للإجابة على هذا السؤال سنقول ابتداء أن الدين هو ما جاءت نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة للدعوة إليه وتبيان حقيقته.
وقد أوضح القران حقيقة الدين في قوله تع إلى ( إن الدين عند الله الإسلام ). كما قرر للدين درجتين أساسيتين هما الإسلام والإيمان فقال تع إلى ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ). فالإسلام بمقتضى الآية عمل قولي لفظي وعمل جوارح ظاهري، والإيمان اعتقاد قلبي باطني.
وقد استعمل لفظ الإسلام في القرآن بمعنيين مختلفين: معنى عام ومعنى خاص فالمعنى العام هو ما أوضحته آية ( إن الدين عند الله الإسلام ) فكل دين سماوي هو إسلام وأتباع هذا الدين السماوي أو ذاك مسلمون، قال تع إلى ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين، إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ) وحكى الله عن إبراهيم قوله (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن امتنا ذرية مسلمة لك )
وقال تع إلى عن حواريي عيسى عليه السلام (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ) وحكى القران عن سحرة فرعون قولهم ( وما تنتقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ). أما المعنى الخاص فهو نطق الإنسان البالغ المميز بالشهادتين ( اشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله ) ومعناهما الإقرار بإفراد الله تع إلى وحده بالإلوهية والعبادة والإقرار بأن محمدا هو رسوله إلى الناس.
وكذلك ورد الإيمان في القرآن بمعنيين: خاص وعام. فالمعنى العام هو المعنى اللغوي الذي يعني التصديق واليقين وهذا المعنى العام ورد في الآيات الذي ذكرنا آنفا (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا أمنا بالله )
وقول سحرة فرعون ( وما تنتقم منا إلا أن آمنا ). والمعنى الخاص وهو المعنى الاصطلاحي الذي يعني صفة جماعة المؤمنين الذين أمنوا بالرسالة المحمدية إيمانا قلبيا بعد تسليمهم لها اسلاما ظاهريا لفظيا.
وقد ميز الله في خطابه القرآني أتباع النبي ( ص) بهذا المعنى الخاص فخاطبهم بقوله (يا أيها الذين آمنوا) و(إن الذين آمنوا) و(المؤمنين) و(أولئك هم المؤمنون) ....الخ.
ما للمسلمين في الدنيا والآخرة
إن النطق بالشهادتين عن يقين وتصديق وسيلة لدخول الجنة في الآخرة لقوله صلوات الله عليه لعمه عند الموت ( قل لا إله إلا الله اشهد لك بها يوم القيامة )، وقوله (ص) ( اشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى بهما عبد غير شاك فيهما الا دخل الجنة )
وقوله ( ما من احد يشهد لا اله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله صادقا من قلبه إلا حرمه الله على النار ) وقوله ( لا يشهد احد ألا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه )
وقوله( من قال أشهد ألا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله حرمه الله على النار ) وهذه الأحاديث الخمسة متفق عليها وأخرجها مسلم في كتاب الإيمان. ومن الواضح لنا ان هذه الأحاديث مخصوصة بالمسلم المؤمن لان شرطها كلها التصديق واليقين القلبي.
كما أن النطق بالشهادتين يجعل الناطق بهما جزءا من الجماعة الإسلامية له مالها وعليه ما عليها، ويعصم ماله ودمه في الحروب الدينية التي جرت في بدء الرسالة، عندما أمر المسلمون بالقتال دفاعا عن أنفسهم وإثباتا لحقهم في الاعتقاد والتعبير عن معتقداتهم بحرية.
ومما يدل على ذلك الحديث المتفق عليه من رواية أسامة بن زيد رضي الله عنه قال ( بعثنا رسول الله (ص) إلى الحرقة من جهينة فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم فلما غشيناه قال (لا اله إلا الله ) فكف عنه الأنصاري وطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي (ص) فقال لي: يا أسامة أقتلته بعدما قال لا اله إلا الله؟ قال قلت: يا رسول الله إنما كان متعوذا .قال : أقتلته بعدما قال لا اله الا الله فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.
