آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

الموقف الشرعي من مشاريع التجزئة والانفصال (3-3)

الوحدة أصل تشريعي لكافة أديان السماء.. من أقامها أقام الدين ومن هدمها هدم الدين:

الوحدة أصل عظيم من أصول كافة الأديان وثابت من الثوابت التشريعية في كافة الشرائع السماوية مما يؤكد أنها سنة اجتماعية ولنتدبر قوله تعالى: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ{13} وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ{14} فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ{15}الشورى.

فهذه الآيات البينات في سورة الشورى بينت المكانة العظيمة للوحدة وخطورة الفرقة بما لا يدع مجالاً للشك في أن الوحدة والنهي عن الفرقة من أمهات معاني القرآن ومقصد عظيم من مقاصد جميع رسالات السماء فالوحدة كما بينت هذه الآيات هي شريعة ثابتة أخذت مقاماً عظيماً لدى كافة رسالات السماء{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} فالوحدة والنهي عن الفرقة هي شريعة كل الديانات السماوية عبر التاريخ ابتداءً من نوح عليه السلام إلى آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم فكل رسل السماء كانوا دعاة وحدة ونهاة فرقة.

وقوله تعالى: { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} في هذا النص القرآني بيان صريح قطعي يدلل على أهمية مقصد الوحدة إلى درجة تفوق تصوراتنا جميعاً كأعظم مقاصد الأديان تصل إلى حد اعتبار إقامة الوحدة إقامة للدين وهدم الوحدة هدم للدين (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) وهذا النص الصريح القطعي الدلالة يبين لنا أن إقامة الوحدة إقامة للدين ويتأكد هذا الفهم بقوله تعالى: (ولا تتفرقوا فيه) أي أن مقصد الأديان الرئيسي هو إقامة الوحدة وبالتالي فالعدول عن الوحدة إلى الفرقة يعتبر هدم للدين ويتعزز هذا الفهم بأن رتب القرآن عقوبة للخارجين عن الوحدة إلى الفرقة تساوي عقوبة الخروج عن التوحيد أي الشرك بصريح القرآن (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) ولهذا يجب أن نفهم أن الوحدة مقدسة في القرآن والأديان قداسة التوحيد.

وإذا كانت الوحدة قد أخذت هذه المكانة كتشريع ثابت لكافة أديان السماء وعظمت الأديان مقامها إلى درجة اعتبار إقامة الوحدة إقامة للدين وهدمها هدم للدين.

فإن هذه المكانة ليست من قبيل التشديد النظري والتشريعي فقط وإنما لأنها سنة اجتماعية وقانون اجتماعي قائم في الواقع كحقيقة موضوعية.

فلو تأملنا في الواقع وفي رصيد العبرة التاريخية لوجدنا تطابقاً بين كتاب الله المسطور (القرآن) وكتاب الله المنظور (الواقع) في التأكيد بأن الوحدة سنة من سنن قيام المجتمعات والدول والحضارات وإن الفرقة ومشاريع التجزئة والانفصال سنة من سنن سقوط وانهيار الحضارات والدول.

فما من نهضة لمجتمع ودولة وحضارة وقوة عظمى إلا وكانت الوحدة بدايتها وما من مجتمع ودولة وحضارة وقوة عظمى انهارت وسقطت إلا وكان انقسامها وتفككها وفرقتها سبب هذا الانهيار والسقوط.

فنحن لو اعتبرنا من تاريخنا الإسلامي وماذا أنجزه في الواقع لوجدنا أن العرب كانوا قبل الإسلام يعيشون في أشد حالات التخلف والجهل حالة غياب الدولة الواحدة الوحدة الناظمة لوحدة الأمة،، وانقسام المجتمع العربي إلى عصبيات وشيع قبلية متحاربة متقاتلة وعندما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم كان أبرز إنجاز فعله على مستوى الواقع عبر عقيدة الإسلام كما فعل الرسل من قبله هو إنشاء دولة قوية واحدة انتظمت من خلالها وحدة الأمة العربية والإسلامية فقامت حضارة إسلامية عظيمة في زمن قياسي وتحول رعاة الغنم إلى قادة الأمم وهذا هو فعل الأديان عبر التاريخ فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم قام بمهمة توحيدية وحدوية حضارية.

