خطورة الأفكار المستوردة

إن من التصورات الشائهة عدم اعتراف الفكر السياسي السائد بخصوصيات كل شعب ومعتقداته وتحدياته وظروفه وموقعه في ركب المرحلة، وهو ما أدى إلى الاعتساف في إنزال أنظمة حكم توصلت إليها بعض الدول المتقدمة بعد عناء وتدرج طويل، على مجتمعات نامية لم تتبلور لديها بعد هوية النهوض، ولا أهمية القانون، ولم تزل عرضة للأخطار الماحقة التي تهدد أمنها الغذائي والوطني بشكل عام، وعدم مراعاة سلم الأولويات لدى هذه الشعوب التي لم تستكمل فيها الحد الأدنى من البنى التحتية في المجالات المعيشية والنمو الاقتصادي. كما –وهو الأهم - لم يصل فيها الوعي السياسي إلى درجة النضج؛ بحيث لا يؤثر التنافس على المصالح العامة للشعب ولا يصل التنابز الحزبي حد الإضرار بأركان الهوية الوطنية والسيادة اللازمة؛ بل لا توجد فيها سوابق لتدارك الكوارث الناجمة عن الاستخدام الخاطئ للحرية، ذلك أن الاستخدام الخاطئ للحرية قد يحدث ردة مأساوية، من الصعب بعدها الإتيان بالحرية مرة أخرى إلا بعد حقب طوال.
من هنا فإن مراعاة ظروف كل بلد سيؤدي إلى استخدام واعٍ للحرية من شأنه ترسيخ هذه الحرية وتعزيز الأداء الوطني المتضافر بين الحاكم والمحكوم، بما لا يفتح مجالاً للردة عنها، أو التحايل عليها.
ومن التصورات الشائهة أيضاً، في تقديري، الاعتقاد السائد بأن النظام الديمقراطي هو الوحيد الذي يحكم فيه الشعب نفسه، هذا صحيح، عندما تأخذ الأمور مأخذاً سطحياً، غير أن الأصح هو أن أي شعب في أي مكان وفي أي زمان وعبر أي نظام حكم هو الذي يحكم نفسه؛ إذ في كل الأحوال لا يعد الحاكم وجماعته سوى أفراد قليلين مقارنة بالكم الهائل الذي هو قوام الشعب، ولا شيء يجبر أو يمنع أي شعب على تغيير نمط احتكامه وأسلوب تداوله.. لا شيء غير الشعب نفسه. لكن الديمقراطية هي آلية الحكم التي يمارس فيها الشعب حكم نفسه بشكل مباشر ومعلن.
وهذه هي سنة سائرة تنطبق على كل الشعوب والدول والأزمان، عدا في حالة واحدة؛ عندما يستغل لصوص المناصب عاطفة الشعب ومعتقداته ويمارسون الدجل عليه ويفرضون شوكتهم عليه بشوكة خارجية، ويقتلون أحراره ومراكز القوى المهمة فيه، ومثل هذه العصابات من تجار التاريخ ومقاولي الدول تكون عواقبهم وخيمة، وهم من ناحية أخرى، في اعتقادي، عقاب من الله لا يسلطه المولى-عز وجل– إلا على شعوب بَطَرت حكامها، وتقاصرت في تقديم النصح أو أكثرت من تمجيدهم حتى حولتهم إلى أصنام؛ ثم ولولت بعد ذلك تستنجد بالآخرين أملاً في إزالتهم.
ذلك أن الأداء السوي كما أسلفنا يتكون من شقين، أحدهما الحاكم وأجهزة الحكم. والآخر المحكومون ممثلين بنخبهم ومثقفيهم وأعيانهم ومؤسسات المجتمع المدني.

