الفكر والرأي

الحراك الإحتجاجي في جنوب اليمن: ثقافة الدولة والقبيلة؟

باتريك كريجر

تظهر مواقف الأحزاب السياسية اليمنية وتحليلات الكتاب والمهتمين، أن القضية الجنوبية لا تنال حقها من الفهم السليم ولا يُسبَر غورُها ولا يُدرَك مضمونها، ويجري بسبب ذلك التنكر لها وتشويهها كقضية سياسية، حيث تفسر تفسيراً شطرياً إنفصالياً غرضه تمزيق اليمن،

وحيناً آخر تُفسّر تفسيراً طائفياً، أو ينظر إليها من زاوية طموحات شخصية لهذا القائد الجنوبي أو ذلك، وفي أحسن الحالات تفسر تفسيراً مطلبياً.

والحقيقة أن القضية الجنوبية، قضية وطنية أصيلة لشعب جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية سابقاً، وما يجري من صراع حولها ليس صراعاً شطرياً بين الشمال والجنوب، لأن الشعب الجنوبي كان تواقاً إلى الوحدة بالقدر نفسه الذي كان عليه الشعب في الشمال، كما أن ذلك الصراع ليس طائفياً سنياً شيعياً، فالقسم الغالب من أبناء الشمال هم من أهل السنّة شأنهم شأن الجنوبيين. كما أن القضية في جوهرها ليست قضية مطلبية معيشية، ولو كان الأمر كذلك لكان من السهل حلها. إن الصراع في حقيقته، هو صراع بين ثقافتين للحكم، ونعني بذلك أننا إزاء مشروعين سياسيين لإدارة البلاد. ألا وهما مشروع الدولة المستند إلى النظام والقانون ومشروع القبيلة القائم على القوة والنفوذ والأعراف القبلية.

لقد كانت الوحدة بين شطري اليمن، مشروعاً سياسياً لنظامي الجنوب والشمال، وحلماً شعبياً كبيراً في الشطرين، ولكن ما إن تحققت الوحدة الطوعية السلمية بين الدولتين في 1990، حتى إتضح أن نظام الشمال إنما كان يضمر إلحاق الجنوب بسلطته والإستحواذ عليه، بأرضه الشاسعة وموقعة الإستراتيجي وشواطئه الواسعة وما يختزنه من ثروات معدنية وزراعية وسمكية.
وقد ساعد نشر مذكرات بعض حكام الشمال في السنوات الأخيرة، على كشف حقيقة نياتهم المضمرة تجاه الجنوب. يقول الشيخ عبدالله الأحمر، رئيس مجلس النواب السابق والرئيس المؤسس للتجمع اليمني للإصلاح، إن الرئيس علي عبدالله صالح طلب منه عقب قيام الوحدة هو وحلفاؤه من القوى الإسلامية، تشكيل حزب سياسي يكون رديفاً لحزب الرئيس (المؤتمر الشعبي العام)، الذي كانوا هم حينها من قياداته، وذلك بغرض معارضة الإتفاقات الوحدوية التي أبرمها الرئيس صالح مع حليفه في الوحدة الحزب الإشتراكي اليمني الممثل للجنوب، من أجل تعطيل تلك الإتفاقات وعدم تنفيذها (أنظر: مذكرات الشيخ عبدالله الأحمر، الآفاق للطباعة والنشر، 2007، ص 248-249) والغرض من ذلك هو خلق أزمة سياسية بين شريكي الوحدة تهيئ لإعلان الحرب على الجنوب.