وإذا أخذنا رصيد العبرة التاريخية لمعرفة أسباب انهيار الحضارة الإسلامية لوجدنا الانحراف بد بالخروج عن مقصد الحرية الذي يجسده عملياً النظام السياسي الحر الشوروي ممثلاً في الخلافة الراشدة لأن جيل الصاحبة تربى عملياً على يد الرسول صلى الله عليه وسلم والوحي السماوي يتنزل ففهم الصحابة التوحيد كثورة تحررية سياسية واجتماعية بدليل المقولة الرائعة لربعي بن عامر، (جئنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة).

فقد بين مقاصد الدين بعمق شديد وبإيجاز رائع هذا الفهم للصاحبة رضوان الله عليهم وتجربة الخلافة الراشدة جرى التآمر المجوسي اليهودي عليها مبكراً قبل أن تنمو نمواً طبيعياً وتتبلور مؤسساتها وتدون تجربتها تجسد هذا التآمر بمقتل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ثم فتنة عثمان ثم فتنة علي ومعاوية ، والانحراف السياسي حول السلطة السياسية من أداة مجسدة لمصالح الأمة إلى مغنم سياسي تتصارع عليه الأهواء السياسية والصراع السياسي على السلطة أوجد الكثير من الحروب التي أدت إلى إضعاف الدولة وعبر الصراعات الداخلية برزت التحديات الخارجية إجتياح المغول والتتار للدولة العباسية وإسقاطها وسقوط الدولة أدى إلى تمزق الأمة وكذا الحملة الصليبية ولولا عين جالوت وحطين لبقي واقع الانقسام والتمزق والضعف.

ثم جاءت المؤامرة على دولة الخلافة العثمانية الكيان السياسي الجامع للأمة العربية والإسلامية والتي استهدفت وحدة الدولة والأمة لأن الوحدة هي ميزان القوة الرئيسي لأي حضارة وأمة ونجح اليهود ودول الغرب في إسقاط الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى وتم رسم خارطة جديدة عبر اتفاقية سايكس بيكو وقسمت الأمة العربية والإسلامية إلى دويلات قطرية وعبر هذا التقسيم عبر المشروع اليهودي وتأسس الكيان الصهيوني عبر الهجرات اليهودية المتواصلة ومع نهاية الحرب العالمية الثانية قامت الدولة اليهودية ولم يخرج الاستعمار البريطاني والفرنسي إلا بعد نجاحه في تأسيس الدول القطرية وجاء إعلان استقلال الدول القطرية مكرساً لواقع التجزئة والفرقة.

والمشروع الشرق أوسطي اليوم هو مشروع يستهدف رسم خارطة سياسية جديدة أكثر تمزيقاً بحيث يتم تحويل إسرائيل إلى قوة إقليمية في الشرق الأوسط تهيمن على المنطقة وتسيطر على كافة موارده الإستراتيجية بإلغاء الدولة القطرية لأنهم ما يزالون يشعرون بخطرها بإلغاء وحدة الدولة السياسية ووحدتها الوطنية بتمزيق الدولة إلى دويلات والشعوب إلى كتل طائفية عرقية ومذهبية متصارعة متقاتلة والمخطط يستهدف إنهاء الدول المحيطة بإسرائيل والداخلة في حدود إسرائيل الكبرى وهي العراق وسوريا ومصر والسعودية والسودان في المرحلة الأولى ويتم تمرير هذا المشروع لتجزئة المنطقة باسم الإصلاح السياسي والديمقراطية وهو شعار مخادع لأن الديمقراطية لا تعني إلغاء وحدة الدولة ووحدة الأمة وتحويل المجتمع إلى عصبيات متقاتلة فهذه أشد أشكال المجتمعات تخلفاً وقد تلقت الإدارة الأمريكية هذا المخطط من منظرين يهود شيمون بيرز في كتابه (الشرق الأوسط الجديد) وبنيامين نيتن ياهو هو في كتابه (مكان تحت الشمس) وقد أوضح نيتن ياهو هو في كتابه الديمقراطية التي يريدها للأنظمة العربية عندما قال نريد ديمقراطية حقوق الأقليات لا ديمقراطية تعدد الأحزاب وهذه ليست ديمقراطية وإنما مشروع تجزئة يمرر تحت شعار براق ووضع العراق خير شاهد.