وفي رواية أخرى عند مسلم : ( أقال لا اله الا الله وقتلته؟ ) قال: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح قال: ( أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ...) ومثله الحديث المتفق عليه أيضا عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه انه قال لرسول الله (ص) : ارايت إن لقيت رجلا من الكفار فاقتتلنا فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله اقتله يا رسول الله بعد ان قالها؟ فقال رسول الله (ص): لا تقتله فان قتلته فانه بمنزلتك قبل ان تقتله وانك بمنزلته قبل ان يقول كلمته التي قال )
ومثله أيضا ما رواه عبدالله بن عمر قال: ( بعث النبي (ص) خالد بن الوليد إلى بني حذيفة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا ان يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون: صبانا صبأنا فجعل خالد يقتل فيهم ويأسر ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره فقلت والله لا اقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا على النبي (ص) فذكرناه فرفع النبي (ص) يديه فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد).
من هو المؤمن
المؤمن هو المسلم المصدق الموقن فله ما للمسلم كما ورد في أحاديث رسول الله (ص) ويرتبط الإيمان بالعمل الصادر عن إخلاص لا عن رياء أو تقية، ويتفاوت الناس في درجاتهم في الآخرة بأعمالهم فمنهم من يرقى إلى مقام الإحسان ومنهم من يصل إلى مكانة المقربين.
الخروج من الملة
الكفر خفي ومعلن ولا يحكم في الخفي إلا الله المطلع على السرائر، والظاهر هو إعلان المرء أنه على غير دين الإسلام ولا شيء عليه للناس ولا بأس عليه منهم في ذلك مطلقا وقد شرحنا ذلك كفاية في العدد الماضي من الوسطية انظر (الاجتهاد والشريعة الإسلامية). والكفر ليس حالة مؤبدة فقد منح الله الإنسان مهلة عمره في الدنيا ابتلاء منه، وإنما العبرة بالخاتمة. وما تخويف الله الناس بقصص الكافرين من الأمم الماضية الذين أخذهم بغتة إلا تحذيرا من نهاية مفاجئة لا تدع لهم فرصة للمراجعة والتوبة. وما المكفرون الداعون إلى قتل من كفر إلا كوارث طبيعية كالزلازل والأعاصير، وإن أدري لعمري ما جعلهم كذلك إلا إتباع فرعون وأبي جهل اللذين اخبر القرآن أنهما يقتلان من لم يكن على ملتهما، وإلا فان الكافر يسعه ما وسع أهل الكتاب والمجوس والهندوس.
التكفير بالرأي
ذو الرأي لا يعدو كونه مبتدعا أو مجتهدا وهو في كلا الحالين متأول وليس على المتأول حرج طبقا لآراء غالبية فقهاء المسلمين الأولين والآخرين. ولكن التأويل قضية كبيرة تحتاج إلى تناول واسع أورده فيما يلي:
الإسلام وسلطة تأويل النص*
عندما قال المتصوف المسيحي البروتستانتي يعقوب بوهمة الذي عاش في القرن السادس عشر: "إن اختلاف أفكاره عن أفكار واضعي الأناجيل بطرس أو بولس راجع إلى أن الناس لم يتمسكوا بقلب الله قبل أن يقرؤوا الإنجيل"، أرعب هذا التدين الذي يقول "دع كل إنسان يكن ضمير نفسه وكنيسة نفسه"، قساوسة الكنيسة.
لأن مثل هذا الدين الفوضوي لا يمكن أن يكون دينا عملياً لكل إنسان، وإنما يصلح للنوابغ فقط. إذ لو حاول كل إنسان "أن يتشبث بقلب الله"، وأن يفعل ما يظن أن الله قد أراد أن يفعل، فإن الميالين إلى الإجرام سيجدون أن الله ينصحهم بان يقتلوا ويسرقوا.
في حين أن أولئك الذين يتميزون بدوافع جنسية شديدة سيكتشفون أن الله يأمرهم بأن يغتصبوا الفتيات. ولقد آمن أصحاب مذهب التاك في الهند بأن الله أمرهم بان يقتلوا ما وسعهم القتل" (كتاب سقوط الحضارة – كولن ويلسون(.