وموقف حكام الشمال من الجنوب وسعيهم لضمه إلى سلطتهم وإخضاعه والإستحواذ عليه ليس جديداً، بل يعود إلى مرحلة إعلان الإستقلال في الجنوب. وهو موقف عام مشترك لدى كل رموز النظام في الشمال، حتى أولئك الذين يظهرون تعاطفهم مع الجنوب اليوم. يقول الشيخ سنان أبو لحوم في مذكراته (اليمن – حقائق ووثائق عشتها، مؤسسة العفيف، صنعاء، 2002، الجزء الثاني، ص262)، "تم جلاء الإستعمار البريطاني من الشطر الجنوبي من الوطن في 30 تشرين الثاني 1967، وأعلنت دولة مستقلة في الجنوب بزعامة الجبهة القومية. ولم تكن فكرة إقامة دولة في الجنوب واردة في ذهن القيادة في الشمال، وإزاء ذلك إختلفت القيادة في موقفها بين رافض قيام الدولة في الجنوب وبين قابل للأمر الواقع، لأن الموقف خطير والملكيين بعد إنسحاب القوات المصرية شددوا من هجماتهم وبدأوا يحاصرون العاصمة، فليس بإمكاننا والوضع كذلك أن نحارب على جبهتين".

وبهذا يتضح أن حكام الشمال ينكرون أصلاً على أبناء الجنوب إستقلالهم في دولتهم التي قاتلوا لطرد الإستعمار البريطاني منها، وأنه كان عليهم بعد نيل الإستقلال أن يسلموا بلادهم لحكام الشمال. كما يُفهم من شهادة أبي لحوم أنه لولا أن النظام في صنعاء كان منشغلاً بالحرب مع الملكيين الذين وصلوا إلى تخوم العاصمة، لكانوا شنوا حرباً مبكرة على النظام في الجنوب.

ويؤكد يحيى المتوكل، أحد القيادات الشمالية البارزة، هذا الموقف بقوله: "بعد حركة 5 تشرين الثاني 1967 حصل الجنوب على الإستقلال، وبدلاً من أن تتم الوحدة وجدنا أنفسنا أمام أمر واقع فرض علينا، وهو ألا ندخل في معركة مع الأخوة في الجنوب. لهذا تم الإعتراف بدولة الجنوب لنتجنب الدخول في معارك أخرى. وكانت التوقعات تؤكد أن المعارك مع الملكيين ستطول، وأن أخطارها كبيرة، لذلك لم يكن هناك من مجال أمامنا سوى التسليم بالوضع الجديد والإعتراف بالدولة في الجنوب، على إعتبار أننا لا نستطيع عمل أي شيء" ("الأيام"، عدن، 8 كانون الثاني 2001).
ويكشف الشيخ الأحمر أن إعتراف حكومة بلاده بإستقلال الجنوب، كان نابعاً كذلك من مصلحة حكام الشمال في حال سقوط صنعاء بأيدي الملكيين، كي تصبح عدن قاعدة خلفية لمقاومتهم. يقول الأحمر: "جاء إستقلال الشطر الجنوبي من الإستعمار البريطاني ونحن في بداية الحصار وقد إستقبلناه كأمر واقع، إذ لم يكن بإستطاعتنا أن نعمل شيئاً، وكثير ممن كان معي كان رأينا أن لا نعترف بهم ولا نهاجمهم إعلامياً، وكثير من العقلاء رأوا أن الإعتراف بهم فيه حماية لنا فيما لو سقطت صنعاء، فلو سقط النظام الجمهوري في صنعاء ستكون الجمهورية في الجنوب سنداً لنا، كما أن عدم الإعتراف معناه أن نجعل لنا خصمين وهذا ليس في صالحنا. وقد إقتنعنا بهذا الرأي، وصدر قرار الإعتراف بالنظام في عدن". (مذكرات الشيخ الاحمر، مصدر سابق، ص 141).
تكشف هذه الشهادات أن الهجوم على الجنوب والإستحواذ عليه وضمه لحكم الشمال، يعكس رؤية مترسخة لدى حكام صنعاء منذ حصول الجنوب على الإستقلال، سعيهم للوحدة مع الجنوب عام 1990، غرضه الوصول إلى ذلك الهدف.