وما نخلص به أن مشكلتنا في تاريخنا وفي واقعنا اليوم هو غياب وحدة الدول العربية والإسلامية والحل لكل مشاكلنا يكمن في هدف واحد وحدة الدول العربية والإسلامية.

وما يؤكد أن الوحدة سنة اجتماعية لقيام الحضارات والفرقة سنة اجتماعية لهدمها حتى على غير الدول الإسلامية.

لوجدنا على سبيل المثال أن الولايات المتحدة الأمريكية ارتبط تاريخ نهضتها وتحولها إلى قوة عظمى وإمبراطورية عالمية بتوحدها عندما اتحدت في دولة واحدة بعد أن كانت ثلاثة عشر دولة مع إدراك أن الفيدرالية تكون خطوة نحو الوحدة عندما تكون إطاراً سياسياً لعدة دول تتوحد أما تطبيق الفيدرالية داخل الدولة الواحدة فتكون مشروع للتجزئة كما يحصل الآن في العراق، والمشروع الشرق الأوسطي لتجزئة الدول القطرية هو سلسلة مشاريع فيدرالية لتفكيك العراق وسوريا والسعودية ومصر.

وكذلك الاتحاد السوفيتي كان قوة عالمية بعد توحده وتفكك وانهار بعد تمزق وحدته السياسية.

وإذا رجعنا إلى أغوار التاريخ القديم لوجدنا نفس السنة الاجتماعية فالحضارات السامية القديمة الحضارة اليمنية السبأية وحضارة أشور في العراق والفرعونية في مصر وأكسوم في الحبشة والحضارة اليونانية ارتبطت نهضتها وازدهارها بوحدتها وكان من أخطر العوامل التي أدت إلى انهيارها أنهم أخذوا بمبدأ اللامركزية السياسية حتى انقسمت تلك الدول بعدد مدنها حتى أصبح هذا الانقسام على مستوى المدن ظاهرة في الحضارات السامية فأطلقوا على هذه الظاهرة تسمية (دول المدينة) وكتب كثير من فلاسفة تلك المرحلة حول هذه الإشكالية مثل إفلاطون وأرسطو.

الإسلام يأمرنا بالوحدة وينهانا عن الفرقة:

الوحدة كما أسلفت سنة كونية وسنة بشرية وأصل من أصول كافة الأديان ومقصد وفريضة إسلامية لأنها أساس قيام المجتمعات والدول والحضارات وأول خطوة من خطوات الإصلاح السياسي لذلك أمرنا الله بها وجوباً ونهانا عن الفرقة تحريماً واعتبر الوحدة قرينة الإيمان والفرقة قرينة الكفر وأنها ميزان القوة لمواجهة المخططات الغربية ولنتدبر قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ{100} وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{101} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ{102} وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ{103} وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{104} وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ{105} يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ{106} وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{107} تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ{108} وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ{109} كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ{110} لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ{111}.[آل عمران:100-111]

ولو تأملنا هذه الآيات العظيمة من سورة آل عمران سنجد التحذير لنا من مخططات اليهود والساسة الغربيين الهادفة إلى تجزئة وتمزيق وحدة الأمة العربية والإسلامية واعتبر القرآن النكوص عن الوحدة إلى الفرقة ارتداد عن الإيمان إلى الكفر بصريح الآيات: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ{100} وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{101} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ{102} وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ{103}

وبعد التحذير من مؤامرات اليهود ومخططاتهم الاستعمارية لتمزيق الأمة العربية والإسلامية نجد أن الله سبحانه وتع إلى يأمرنا بالوحدة والأمر كما يقول علماء الأصول يقتضي الوجوب وينهانا عن الفرقة والنهي يقتضي التحريم.