إن النص سواء كان دينياً أو وضعياً، بغض النظر عن صحة محتواه، يستمد قوته الإلزامية وشرعيته القانونية من قبول عام أو غالب من قبل الشعب طوعاً أو كرهاً، أي أن النص يستمد شرعيته وإلزاميته من القوة؛ سواء كانت قوة الشعب الذي تقبَّل النص طوعاً، أو قوة سلطة حاكمة فرضت النص على الشعب، فرضي به وتقبله. ويصبح النص ملزماً عندما يعتبر مرجعاً قانونياً.
ولكن كل نص بما هو نص، قابل لقراءات متعددة تؤدي إلى تأويلات مختلفة لنفس النص، ومن هنا كان من المهم - منعاً للنزاع- تضييق مجال التأويل، وحصر تقنين النص في سلطة وحيدة تحتكر حق تأويله.
ولنضرب مثالاً لذلك بالإمبراطورية الرومانية ثم بأوروبا: حيث نجد أن تأويل النص التشريعي في الإمبراطورية الرومانية، كان حكراً على شخص الإمبراطور عندما يكون النظام ملكياً، وحكراً على مجلس الشيوخ عندما يكون النظام جمهورياً.
أما بعد تبني الإمبراطورية الرومانية للديانة المسيحية، حيث أصبح النص الديني مصدراً هاماً من مصادر التشريع فيها فقد احتكرت الكنيسة حق تأويل النص الديني وحتى يومنا هذا.
وفي عصر التنوير وما بعده، عندما عاد القانون الوضعي ليصبح النص المهيمن، وتم إبعاد النص الديني عن مجال التشريع القانوني، فقد أصبح تأويل النص القانوني حكراً على السلطة القضائية ممثلة بالمحكمة الدستورية العليا.
ومن هنا نستنتج أن هذا الحرص الأوروبي الشديد منذ القدم على حصر سلطة تأويل النص التشريعي بسلطة وحيدة هو السبب الرئيسي لشيوع سيادة القانون واحترامه وهيمنته على حياة الناس هناك.
نعيش حالة عرفتها أوروبا
في كتابه (فكرة القانون) قال المحامي اللورد دينيس هاملتون: "إنه حتى التوراة تظل مليئة بالشكوك والغموض اللغوي، وهي بحاجة إلى من يملك السلطة على تفسيرها إذا ما أريد لها أن تعامل على أنها ذات طابع تشريعي. من هنا يتضح أن مدى التفسير الشخصي يظل غير محدد حيث يتنافس الإيمان والتعصب لفرض سيطرتهما على إتباعهما، ونبذ أو معاقبة الذين يرون تفسيراً للقانون أو إلهاما يختلف عن التفسيرات الأخرى للقانون.
ونظراً لأن أي رفض لكيان قانوني قائم يعتبر رفضاً لإرادة الله، فإن الواضح أن أي خلاف في الرأي حول نقاط متنازع عليها، يفترض عنفاً في الجريمة لا يمكن أن يرقى إليه أي خلاف حول قانون وضعي.
ومعالجة كهذه ستؤدي إما إلى انتصار أصحاب الرأي الأرثوذكسي الصارم، الذين سيفرضون معتقداتهم الأخلاقية على كل مناحي حياة الجماعة، كما كان الحال في جنيف في عهد الكلفانيين.
أو إلى فوضى يفسر فيها كل فرد القانون حسب رؤياه الخاصة، وهذا ما كان عليه الحال في العديد من المناطق الألمانية في عهد الإصلاح الأول، عندما حاول زعماء متعصبون تابعون لطوائف متعصبة فرض معتقداتهم على كافة المجتمعات، في وقت كانت فيه الحمى الدينية هي سمة العصر".
ويرينا هذا النص أن الحالة التي تعيشها الفرق الإسلامية المختلفة هذه الأيام هي نفسها الحالة التي عاشت فيها أوروبا ما بعد القرون الوسطى بعد الثورة الكنسية البروتستانتية، وهي حالة ينصب فيها الناس أنفسهم حكاماً باسم الإله.