وإذ إعتقد حكام الشمال عقب حرب صيف 1994 أنهم وصلوا إلى غايتهم وأنجزوا هدفهم، بإسقاط قيادة الجنوب وطردها من البلاد وتفكيك مؤسسات النظام المدنية والعسكرية والأمنية وإحكام السيطرة على الجنوب، جاءت حركة الإعتصامات الجماهيرية الواسعة في شتى مدن الجنوب ومحافظاته لتصيبهم في مقتل.
لقد كان من سوء حظ حكام الجمهورية العربية اليمنية أن سيطرتهم على عدن عام 1994، جاءت بعد ما يزيد على ربع قرن من قيام حكم وطني في الجنوب، نشأت فيه أجيال صبغتها هوية وطنية واحدة تتمتع بكل الحقوق المدنية والمساواة أمام القانون. وحين سيطر الشمال على الجنوب حمل معه ثقافة الحكم القبلي، وكان من النتائج المباشرة لسيطرة ثقافة الحكم هذه، إستحالة الجنوب إلى ميدان واسع للنهب والسلب لمصلحة القوى المنتصرة في الحرب وتجاهل وتهميش مصالح سكان الجنوب الذين باتوا في ظل النظام الجديد يفتقدون الغطاء القانوني لحماية مصالحهم الخاصة والعامة.

وعلى خلفية فقدان الطبيعة المدنية للحكم وإهدار الحقوق وضياع المصالح، نشأت حركة الإحتجاجات الجنوبية التي تبلورت وإتخذت طابعها السياسي تحت مسمى القضية الجنوبية.
وعلى هذا فإن ما يجري من صراع في الجنوب، إنما هو في حقيقة الأمر صراع بين ثقافتين للحكم، ثقافة الحكم المدني وثقافة الحكم القبلي، وإذا كان نظام الشمال قد حقق إنتصاراً عسكرياً على نظام الجنوب، فإن بروز القضية الجنوبية يبين أنه أخفق في إحراز نصر على روح نظام الحكم المدني الذي كان سائداً في الجنوب، وعلى تشبث السكان بها وإستعدادهم للتضحية من أجلها.

القضية الجنوبية والسلطة
لقد تسببت القضية الجنوبية في إحداث هزة عنيفة لصنّاع القرار السياسي في النظام، أدخلتهم في حالة إختلال التوازن، وقد إتسعت دائرة الحراك وتسارعت وتيرته إلى الحد الذي جعل محاولات النظام إحتواء تحركات الجماهير الجنوبية الغاضبة، غير قادرة على مسايرة إيقاع الحراك وإنتقاله السريع من طور إلى طور.

فبادئ ذي بدء حاولت السلطات مواجهة المطالب الحقوقية المتصلة بالعمل والأجور والمعيشة التي نادى بها آلاف المسرحين والمبعدين عن أعمالهم عقب حرب 1994 من القيادات والكادرات الجنوبية العسكرية والمدنية بالتجاهل والإنكار، ثم ما لبثت أن شكلت لجاناً لدراسة تلك المطالب وأخرى لدراسة الآثار الناجمة عن الحرب في الجنوب ونهب الأراضي... الخ. ولكن لما كانت تلك اللجان عبارة عن أشكال فارغة المضمون ولا صلاحيات لها، كما لم يكن إستحداثها نابعاً من رغبة حقيقية في الإصلاح، فقد ذهبت مقترحاتها للمعالجات أدراج الرياح.

وجنباً إلى جنب الإجراءات الإدارية والسياسية الصورية، لجأ النظام إلى إستخدام أساليب البطش والمطاردات والإعتقالات للقيادات الجنوبية والزج بهم في السجون ومواجهة الإعتصامات السلمية بشتى أشكال العنف. كما إعتمد نثر المليارات من النقود اليمنية ومنح اراضٍ وإمتيازات وتوزيع مناصب وسيارات وغير ذلك، لشراء ذمم العشرات من القيادات الجنوبية. ولكن كل أعمال العنف والحيل لم تفتّ في عضد الحركة المطلبية الجنوبية، بل زادتها قوة ومنعة.
وماهي إلا بضعة أشهر حتى أخذت إحتجاجات المسرحين من أعمالهم، تتحول إلى حركة جماهيرية عريضة إنخرط فيها كل فئات المجتمع الجنوبي، كما تراجعت كل المطالب الحقوقية المعيشية لتفسح المجال أمام مطلب سياسي، غدا شعاراً للحراك بكل فصائله وهيئاته، ألا وهو شعار تحرير الجنوب من إحتلال نظام الجمهورية العربية اليمنية وإستعادة الدولة الجنوبية.