فقوله تعالى: ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً ) أمر صريح بالوحدة وقوله تعالى: ( وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) نهي صريح عن الفرقة. وقوله تعالى: ( وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً )

فالإسلام منهج لإصلاح حياتنا في الدنيا والآخرة ومن أعظم ثمار الإسلام هدايتنا إلى صراط النعمة في الدنيا والآخرة {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ{6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ{7} ، فالتوحيد والوحدة هي أعظم النعم لإصلاح حياتنا الدنيا بدليل قوله تعالى: ( وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ).

والقرآن هنا يبين لنا سنة من السنن الاجتماعية المتعلقة بأحوال الدول والمجتمعات تقدماً وتخلفاً هذه السنة الاجتماعية التي يطرحها القرآن ويؤكدها علماء السياسة والاجتماع والحضارات تتمثل في تقسيم أحوال المجتمعات تخلفاً وتقدماً إلى مرحلتين:

1 – مرحلة ما قبل الدولة (مرحلة التخلف): وهي المرحلة التي تغيب فيها الدولة التي هي الناظمة لوحدة الأمة فيسبب غياب الدولة إلى انقسام المجتمع إلى عصبيات وطوائف متحاربة متقاتلة هذا المجتمع لابد أن يكون متخلف لأنه في أجواء الحرب والصراع ينعدم الأمن وتنعدم التنمية وهي الصورة التي كان عليها عرب الجاهلية وتتكرر هذه الصورة كسنة اجتماعية في كل ظرف تتمزق فيه الدولة فيحصل تمزق للمجتمع إلى طوائف متقاتلة متصارعة كالصومال اليوم فمشكلته باختصار حالة غياب الدولة ولو سألنا أي صومالي اليوم بسبب الحروب والمعاناة ماذا تريد لأجاب دولة قوية حتى ولو مستبدة لإيقاف تزيف الحرب وهذا المشهد اليوم موجود في العراق، لأن الدولة بالنسبة للمجتمع كالرأس بالنسبة للجسد كسنة اجتماعية وإذا قطعت رأس الإنسان لا نرى إلا الدم والموت وكذلك الحال بالنسبة للمجتمعات والدول إذا تم إلغاء الدولة وفصلها عن المجتمع بالتجزئة والتفكيك انقسم المجتمع إلى طوائف متحاربة فلا ترى إلا الموت والدم النازف وهذا حصل في لبنان أيضاً الحرب الأهلية وصراع الطوائف هذه السنة الاجتماعية أشار إليها القرآن بقوله تع إلى {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } الأنعام: 65.

فقوله تع إلى (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ) هنا إشارة إلى سنة اجتماعية ثابتة مطردة عبر التاريخ حالة غياب الدولة وانقسام المجتمع إلى شيع والشيع بالمصطلح القرآني هي العصبيات المختلفة (مذهبية، قبلية، طائفية، عرقية).

وبين القرآن لنا النتيجة لغياب الدولة وانقسام المجتمع إلى طوائف متحاربة بقوله (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) حالة الحرب الأهلية بين الطوائف والدم والقتل ولهذا شدد القرآن على وحدة الدولة ووحدة الأمة واعتبر تفكك وحدة الدولة السياسية ووحدتها الوطنية إلى شيع أي طوائف متحاربة كفر لخطورة الأمر على الناس {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } الأنعام:159. {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } الروم:32.

والدين هنا كما أوضحت سلفاً هو النظام السياسي والاجتماعي القائم بحسب الشريعة الإسلامية فلا فصل بين الدين والدولة ( مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ) يوسف :76.

فهناك دين ونظام بشري وهناك دين ونظام سياسي سماوي ومن هنا نفهم معنى قوله تعالى: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه).

لأنه لا يقوم المجتمع إلا بوحدة الدولة ووحدة الأمة ما لم فهي الحرب الأهلية.

2 – مرحلة ما بعد الدولة وتنقسم إلى مرحلتين:

أ – مرحلة الدولة العادلة وهذه أحسن الخيارات التي تؤدي إلى التنمية والحضارة.