النص والمجتمع الإسلامي
لم يعرف العرب سلطة النص إلا بعد ظهور الإسلام بظهور النصوص التي أصبحت مصادر التشريع: القرآن والسنة والإجماع. وقد نقل الفاتحون العرب أسلوب تعاملهم مع النص إلى المجتمعات التي فتحوها، والتي عرفت سلطة النص قبلهم.
وفي مراحل الإسلام الأولى وحتى بدايات عهد الخليفة عثمان بن عفان، كان إجماع الصحابة يشكل نوعاً من الاحتكار لسلطة تأويل النص.
ولكن بعد تفرق الصحابة في الأمصار، أصبح تأويل النص حقاً مشاعاً لكل فقيه، وأحياناً قام به حتى غير الفقهاء. ولذلك تعددت المذاهب ضمن الدولة الإسلامية الواحدة؛ سواء في الجانب الموالي للسلطة الحاكمة، أو في الجانب المعارض لها، كنتيجة مباشرة لشيوع سلطة وحق تأويل النص بين الناس كافة.
ولقد كانت هذه المشاعية في التأويل وستظل سبباً رئيسياً في الانتقاص من شرعية كل نظام حكم في العالم الإسلامي، وهو ما أدى أيضا إلى لجوء أنظمة الحكم إلى ممارسات خارج النص، أو عبر تأويلات متعسفة له، لضمان حماية الأنظمة من الخارجين عليها من المتأولين الكثر؛ الأمر الذي كان من أبرز نتائجه تعذر قيام ظروف ملائمة لنشأة الممارسات الديمقراطية وسيادة القانون في المجتمعات الإسلامية.
وهي ممارسات وأساليب في الحكم تتطلب قدراً كافيا من استقرار أنظمة الحكم، وعدم الجدل حول شرعيتها. وهو ما لم يتوفر نظراً للتشكيك في شرعية أنظمة الحكم من قبل معارضيها، مستندين إلى نفس النص الذي تستمد أنظمة الحكم شرعيتها منه.
وقد شهد الفكر القانوني الإسلامي (الفقه)، محاولات لإضفاء الشرعية على احتكار السلطان لحق تأويل النص. وكان من أبرز هذه المحاولات (الأحكام السلطانية) للماوردي، ولكن هذه المحاولات تعرضت للإدانة والتشهير من قبل كثير من المثقفين المسلمين قدماء ومعاصرين، بحجة أنها تهدف إلى إضفاء الشرعية على الاستبداد، وحرمان المسلمين من حق الاختلاف مع السلطة.
الفكر الدستوري
إن مراجعةً أولية لتطور الفكر الدستوري في الديمقراطيات الغربية تدلنا بوضوح إلى أن مصادر هذا الفكر الأساسية هي دينية بالدرجة الأولى. فقد كان هناك دائماً جانبان يتجاذبان هذا الفكر، ويتمثلان في فكرة القانون الإلهي، والقانون الوضعي. وفيما يتعلق بفكرة القانون الإلهي، سنجد أنها نجمت عن مساواة القانون بالأخلاق، حيث اعتبر القانون والأخلاق شيئاً واحدا، على اعتبار أن الوحي الإلهي يهتم أساساً بالحض على مكارم الأخلاق.
وقد حدثت ردة أطاحت منذ القرن السابع عشر وحتى بدايات القرن العشرين بفكرة القانون الإلهي، نتيجة للثورة التي حدثت في أوروبا على الفكر الكنسي. ومنها نشأت فكرة أن معنى الأخلاق الحقيقي هو إطاعة القانون كما قال توماس هوبز، ونشأ القول بالتفوق الأخلاقي للدولة على الفرد، بحيث لا يستطيع الفرد أن يطلب حقاً أكبر من حقه في أن يطيع قانون الدولة، التي يشكل جزءاً تافهاً منها بحسب نظرية هيجل.
ولكن هذا التنازع بين القانون الإلهي الأخلاقي والقانون الوضعي، تمت تسويته في النهاية لمصلحة القانون الأخلاقي، بسبب ما ترتب على الفلسفة الوضعية في مجال القانون من نتائج خطيرة على المجتمع الإنساني، تمثلت في الحربين الأولى والثانية، التي قادتها دول وضعت نفسها في مقام المشرع المقرر لما هو أخلاقي وحق.
