د. غالب القرشي
سمع العالم كله عن مذكرة محكمة الجنايات التي يسمونها ( دولية ) كما يسمون مشروعهم الغربي ( دولياً) على اعتبار أن كافة الدول صادقت على معظم مفردات ذلك الشرع، وأنا لست مستنكراً أن يكون هناك قانون دولي متفق عليه ويحترم عند الجميع ويطبق على الجميع، بل ولا أستنكر أن تكون هناك جهة متفق عليها معنية بتطبيق القانون على الجميع، بل ولا أنكر ولا أستنكر أن تكون هناك محكمة مكونة من عدول العالم الأكفاء قضاءً ونزاهة وقوة وأمانة ليرجع إليها الجميع عند الاختلاف على امر دولي أو عندما يوجد ظلم لا يقدر على ردعه في محله.
لكني أستنكر، وأنكر ما تمارسه الهمجيات الغربية واللاهثون وراءها مصدقين مصفقين مطبقين متسابقين حتى على ما يضرهم ! كما فعلوا مع جورج بوش وتوني بلير في حق صدام حسين والشعب العراقي والقوة العراقية والحضارة العراقية.
فكان اندفاع اللاهثين وراء الشرعية الدولية الجديدة وسارت الدول الإسلامية الكبرى وراء الدول الصليبية الصهيونية الكبرى برغبة شديدة وشوق أشد، وأصحاب القرار في تلك الدول آمنون، لأنهم لا يمتلكون مقومات العدوان عليهم فلا رجولة يتمتعون بها، ولا قوة بنوها، ولا حروباً خاضوها بصرف النظر عما إذا انتصروا أو هزموا ولا مواقف ضد اسرائيل (دولة الصهاينة الغاصبين المعتدين وخنجر الصليب العصري المتحضر)! وعفواً من ذكر وتكرار ذكر الصليب والصليبيين والصهاينة في هذه الوقفة فإن هذا ليس من السياسة الرشيدة لا في العالم العربي ولا في العالم الإسلامي ولا عند الدول ولا الأحزاب بمختلف توجهاتها إسلامية أو قومية.
فإن ذكر مثل هذه الألفاظ –عندهم- بعيد عن الحقيقة اليوم فلا صليبية ولا صهيونية إنما هي عدالة دولية ضد الإرهاب أينما كان وممن كان حتى لو كان من بوش وتوني وشارون ونتن، والعدالة الدولية ضد الإرهاب من أصحاب القرار العربي مع أنهم أصدقاؤهم، فهم ضد من يقتلون من شعوبهم بغير حق، وضد من ينهب ثروات الشعوب ويعبث بها، وضد من يصادر إمكانات الشعب والدولة للزعيم وحزبه، وضد من يمنحون الترخيص لأي حزب له أكبر قاعدة شعبية، وهم ضد من يصادرون نتائج الإنتخابات إذا نجح غيرهم، وهم ضد من يمنع بناء قوة دفاعية لصد العدوان وحفظ كرامة الشعوب وفي الجملة فهم ضد الإرهاب الحقيقي المغلف بالإسلام. والإسلام باتفاق الجميع يأمر أبناءه بالوحدة والاعتصام بحبل الله وينهى عن التفرق، ويأمر بإعداد القوة لردع المعتدين وإرهابهم، ويأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وغير ذلك مما تضمته نصوص الإسلام سواء كانت في الكتاب أو السنة، مما يؤكد العدل والإحسان إلى الآخرين والبر بهم ما لم يكونوا معتدين، والسلم مع من جنحوا للسلم حقاً ولم يكونوا مغتصبين لأراضي المسلمين مصرين مستمرين على عدوانهم فكيف لا يكون ذلك إرهاباً ؟!!
وكيف لا تكون حربه عدالة ؟!! واليوم قد صنف عمر أحمد البشير الرئيس السوداني بأنه مجرم حرب، ولم يصنف بأنه صانع دمار للعالم، لأن الكذبة الأولى على العراق لا تزال معلقة على رأس جورج بوش وتوني بلير ونظامهما وإدارتهما وقواتهما وعملائهما الذين ساروا وراءهما ولو كانوا مسلمين، فما هي حقيقة جريمة البشير إن كانت جريمة صدام أنه بنى جيشاً قوياً، صنع من السلاح الدفاعي ما يمكنه أن يدافع به لو اعتدي عليه، بنى بنية أساسية متينة، بنى قاعدة علمية عريضة، أصر على حق الفلسطينيين من النهر إلى البحر. فلو لم يكن منه إلا ذلك لكفى أن يصنف خطراً على العالم والسلم العالمي برمته !