ب- مرحلة الدولة الطاغويتية المستبدة وهي مرحلة سيئة ولكن علماء السياسة والاجتماع يعتبرونها أقل خطراً من مرحلة اللا دولة مرحلة المجتمع المنقسم إلى شيع وطوائف متحاربة كالصومال والعراق.

ولهذا نجد الإسلام اهتم بإقامة الدولة العادلة وهي الدولة الحرة الشوروية ، وعمل على محاربة الدول الطغيانية المستبدة، فإذا أدركنا هذه المعايير التي هي سنن اجتماعية سندرك لماذا أمتن الله على المسلمين بنعمة الوحدة ( وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ )(نار الشيع والطوائف المتحاربة) ( فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ).

لأن الإسلام هدى المسلمين لإقامة الدولة الواحدة والأمة الواحدة وأخرجهم من حالة المجتمع المنقسم إلى شيع وعصبيات متقاتلة ولذلك آمنهم من خوف وأطعمهم من جوع. بعد الأمر بالوحدة والنهي عن الفرقة ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) يأتي البيان القرآني لآلية قيام الوحدة فيبدأ بالتأكيد على وحدة الدولة لأنه لا يمكن قيام وحدة الأمة دون وحدة الدولة وهذه سنة اجتماعية عبر التاريخ، بقوله تع إلى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }.

والآية هنا رغم عدم وضوحها إلا أنها تشير إلى وحدة الدولة من خلال التوجيه الرباني بوجوب انبثاق طليعة قيادية من الشعب ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ ) وهي الدولة وقوله ( مِّنكُمْ ) من الشعب والأمة وقوله تع إلى ( وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يكون إلا عبر دولة وسلطة بدليل قوله تع إلى (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر).

وقوله تعالى: ( يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ) أي دولة تعمل على توحيد الأمة لأن وحدة الأمة أعظم الخيرات لقوله تع إلى (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم فاستبقوا الخيرات) فصريح القرآن يبين أن أعظم الخيرات هي وحدة الأمة وأمرنا بالتسابق لتحقيقها لأن وحدة الأمة توحدنا صفاً وهدفاً وطاقات بشرية وإمكانات مادية. أما تمزق المجتمع إلى شيع وعصبيات متقاتلة فيؤدي إلى هدر الطاقات البشرية قتلاً وصراعاً والإمكانات المادية نفقات للحروب.

بعد الأمر بوحدة الدولة يعود النهي من الفرقة بقوله تع إلى { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ{105} يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ{106} وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{107}

وهنا نلحظ النهي الشديد عن الفرقة والاختلاف ( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ ) لاسيما بعد مجيء البينات الواضحة الكاشفة لمشاريع التجزئة والانفصال بحيث لم يعد هناك التباس ( مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) فما قبل البينات قد تكون زلة وقد قال علماء التراث سابقاً مقولة صحيحة (زلة العالم تزل بها أمة).

والقرآن يؤكد أن ما قبل مجيئ البينات يعتبر زلة لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ{208} فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ{209} البقرة (208- 209).

أما الاختلاف من بعد البيان فلا يعتبر زلة وإنما نكوص عن الإيمان إلى الكفر بصريح القرآن:

{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ{105} يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ{106}.

وقد اعتبر القرآن مقام الوحدة هو مقام الإيمان لا مقام الإسلام وفي هذا سر قرآني جميل نكشف عنه بعونه تع إلى هذا السر يتمثل في أن المجتمع المنقسم إلى شيع وعصبيات متحاربة متقاتلة يكون الإسلام لهم في البداية بمثابة إعلان هدنة وحالة سلام فينتقل المجتمع المنقسم إلى عصبيات إلى السلام بعد الحرب ولكن تظل نوازع العصبية قائمة وهذه الروح العصبية لا يتم تذويبها وصهر المجتمع في بوتقة واحدة إلى درجة الإخوة الإيمانية إلا في مقام الإيمان لا الإسلام لأن الإيمان مرحلة أعلى، مرحلة عبادة الله كأنك تراه وهي مرحلة الحب في الله والبغض في الله فالإيمان عبر المجاهدة والعبادة تجعل المؤمن يحب الله أكثر من أي شيء وحب المؤمن لله يجرده من العصبية فلا يحب إلا لله ولا يبغض إلا لله فيتحول أفراد المجتمع إلى أخوة بعد العصبيات وهذه أقوى أنواع الوحدة وأشد حالات التماسك الاجتماعي ( وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ). إذن فمقام الإيمان هو مقام الحب ومقام الفرقة هو مقام الكراهية .