ولكن التطور الأساسي الذي حدث، هو أنه بدلاً من الوضع الذي كان ينظر فيه إلى القانون الأخلاقي على أنه يفرض الواجبات والمحظورات، فقد أصبح ينظر إليه في أيامنا هذه على أنه مصدر الحقوق الديمقراطية الأساسية؛ التي تقيد حرية الحكام الذين كانوا يعتبرون أنهم يتمتعون بسلطات مطلقة، نظراً لقيامهم بتوحيد أنفسهم مع الدولة، التي رأى الوضعيون أنها صاحبة الحق في تقرير ما هو أخلاقي، وبالتالي ما هو قانوني.
وبدلاً من ذلك أصبح يعبر عن القانون الإلهي الأخلاقي بالقانون الطبيعي؛ الذي يتميز بالقول بالحقوق الطبيعية للأفراد، وبالواجبات المترتبة على البشر، في تعاملهم مع الكائنات كلها بما فيها الطبيعة الجامدة، التي يعبر عنها بلفظة البيئة.
إذن فإن القانون الغربي الذي تشرعه وتضعه الأجهزة التشريعية اليوم يتقيد بفكر دستوري ذي أصل إلهي أخلاقي.
ويقول المحامي اللورد دينيس هاملتون " تطورت العقلانية إلى درجة هائلة، وهي مبدأ يؤمن بان نظامي العالم الطبيعي والأخلاقي أقيما على أسس عقلانية، وأن عقل الإنسان اسهم في طبيعة الكون العقلانية، وبذلك فهو قادر على فهمها. إن إيماناً كهذا بالعقل البشري في مضمار الأخلاق يستلزم حتماً قيام فكرة القانون الأخلاقي على أساس عقلاني تنبثق صفته الآمرة من أن على عقل الإنسان أن يقبل الحل العقلاني باعتباره الحل الخلقي أو الحل الحق. وحيث أن الكون قائم على أساس عقلاني، فإن العقل يقضي بقبول الأحكام والقوانين التي صمدت بوجه العقلانية."
وهناك من المفكرين المسلمين بل والإسلاميين من يرى ألا تعارض بين العلمانية والإسلام، فهذا محمد عابد الجابري يقول: أن بعض أئمة الحديث والفقه في الأندلس والمغرب، طرحوا مشكلة الأحاديث التي يتناقض مضمونها مع معطيات الواقع الطبيعي والتاريخي، فانتهوا إلى نتيجة عقلانية تماماً توافق مقاصد الشرع وتخدمها، فقالوا بمبدأ أصولي بالغ الأهمية عبروا عنه بقولهم: "إن كل أصل علمي يتخذ إماماً في العمل فشرطه أن يجري العمل به على مجاري العادات في مثله وإلا فهو غير صحيح".
وبعبارة الإمام الشاطبي: "تنزيل العلم على مجاري العادات تصحيح لذلك العلم وبرهان عليه إذا جرى على استقامة، فإذا لم يجر فغير صحيح". ومعنى هذا أن صحة مضمون النص الشرعي سواءً كان حديثاً شريفاً أو غيره مشروطة بمطابقة ما أجرى الله عليه العادة أي ما نسميه بلغة اليوم: قوانين الطبيعة وظواهر الاجتماع.
ثم يورد الجابري رأي ابن خلدون من مناقشة المسألة في قوله: "وقل أن يكون الأمر الشرعي مخالفاً للأمر الوجودي" معبراً بصيغة أخرى عن مبدأ معروف في الفكر الأوروبي كان المنطلق الذي قامت عليه العقلانية الديكارتية عند ديكارت نفسه كما عند ليبنتز وسيبينوزا وغيرهم. (راجع حوار المشرق والمغرب - دار توبقال للنشر).
وبدوره يقول المفكر الإسلامي زيد الوزير في كتابه الفردية كما عرضه علي حسين الديلمي في صوت الشورى العدد (34) بقوله: "وقد ناقش زيد الوزير مدى الخلط العجيب بين مفاهيم العلمانية لدى أصحابها ولدى المسلمين، وكيف كان رد فعل المسلمين الرافضين للديمقراطية العلمانية لمصطلح أو نظرية الحاكمية.