وهنا شعر النظام بحرج الموقف وأدرك أن فشله في إحتواء مطالب المسرّحين، قد فتح عليه باباً واسعاً من الإحتجاجات الشعبية الجنوبية التي لم يكن يتوقعها حتى في أسوأ كوابيسه. وأمام الضغط الشعبي الجنوبي إضطر النظام للانحناء والقبول بتنفيذ واحدة من أهم خطوات الإصلاح السياسي، التي ظل يرفضها منذ قيام دولة الوحدة، ألا وهي إنتخاب المحافظين في عموم الجمهورية، لعل ذلك يكون مرضياً للجنوبيين ويحد من غضبهم ويهدئ من ثورتهم ويخفض سقف مطالبهم. ولكن حتى هذه الخطوة على أهميتها وتأثيرها المستقبلي على صعيد إرخاء قبضة النظام وإضعاف سيطرته المركزية المطلقة، لم تعد ذات جدوى.
وقد ظهر جلياً حجم التحدي الخطير الذي يواجهه النظام جراء نشوء القضية الجنوبية، حين إضطر لإتخاذ قرار تأجيل الإنتخابات النيابية لمدة عامين، وهو ما مثل إعلاناً صريحاً أمام العالم الخارجي بوجود أزمة سياسية عميقة في النظام، باتت معها قيادته عاجزة عن القيام بوظائفها مع الالتزام بالخيار الديموقراطي. كما ظهرت خطورة القضية الجنوبية على النظام الحاكم في إضطراره للجوء إلى قوى المعارضة للوقوف إلى جانبه في مواجهة الحراك الجنوبي والوضع السياسي الناشئ عنه، مع إعلان إستعداده لبحث مطالب المعارضة بشأن إصلاح النظام السياسي ونظام الإنتخابات.

القضية الجنوبية وأحزاب المعارضة
كان موقف أحزاب المعارضة المنضوية في اللقاء المشترك إزاء القضية الجنوبية صادماً للجنوبيين. ولعل أقل ما يمكن أن يقال هو أن قياداته أخفقت أيما إخفاق في قراءتها لحركة الشارع الجنوبي وتخلفت كثيراً عنه. ففي الوقت الذي كانت حركة الإحتجاجات الجنوبية تطوي عامها الاول، كان الأمين العام للحزب الإشتراكي اليمني الدكتور ياسين نعمان، يصرح بأن "المشترك" بصدد إنجاز رؤيته بشأن القضية الجنوبية. ("النداء"، صنعاء، 17 كانون الثاني 2008).

وقد تباينت مواقف أحزاب "المشترك" من القضية الجنوبية بهذا القدر أو ذاك، فالحزب الإشتراكي الذي حكم الجنوب ووقّع بإسم الجنوب إتفاقية الوحدة مع الشمال، كان الجنوبيون ينتظرون منه أن يتبنى قضيتهم ويؤازر مطالبهم، لكن الحركة الجنوبية لم تجد من الحزب ما كان يُنتظر من دعم ومؤازرة. فما إن بدأت أصوات من داخله تطالب بإصلاح مسار الوحدة حتى سُدَّت في وجهها سبل التعبير عن آرائها في إعلام الحزب. وشيئاً فشيئاً بدأ قادة وأعضاء الحزب الجنوبيون يشعرون أن رفاقهم من الشمال إستحوذوا، بحكم غلبتهم العددية على السلطة، على إتخاذ القرار في الحزب، وإذا كان نظام الشمال قد سيطر على الجنوب فإن الرفاق الشماليين وأخذوا يوجهون خطة السياسي نحو تجاهل ما يدور في الجنوب من هبّة شعبية، وكأنهم ينأون بأنفسهم عنها بل يساهمون في إضعافها من خلال نعت قيادات الحراك بأنهم أصحاب "مشاريع صغيرة"، ما دفع قيادات الحزب من الجنوبيين إلى التعبير العلني بأن الحزب قد خذلهم.

