فجأة وجدت نفسي في ميدان التحرير مع صديقي نشوان، وهنا كانت الكارثة وكانت المصيبة، حيث وجدت الرايات السود تملأ الميدان، والمئات من البشر يشجون رؤوسهم بالجنابي ويضربون ظهورهم بالسياط والسلاسل.
ورأيت الأطفال وسمعت صراخهم أثناء شج رؤوسهم من قبل آبائهم، والدماء تتطاير في كل مكان، وما تزال القبائل تتوافد تباعاً إلى الساحة حاملة معها الرايات السود على صوت دقات الطبول، فأذهلني ما رأيته أمامي. وأخذت أصرخ بأعلى صوتي وأتساءل ماذا يجري هنا! رحماك يا رب، ماذا أصاب قومي؟ فقال صاحبي: إنها مراسيم العزاء. فقلت: أي عزاء؟ وكيف حصل هذا، ومتى؟ فلم يحدث مثل هذا في تاريخ اليمن على الإطلاق منذ فجر الإسلام. وهنا ارتفعت الأصوات بالبكاء وازداد العويل. فقال: هيا ابكي حتى لا ينكشف أمرنا. فأخذت أبكي وأصرخ بأعلى صوتي واضعاً يدي على رأسي قائلاً: واإسلاماه.. وامصيبتاه.. واخجلتاه من الأجداد.
كيف سقطنا هذا السقوط؟ أين علماء اليمن؟ أين قادة اليمن ورجال اليمن؟ فقال صاحبي:لقد تفرقوا في الدويلات والسلطنات اليمنية المجاورة. فقلت: وهل انقسم اليمن إلى دويلات وسطلنات؟ وهنا اقتربت منا موجة بشرية دفعتنا إلى الأمام وكدنا أن نهلك، فنجونا بأعجوبة وأصبحنا بالقرب من منصة كبيرة، فنظرت فيها وإذا بها ممتلئة بالعمائم السود، وقليلاً جداً من العمائم البيض، فقال صاحبي: لا تندهش إنهم كبار رجال الدولة.. وهل أصبح هؤلاء فعلاً هم كبار رجال الدولة؟ تأمل فيهم جيداً.
ألم يكن الكثير منهم أعضاء في أحزاب معروفة؟ بل ويوجد بينهم من كانوا قادة لأحزاب معروفة، فتبسم صاحبي وقال: نعم. كانوا كذلك، ولكن لا بد أن تعرف أن التاريخ لا يرحم المغفلين، وقد كنا مغفلين يا صديقي. وبالمناسبة فلم يعد اسم هذا المكان ميدان التحرير، بل تحول اسمه إلى الميدان المقدس. فصرخت في وجهه قائلاً: كفى.. لا أريد أن أسمع المزيد. ولا بد أن تعلم بأن هؤلاء ليسوا قومي رغم أن البلاد بلادي، فتعال معي أريك قومي فأخذت بيده واتجهنا نحو المتحف الحربي، ومن شدة الزحام أفلت من يدي، فذهبت بمفردي وما أن اقتربت من المتحف حتى وجدت أن اسمه قد تغير من المتحف الحربي إلى (متحف المهدي) فدخلت مسرعاً إلى مكان علي عبد المغني.
وهنا كانت الطامة الكبرى، فقد أصبح مكتوب عليه المتهم علي عبد المغني، فالتفت قليلاً فقرأت: المتهم حسن العمري.. المتهم السلال، المتهم النعمان، المتهم حميد الأحمر، الكبسي، العلفي، المتهم راجح لبوزة. ثم رأيت ويا لهول ما رأيت أبو المتهمين محمد محمود الزبيري. نعم هكذا كتبوها، فلم أحتمل ذلك، كل أحرار اليمن وثوار اليمن صاروا في قفص الإتهام، كيف ذلك؟ وكيف وصلنا إلى هذا الحال؟ فلم أتمالك نفسي وانهرت باكياً وجثوت على ركبتي إلى الأرض. وفجأة سمعت صوتاً يحمل القوة والحنان معاً يقول لي: انهض، الآن تبكون كالنساء على وطن لم تحافظوا عليه كالرجال! فرفعت رأسي وإذا بالمتحدث محمد محمود الزبيري، فقلت: عفواً يا أبا الأحرار، فأشار بيده أن اصمت وواصل حديثه قائلاً: ألم أحذركم من الوصول إلى هذا الحال؟ ألم تقرءوا كتابي الشهير الذي بينت فيه خطر هؤلاء على وحدة اليمن؟ ثم أشاح بوجهه عني.