واعتبر المفكر الأستاذ زيد الوزير أن العلمانية والديمقراطية توأم لا ينفصل وانهما ليسا ضد الدين ولكنهما ضد حكم الدين الكهنوتي. كما أن العلمانية - كالديمقراطية - ليست قالباً ثابتاً أو صورة جامدة، بمعنى أنها لا تقبل إضافة ولا تطويراً.
وضرب مثالاً بالعلمانية الإنجليزية التي تختلف عن العلمانية الأوروبية في موقفها من الدين، فقد فصل الأوروبيون الدين عن الدولة فصلاً نهائياً، في حين جمع ملك بريطانيا بين رئاسة الدولة والكنيسة رمزاً للوحدة بينهما بشكل معنوي. على أن العلمانيتين ليستا ضد علمنة الضمير الديني ولكنهما ضد الكهنوت الديني."
الشريعة كمصدر التشريع
النص بأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع في دساتير البلدان العربية والإسلامية لا يتعارض مع الفكر الدستوري الذي تأخذ به أرقى الدول في مجال هذا الفكر..
والشريعة الإسلامية هي مجمل ما ورد في الوحي، وقد انبثق عنها الفقه الإسلامي الذي هو فقه وضعي بأكمله؛ على اعتبار أنه عبارة عن اجتهادات علماء الفقه والشريعة لتقنين الوحي، وهي اجتهادات تتغير باستمرار لتتناسب مع التقدم العلمي والتقني البشري، وتغير الظروف الاجتماعية، واختلاف الزمان والمكان، وهو ما قام به الإمام الشافعي عندما انتقل من العراق إلى مصر. وهذا القانون الفقهي الوضعي يتقيد بالأصل الإلهي الأخلاقي الوارد في الوحي.
والفقه الإسلامي في تياره العام السائد فقه عقلاني، يعمل بمقتضى ما يقره العقل في اجتهاداته التي يستنبطها، وليس هناك في الوحي الذي جاءت به الشريعة الإسلامية ما يتعارض مع العقل، حتى أن تياراً قوياً من تيارات الفقه الإسلامي هو التيار المعتزلي ومن تأثر به كالفكر الزيدي، قدم العقل على النقل وعرض النقل على العقل وقيده به فيما يأخذ ويدع.
وتمثل التجربة اليمنية الحالية في مجال التشريع أهم تجربة على الإطلاق في تاريخ تطور الفكر القانوني في العالم الإسلامي، بعد أن أجهضت التجربة العثمانية بسقوط الدولة. وقد تمثل ذلك بإدراج نص في الدستور يجعل الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للتشريع، وواكب ذلك عمل تشريعي واسع يهدف إلى إيجاد ترسانة من القوانين في مختلف مجالات الحياة ملزمة للمحاكم.
وهو ما يمكن القول عنه بأنه احتكار السلطة التشريعية ممثلة بالبرلمان لحق تأويل النص الشرعي وتقنينه، وفرض هذا التأويل قوانين ملزمة للجميع لا يملك حق إعادة النظر فيها - كمرجع أخير لتأويل النص الشرعي - غير المحكمة الدستورية العليا. مع السماح بحق الاختلاف الديمقراطي وحق التعبير علنا عن الاختلاف دون أن يكون لذلك أثر على القانون لانحصار حق التشريع بالمجلس النيابي ممثل الشعب.
وقد أدت هذه التجربة عمليا إلى نزع الحجة الأساسية للحركات الإسلامية السياسية المنادية بتطبيق الشريعة الإسلامية، ومن ثم نزع حق تأويل الشريعة منها، وجعلها في حالة خروجها على القانون عرضة للاتهام بالخروج على الشريعة ذاتها.
وقد كان من الممكن لهذه التجربة اليمنية أن تصبح تجربة رائدة، وفتحاً عظيما في الفكرين الدستوري والقانوني في التاريخ الإسلامي كله، وقدوة للعالم الإسلامي، لولا الممارسات الخارجة على الدستور والقانون معاً، الأمر الذي يفقد التجربة مصداقيتها، ويحرمها من فضل الريادة التي لا يمكن أن تثبت وتتأكد، إلا بالالتزام والتطبيق الصادقين لنصوص الدستور والقوانين بأمانة ونزاهة.