ولما كانت الحضارات وليدة تماسك المجتمعات فإنها لا تقوم إلا في واقع اجتماعي تحول من إطار العصبيات القبلية والطائفية إلى مرحلة ذوبان هذه العصبيات ولذلك فصفة الشعب لا تطلق إلا على مجتمع متقدم فيه دولة وحضارة وصفة قبائل متعصبة تطلق على مجتمع متخلف متحارب وهذا معنى أن يكون الناس (أمة واحدة) شعب ومعنى قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ{13} قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{14} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ{15} الحجرات: 13-14.

{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } الحجرات: 17.

ولو تأملنا في تاريخ اليمن لأنها كانت مهد الحضارات الإنسانية ومهد الأديان لأدركنا أننا ندخل ضمن الوصف القرآني شعوباً لأن الحضارات وليدة شعوب ذابت فيها روح العصبية ونحن بالفعل شعب واحد دماً وعرقاً وشعب واحد عقيدة وديناً ومن يراجع المفردات اللغوية الحميرية سيجد المصطلحات الحميرية تتحدث عن شعب اليمن ولا يجد مفردة قبيلة في اللغة الحميرية وأنا هنا لا أذم القبيلة فكلنا أبناء قبائل ولكن أذم العصبية القبلية وهذه العصبية لم تنمو في اليمن إلا من بعد مجيئ الأئمة لأنهم لا يحكموا اليمن إلا عبر إثارة العصبيات والحروب بين اليمنيين ومما يؤكد فهمي لهذا المصطلح القرآني (شعوباً وقبائل) الآية التي جاءت بعدها مباشرة {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ }الحجرات14. فهذه الآية أكدت ما ذهبت إليه في التفريق بين مقام الإيمان ومقام الإسلام ووصفت الأعراب وهي حالة المجتمع المنقسم إلى عصبيات قبلية بالإسلام لأن روح العصبية لم تذهب بعد واعتبرت مقام الإيمان هو مقام تذويب الروح العصبية الطائفية والقبلية مرحلة (إنما المؤمنون أخوة) (مقام الحب في الله والبغض في الله).

فإذا أدركنا هذا الفرق بين الإيمان والإسلام سندرك عندئذ لماذا قال القرآن (أكفرتم بعد إيمانكم) لأن مقام الإيمان أعظم من مقام الإسلام ولو تدبرنا القرآن لوجدنا أعظم المعاني فيه تتلخص في الحكمة والإيمان (ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا). (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل). { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ{108} وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{109} البقرة: 108.

د) رسل الله عبر التاريخ دعاة توحيد ووحدة:

إن المتدبر في القرآن الكريم سيدرك أن رسل الله عبر التاريخ البشري كما كانوا قيادات لحركات تحرر ثورية ضد الطاغوت لإنجاز الهدف الأول والشق الأول لكلمة التوحيد عملية النفي والهدم الثورية لحكم الطاغوت والانتصار للأغلبية المستضعفة من أفراد الشعب والأمة ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت).