أما "التجمع اليمني للإصلاح"، فموقفه من القضية الجنوبية يمثل الوجه الآخر لموقف السلطة، ولا غرابة في الأمر فتجمع الإصلاح كان شريك النظام في حربه على الجنوب عام 1994 وصاحب قسط وآفر من الغنائم والأسلاب. وتبذل قيادة الإصلاح قصارى جهدها كي تنأى بنفسها عن تاريخ هذه الحرب، وتتنصل مما تسبب به من كوارث على الجنوب بخاصة واليمن بعامة. لذلك فهي حين تتعرض لما يجري في الجنوب من أعمال نهب وسلب فإنها تعمد إلى لصقها بسياسات الحزب الحاكم في فترة ما بعد الحرب، وكأن الحرب التي شارك فيها الإصلاح كانت عملاً وطنياً مقدساً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا علاقة لها بما يعانيه الجنوب من أضرار ومآس.

وقد إستنبطت قيادات الإصلاح أفكاراً كثيرة تعزز الإنتصار العسكري الذي تحقق عام 1994، لعل أهمها فكرة توطين مليونين من الشماليين في الجنوب. ولهذا فحين يصرخ النائب الجنوبي المهندس محسن باصرة، رئيس فرع الإصلاح في حضرموت، بأنه لم يجد في سجلات الناخبين في محافظته، أسماء على شاكلة سعيد وعوض وسالم، وإنما وجد ناجي وعبده (موقع "شبوة برس" الاخباري، 4 كانون الاول 2008)، فإنه يحصد في الواقع ثمار أفكار قائده وزعيم حزبه.

وحين إكتسى الحراك الجنوبي شعارات سياسية تطالب بحق تقرير المصير، بادر رئيس الإصلاح بالإنابة محمد اليدومي، بشن هجوم شرس على المطالبين بذلك قائلاً بأن حزبه سيقاتل من أجل الحفاظ على الوحدة وأن أي محاولة للإنفصال "ستواجه من كل إصلاحي على وجه هذه الأرض بالمقاومة". كما وضع المطالبة بحق تقرير المصير في موضع الخيانة حيث قال: "هل سمعتم في لبنان رغم الإختلافات بين القوى السياسية عن خائن واحد يطالب بتمزيق لبنان؟". (موقع "مارب برس" الإلكتروني، 14 تشرين الثاني 2007).

كما ربط أمين عام الإصلاح عبدالوهاب الآنسي بين مطلب الجنوب بحق تقرير المصير وسعيه نحو الإستقلال والمخطط الصهيوني الرامي إلى تمزيق وتفتيت وحدة الأمة الإسلامية. ("الخليج"، الإمارات، 9 تشر 2007).

وعلى الصعيد العملي، حاولت أحزاب "اللقاء المشترك" يتقدمها تجمع الإصلاح إضعاف الحراك الجنوبي والتشويش على قضيته السياسية، من خلال تنظيمها المبرمج وبمباركة ملموسة من النظام، تظاهرات عدة في محافظتي تعز والضالع وغيرهما، ترفع شعارات مطلبية بغرض خلط الأوراق والتقليل من أهمية المطالب السياسية الجنوبية، وإظهار أن حركة الإحتجاجات المطلبية تعم اليمن بكامله، وليست مقتصرة على الجنوب وأن ليس للجنوبيين قضية سياسية خاصة بهم. ولكن كل تلك المحاولات لم تفلح، وظهر أن الحراك الجنوبي أكبر من أن يتجاهله "المشترك" أو يشوش على غاياته، بل إنتقلت الأزمة إلى داخل هذه الأحزاب التي أصبحت مهددة بالإنشقاقات بين شماليين وجنوبيين، وهو ما فرض على "المشترك" الإنتقال من تجاهل القضية الجنوبية إلى الإعتراف بها والإعلان أنها تمثل مدخلاً للإصلاح السياسي في البلاد.