الحقبة المطريّة وثقافة الخوارج

أصبح سائداً في الفترة الأخيرة أن مجرد جعل الحاكم موضوع بحث أمر مثير للشكوك، مع أنه لا شيء يؤثر في حياة الأمم والشعوب كما يفعل الحكام، وبالتالي لا أحد أولى بتقييم تجربته ودراسة أدائه وتنوير مداركه مثل ما هو حال الحاكم. لكن ثقافة الخوارج استوطنت في قلوبنا منذ عقود جراء تتالي فترة الهوان العربي. الأمر الذي أصبح فيه راسخاً لدى الوعي الجمعي، وكأن الحكام، وبلا استثناء، لا يستاهلون إلا القدح والتخوين، كما لم تقم أبداً أية دراسة جادة تحاول أن تقول لأي حاكمٍ: إنك عندما اتخذت القرار الفلاني الذي أثر سلباً على مكانة بلدك وأمتك، كان بإمكانك أن تتخذ قراراً غيره تضمن معه صون شعبك ومنعة منصبك.
انداح لهذه الثقافة الخوارجية كُتاب وقصائد وصحف وقنوات، فكانت "لافتات الشاعر العراقي أحمد مطر" إحدى المكونات الحقيقية للعقلية العربية الشعبية المعاصرة، وعلى ذلك قس. ثم ازداد الأمر تعقيداً لتبلغ الثقافة الخوارجية أوج مجدها في عهد القطب الأوحد الذي بدأ يقول للشعوب ما هو الحكم الرشيد، وما هو الحكم الضال، ويفصل بدلات الحكام على مزاجه، ويمنح صكوك الغفران الرئاسية وفق مصالحه، ويتلاعب بالمعايير متى يشاء، ويتراجع عن مبادئه بكل سلاسة، تماماً كما يفعل الثعلب. وغرضه من ذلك جعل الحكام مهددين بشعوبهم، وجعل الشعوب فاقدة الأمل بحكامها. وبالتالي لا مناص من أن يولي الجميع وجهته شطر البيت الأبيض، الضامن الحقيقي لمناصب الحكام، والمنقذ المثالي لمعاناة الشعوب!
والمؤسف حقاً أن الثقافة هذه، وبتمويل من البيت الأبيض، وبإشراف من سفاراته ومنظماته المبعثرة في جميع أنحاء العالم، انتشرت وازدهرت رغم الخلل الفادح في تطبيقاتها.
تعاضدت هذه السياسة المدعومة من القطب الحاكم الأرض مع ثقافة التيارات الأيديولوجية الأصولية الصاعدة، والتي منها تنظيم القاعدة، وهو نمط متطور من فكر الخوارج الذين لا يقبلون لا بهذا ولا بهذا ولا بذاك؛ ويجدون في الآثر القرآني والنبوي بالتأويل والاعتساف ما يجعلهم يؤمنون حد اليقين بتصوراتهم، ويجزمون بلا جدوى الواقع المحيط برمته.
هؤلاء كذلك أسهموا في نشر الثقافة الخوارجية التي أصبحت موضة الشعوب والقنوات والندوات ومادة للمزايدات والمكابرات. الأمر الذي جمّد حركة التفكير اللازم توجُّههه إلى مركز الحكم، فتقاعس الكتاب والمفكرون عن واجبهم في الكتابة للحاكم (وفق تعبير المفكر أحمد قائد الأسودي)، فتوجّس الحكام من شعوبهم، وأصبحت كلمة الصدق نادرة ندرة الماس، بائرة، لا تصل إلا على طبق من الشكوك والتأويل. وهذا أدى إلى جمود ظاهرة الفكر السياسي وفكر الدولة وعلم إدارة الحكم..
كل هذا أدى إلى حالة من الارتباك الوطني تترسخ يوماً بعد آخر، وتعوق الثمار الحقيقية للتنمية، وتجعل الأداءات كلها، رسمية وأهلية ومعارضة، بلا طعم ولا لون ولا رائحة. لم يعد ثمة فرق بين الهدم والنضال وبين النقد والسبّ، وبين الإصلاح والإغاظة، وبين التنوير والتضليل. وذلك كله كإحدى محصلات الفوضى الأمريكية الخلاّقة في ظل انعدام تبلور البدائل النظرية التي تفيد البشرية جمعاء!!

_________________________________
الحلقة الأولى من كتاب "الخيوط المنسية" حقوق النشر خاصة بموقع نشوان نيوز

زر الذهاب إلى الأعلى