سيدرك أيضاً أن رسل الله عبر التاريخ أنجزوا المرحلة الثانية من مراحل التغيير (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وهي مرحلة البناء والتنمية وإقامة مشاريع نهضوية حضارية ولذلك نجدهم دعاة توحيد ووحدة باعتبار الوحدة هي عنوان مرحلة النهوض الحضاري الشامل والوحدة بالمفهوم الحضاري النهضوي تبدأ بالوحدة السياسية (وحدة الدولة) ثم بالوحدة الاجتماعية (وحدة الأمة) ولا تتوقف عند هذا الحد بل تصل عبر الخطط والبرامج إلى مرحلة يمكن تسميتها الوحدة الحضارية النهضوية (وحدة الطاقات البشرية ووحدة الإمكانات المادية) التي تتضافر جميعاً ولا تتصادم لتحقيق أهداف مشتركة (المصلحة العامة) والمصالح الشخصية تتحقق ضمن الصالح العام ولا تسبقه [ العقل الجمعي للأمة (العلم) والإرادة الجمعية للأمة (الإيمان) والإنجازات التنموية النهضوية الحضارية (العمل الصالح) (مبررات العقل ودوافع القلب وحركة اليد)].

وأهم شروط وحدة التنمية والنهضة والحضارة هو عنصر التنمية البشرية (عالم الأشخاص) فإذا أنجزنا إعداد الكوادر القيادية لإدارة شؤون الدولة نكون قد أصلحنا (عالم الأفكار) لأن ثروة المجتمع تقدر بما يملكه في عقول أبنائه من أفكار لابما في جيوبهم من أموال وبإصلاح عالم الأشخاص وعالم الأفكار يتم إصلاح عالم الأشياء فيحصل البناء والإعمار للأرض ويعم الخير والرفاه والنعمة أفراد المجتمع لأن بناء الحضارات لا يكون باستيراد منتجات حضارة أخرى وإنما بعقول وجهود أبناء المجتمع والحضارة نفسها.

فإذا أدركنا هذه الأبعاد للوحدة سندرك عندئذً معنى قوله تع إلى { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ{51} وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ{52} فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ{53} المؤمنون:51-53.

إذاً كل رسل السماء كانوا دعاة توحيد ووحدة بل أقاموا مشاريع وحدوية في الواقع وكان هذا أبرز ما فعلوه {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ{52}.

وعبر المشاريع الوحدوية التي أقامها رسل الله عبر التاريخ أقاموا مشاريع نهضوية حضارية وتنموية { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ{51}.

وبهذا نفهم قوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ{15} فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ{16} ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ{17} سبأ: 11-17.

إن كل المشاريع النهضوية الحضارية عبر التاريخ ارتبطت برسل الله وبديانات السماء وإن دورات السقوط الحضاري تحصل بسبب الانحراف عن حقيقة هذه الأديان.

وبهذا يتضح لنا مدى العلاقة بين المشاريع النهضوية الحضارية { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ{51}.وبين المشاريع الوحدوية {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ{52}.

وفي قوله تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ{53} المؤمنون:53. بيان قرآني واضح لعوامل سقوط الحضارات وانهيار المجتمعات والدول كسنة اجتماعية مطردة وهو أن بداية الانهيار يبدأ بتقطيع الأمر والمقصود بتقطيع الأمر هنا تقطيع الدولة تقطيع أمر دولتهم لأن مصطلح أمر في القرآن يأتي مقابل مصطلح الدولة بدليل قوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) أي أمر حكمهم ودولتهم.

فكما أن بناء المجتمعات والدول والحضارات يتم بإقامة وحدة الدولة ووحدة الأمة فإن انهيارها يتم ابتداءً بتقطيع وحدة الدولة فيؤدي تقطيع وحدة الدولة إلى تمزيق وحدة الأمة.

وكلمة تقطيع تعبير قرآني قوي وواضح يشير إلى مشاريع التجزئة وخطورتها، بهذا أكون قد بينت أهمية الوحدة كمقصد من أعظم مقاصد الدين مرتبط بتوحيد الله جلا جلاله وأسأل الله أن يعي جميع المسلمين خطورة التمزيق والفرقة فيبادروا إلى تحقيق الوحدة وعندها يتحقق لهم التوحيد الكامل كما أراده الله منهم عبر وحدتهم في ظل منهج الله.

__________
مسئول التخطيط السياسي سابقاً في التجمع اليمني للإصلاح

الحلقة الأولى والثانية:

الموقف الشرعي من مشاريع التجزئة والإنفصال (1-3)
الموقف الشرعي من مشاريع التجزئة والإنفصال (2-3)

زر الذهاب إلى الأعلى