وثمة بعض من المثقفين الشماليين، الذين لا يدركون كنه القضية الجنوبية ودورها التاريخي ولا يرون فيها سوى عمل إنفصالي معارض للوحدة، يتنكرون لها وينعتونها بنعوت لا صلة للقضية بها، وتراهم يظهرون مواقف غير ديموقراطية إذ يقبلون من الشعب الجنوبي أن يقول نعم للوحدة، ولكنهم ينكرون عليه حقه الطبيعي في قول كلمته في تقرير مصيره. وهذا تصرف غير واعٍ وغير نزيه من جانبهم يجعلهم يقفون جنباً إلى جنب مع جلاديهم من القوى التقليدية. وهناك من يحاول أن يركب على فرسين في آن واحد، مع إظهار حكمة ووقار، كأن يقول إن القضية الجنوبية مشروعة ولكن ليس لها أفق، وهم بذلك يقصدون القرار الدولي الذي أثبتت كل تجارب التاريخ، أنه ما حال يوماً بين الشعوب وحقها في الحرية والكرامة.

آفاق القضية الجنوبية
في جنوب اليمن، يرى الناس حالات النهب والسلب للأرض والثروات وإنتهاك حقوق المواطنين الجنوبيين، فيظنون ذلك المشكلة، وأنه إذا ما ضحّى الرئيس بمصالح خمسة عشر نافذاً من ضباطه وأنحاز إلى جانب الشعب الجنوبي كان ذلك علاج القضية الجنوبية الناجع. وتلك لعمري رؤية سطحية قاصرة، فالنهب والسلب والعبث إنما هي أعراض المشكلة وليست المشكلة ذاتها.

إن المشكلة التي تقف اليمن اليوم مجدداً أمامها، هي مشكلة سياسية إستراتيجية نشأت مع نشوء دولة الوحدة، مضمونها نابعّ من دمج نظامين سياسيين مختلفين: نظام دولة مدني في الجنوب، ونظام قبلي في الشمال. وقد نشأ الخلاف والصراع بين النظامين على طريقة إدارة البلاد منذ اللحظات الأولى للوحدة، ودارت بينهما جولة أولى من الحرب عام 1994، أحرزت فيها القوى التقليدية في الشمال النصر لكنها لم تفلح في القضاء على روح وتقاليد نظام الدولة الضارب بجذوره عميقاً في تربة الجنوب، كونها أشاعت الفساد والنهب والسلب وأثبتت أنها عاجزة عن فرض القانون وإحلال المواطنة المتساوية وتلبية مطالب الأمن والإستقرار والتنمية. ولهذا فقد ظهرت روح نظام الدولة ترفع رأسها من جديد، ممثلة بالقضية الجنوبية التي يكمن فحواها في أن شعب الجنوب يعلن للعالم أجمع أنه غير قادر على العيش في ظل نظام قبلي متخلف عن حياة وتقاليد العصر، فرض عليه بقوة السلاح في السابع من تموز 1994، وأنه يطالب ويكافح لإستعادة نظام دولته المدنية. في هذا الإطار وبهذا العمق ينبغي فهم القضية الجنوبية وليس في أي ثوب آخر.

وبصفتها كذلك، فإن القضية الجنوبية تقف أمام خيارين للحل لا ثالث لهما:

الخيار الأول: أن تتغير طبيعة نظام الحكم الراهن، من نظام قبيلة قائم على القوة والنفوذ والإرادة الفردية، إلى نظام دولة مستند إلى القانون والنظام والمؤسسات والفصل بين السلطات، وهذا أمر بعيد الإحتمال خاصة مع كون القوى الديموقراطية الراغبة في الحفاظ على الوحدة ضعيفة وغير قادرة على تغيير النظام وبنيته التقليدية، فالمعارضة الشمالية الراهنة يسيطر عليها حزب الإصلاح الذي هو حزب الرئيس صالح عند الشدة كما وصفه محمد اليدومي، ولا مصلحة حقيقية لقياداته القبلية والعسكرية والدينية في تغيير النظام الحالي.

الخيار الثاني: فصل النظامين الشمالي والجنوبي وإستعادة الجنوب دولته ونظامه المدني القائم على النظام والقانون مع نشر للديموقراطية.

(معهد العلاقات الدولية –برمنغهام المملكة المتحدة

____________
النهار اللبنانية

زر الذهاب إلى الأعلى