أما البشير وإن كانت عنده نزعة ورغبة وحب للبناء ولا يخفي تعصبه للحق الفلسطيني، ولو أني لم أسمعه يذكر الحق ما بين النهر والبحر، لكنه لم يصنع ما صنعه صدام، فما هي جريمته إذاً ؟ هل هو مجرم حرب فعلاً، وهل هو المجرم الوحيد، أو كبير المجرمين في العالم؟ ربما لو سئل كل إنسان في العالم بما فيهم الإنسان الإسرائيلي اليهودي والبريطاني والأمريكي ما عدا العملاء في السودان لأجاب بالنفي : كلا، فأكابر مجرمي الأرض معروفون للخاصة والعامة من بني البشر لم يتهموا ولم يمسوا، ولن يتهموا ولن يسموا وأنا أستغرب من المؤملين خيراً من المحكمة الدولية ( محكمة الجنايات ) والذي يدفعهم لهذا الأمل والتفاؤل كرههم لمجرميهم من بني جلدتهم، ومجرمي إسرائيل، وأمريكا، وهم يعلمون أن هؤلاء جميعاً قد تهربوا وهربوا من التصديق على نظام هذه المحكمة المشبوهة مع أنهم يدفعون الدول للتصديق دفعاً ؟ فخير لهؤلاء المؤملين خاصة الطيبين الطاهرين أن لا يطلبوا المحال، فضلاً عن أن لا يشدوا الرحال، ويفقهوا القرآن والسنة والسيرة النبوية، والواقع التاريخي إلى اليوم، أو إلى يوم صدور المذكرة للبشير.
وإذا قلنا إن البشير ليس مجرم حرب فلا يعني أنه لا يخطئ، أو أن المواجهات في دارفور بين الدولة والمتمردين لم ترتكب فيها أخطاء، لا، لكن المعروف دولياً، بل وتاريخاً، وشرعاً، وقانوناً أن الخروج والبغي على الدولة الشرعية يحارب حتى يعود إلى الجادة، ولم تكن الحرب يوماً من الأيام أو في بلد من البلدان أو بين البلدان نزهة، أو مصافحات، وعناق بين المتحاربين، وإنما هي صراع بين طرفين أو أطراف يبذل فيها كل طرف أقصى جهده للتغلب على خصمه وإخضاعه وتكبيده خسائر مادية وروحية، وإلا فكيف يخضعه، وكيف يحصل التغلب، وكيف تنتهي الحروب ؟
وهناك أسلحة وممارسات محرمة دولياً بموجب قوانين واتفاقات دولية، تمارس هذه المحرمات في بلاد المسلمين من قبل الغرب. فتمارس في فلسطين والعراق وأفغانستان.
ولا يتحرك أمين عام محكمة الجنايات الدولية، لأنه لا يحرك، ولعله مملوء، من رأسه إلى أخمص قدميه صهينة وحقداً صليبياً موروثاً فتحرك للبشير بجد واجتهاد واجتمعت المحكمة مرات فخرجت بتلك المذكرة المشئومة التي أراد الله بها خيراً " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ".
لقد ازداد البشير إيماناً وصلابة "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ". والتف الحشود حول رئيسهم إلا الموتورين منهم. وازداد الناس في الدنيا إيماناً بأن هذه المحكمة مكونة تكويناً خاصاً لأغراض خاصة تحركها أصابع الشر أنى ومتى شاءت، ولو خالفوا نظامها الروحي الذي ينص على أنه ملزم للدول التي صدقته وآمنت به، والسودان ليست مصدقة ولا مؤمنة به ولعلنا من هذه الاستطرادة قد كشفنا أن السبب الحقيقي لمطاردة البشير ليس بياض وصفار أعين الدارفوريين وسواد بشرتهم، وآلامهم بسبب اندفاعهم وراء سراب صنعه الغربيون حسب بعض الدارفوريين بين تحريراً وإنقاذاً. وإنما السبب شيء آخر يجب أن نبحث عنه، والبحث عنه لا يحتاج عناءً كبيراً، بل يكفي لاتضاح معالمه معرفة نشأة البشير، وتعليمه، وسلوكه، وخلفياته الفكرية وعلاقاته ونوع أحبائه وأصدقائه ورفاقه، وطبيعة ثورة الإنقاذ التي قادها أواخر الثمانينات ونجاحها على حين غفلة، بل نوم من الغرب، فلما صحوا وعلموا أسرّوها في أنفسهم وأخفوا شراً بل شروراً.
وهناك جرائم أخرى للبشير في نظر الغرب منها موقفه المتشدد ضد إسرائيل، عصيانه للدوائر الغربية، ومحاولته الاستعصاء، نزاهته في حكمه، صلاحه في نفسه ومحاولته إصلاح الآخرين.
وربما شُك فيه أنه متعاطف مع الإسلام والإسلاميين، وهذه تكفي تهمة في نظر العدالة الأمريكية الإنجليزية الصهيونية.
إذاً فالبشير مطلوب لذاته وموقعه ومكانته،لا لجرائمه فليست له جرائم تذكر، ولو كانت له جرائم لرشح أن يكون الرئيس الدائم. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتب وباحث يمني - الناس