فاتجهت بحديثي إلى الشيخ راجح لبوزة: عفواً أيها الثائر العظيم والفارس الشجاع، عفواً يا أسد ردفان.. سامحونا أيها الثوار.. وهنا قاطعني الشيخ بغضب قائلاً: أبلغت الوقاحة بالبعض من جيلكم هذا إلى حد إنكار هويتنا اليمنية؟! ألا يعلم هؤلاء أننا خضنا معارك عنيفة مع المستعمر من أجل ذلك؟! ألا يعلم هؤلاء أن البندقية التي كنت أحملها لحظة استشهادي في جبال ردفان كنت قد جئت بها من إخواننا في شمال الوطن؟! وكذلك سلاح رفاقي الذين كانوا معي. لذلك فهم بإنكارهم لهويتنا اليمنية يرددون ما كان يقوله الاستعمار، والذي أعلن من إذاعة عدن يوم 17 أكتوبر 63م "إن زعيم العصابة راجح لبوزة قد عاد مؤخراً من اليمن مع رفاقه وعددهم 38 فرداً، وهم يحملون أسلحة وقنابل يدوية وألغاماً من أجل إشاعة الإرهاب في المنطقة" هكذا وصفوني بعد استشهادي بأنني رجل عصابة، وهكذا حاولوا سلخي من هويتي اليمنية عندما قالوا أني جئت من اليمن وكأنها ليست بلادي. وعندما كان الشيخ لبوزة يتحدث كُنت مطرقاً إلى الأرض حياءً وخجلاً، ثم رفعت رأسي وحاولت التحدث ولكنني فوجئت بهم جميعاً يقولون بصوت واحد: اخرج من هنا، فأنتم جيل لا تستحقون الحياة، فلقد أضعتم كل التضحيات، فنهضت من مكاني بصعوبة محاولاً التواري من أمامهم، فإذا بي ألمح من بعيد صورة زيتية لشاب في مقتبل العمر يبدو عليه من ملابسه بأنه فارس من العصر الإسلامي الأول، فاقتربت قليلاً وتأملت فيها فإذا مكتوب أسفل الصورة (الناصبي زيد ابن علي).
هكذا كتبها الوافدون الجدد، فأدركت أنهم يقصدون الإمام زيد ابن علي رحمه الله، فوقفت امام الصورة وقلت: رحمك الله إيها الفارس الشجاع، لقد رفضوك حديثاً كما رفضوك قديماً، ثم صرخت بأعلى صوتي محاولاً العودة إلى مكاني السابق وأنا أردد: لقد خُدعنا.. خُدعنا.. خُدعناااااااااااااا. وهنا تنبه حراس المتحف فحاصروني وصوبوا أسلحتهم نحوي، ثم انقضوا علي وفي هذه اللحظة المرعبة، و المخيفة.. استيقظت من منامي على صوت المؤذن ينادي لصلاة الفجر، فأدركت أني كنت في حلم مزعج وكابوس قبيح، فسجدت لله سجود الشكر على أن هذا حلم وليس حقيقة، ثم قمت بفتح النافذة وإذا بي أسمع النداء الخالد ينطلق من مآذن صنعاء يشق عنان السماء، من صنعاء الإسلام.. صنعاء الثورة.. صنعاء الوحدة.. فذرفت عيناي بالدمع، ثم رفعت يديّ إلى السماء قائلاً: يا رب أنت تعلم بأننا من الذين اتبعوا دينك، ونصروا رسولك، وجاهدوا في سبيلك، وتعلم كذلك بأننا ذُخراً ومدداً لهذا الدين كما أخبر بذلك سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم، ربنا لا تباعد بين أسفارنا، ولا تمزق شملنا. و احفظ بلادنا صحيحة العقيدة وموحدة التربة وطهرها يا الله من الفساد والمفسدين، ومن العملاء والمرجفين، ولا تعاقبنا بما صنع السفهاء منا. اللهم لاتجعل رايتنا رايات ولا غايتنا غايات . اللهم كما جعلت سيل العرم سبباً في شتاتنا فلا تجعل سيل الفساد سبباً في هلاكنا. اللهم إن نبيك محمد وصفنا بأننا أهل الإيمان والحكمة.. اللهم فارزقنا الإيمان وألهمنا الحكمة..
• د. كمال بن محمد البعداني
• كاتب يمني