وإن كان الأمل قائماً في أن تؤدي التجربة نفسها إلى إيجاد ظروف مواتية تجبر الجميع على احترام الدستور والقوانين، وبخاصة الدولة التي تشكل مخالفة رموزها الفاضحة للدستور والقوانين وخروجهم عليها أهم سبب في الحالة المتردية أمنياً ومعيشياً والتي تعاني منها هذه البلاد.
وأهمية التجربة تكمن في قيام مجلس منتخب من الشعب وفيه فقهاء، بتأويل النص الديني واستمداد القوانين منه، مع وجود ضابط للتأويل في شكل محكمة دستورية عليا قوامها قضاة فقهاء مجتهدون. ولذلك يصبح مثل هذا التأويل أعلى مكانة وقيمة من اجتهاد فقيه منفرد/ أو جماعة من الفقهاء لا صفة تمثيلية لهم، فينحصر بذلك الحق الشرعي في تأويل النص الديني تأويلا ملزماً للمؤمنين في جهة واحدة، الأمر الذي يمنع الشقاق والفرقة، كما يمنع أي محاولة لجعل الدين مطية إلى الأغراض السياسية.
وهو ما سيؤدي إلى استقرار الأوضاع السياسية في المجتمعات الإسلامية. وهو استقرار مطلوب ولازم لتنمية وتقدم هذه المجتمعات في مدارج الرقي المادي والثقافي. ولكن نجاح التجربة معلق على شرط أن يكون الفقهاء المجتهدون فقهاء حقيقيين لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ولا يعملون على إصدار الفتاوى على هوى الحاكم، فيسوغون المظالم وينشرونها في مجتمعاتهم، ويفقدون الناس الثقة في الدين والمتدينين.
ولست أجد في ختام هذه التناولة - التي أرجو أن ينفع الله بها - خيرا مما قاله الأستاذ المحامي محمد ناجي علاو العضو القيادي في التجمع اليمني للإصلاح في أحد أعداد صحيفة (الصحوة) الناطقة باسم حزب التجمع اليمني للإصلاح،عندما قال: "اجتهادات البشر في إطار نص الكتاب والسنة هي اجتهادات وضعية، نعكس فيها أفهمنا للنص زمانا ومكانا، فيكون ذلك اجتهادنا الذي نعتقد بأننا نقترب فيه من الفهم الأقرب للصحة، والنص الشرعي العام. ولذلك فالكتاب والسنة تعكسها العقول الواعية المتفهمة نصوصا اجتهادية، تحتمل الصواب وتحتمل الخطأ. وهذا ما علمه إيانا أئمتنا في الفقه، كالشافعي رحمه الله الذي قال: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
ففهمنا النصوص من خلال استنباط الأحكام التفصيلية للقضايا هو فهم بشر، وهو فهم وضعي بالمطلق، لا حكم الله، وقد علمنا رسول الله ،وهو المعصوم، أنه عند التقاضي قد يقضي لمن حجته ألحن لديه، فمن اقتطع لنفسه من حق أخيه شيئا فإنما يقتطع لنفسه من النار؛ إذن ففهم البشر ليس بالضرورة حكم الله لكنه يظل في إطار الثواب متى ما بذل الناس الوسع.
ولذا اختلفت الأحكام الفقهية زمانا ومكانا وفي ذات الزمان والمكان على نفس القضية وهذا ما أعتقده؛ ولذا عطل الفاروق عمر بعض أحكام القران في المؤلفة قلوبهم وفي من سرق عام الرمادة، وهو اجتهاد وضعي بكل المقاييس. فما يهمنا هو أن هذا القانون الذي وضع يوافق مقاصد الشرع ولا يقاطع نصا قطعيا معلوما من الدين بالضرورة. والدليل الشرعي إذا اختلفت فيه الإفهام صار دليلا ظنيا، ولكل مسلم أن يأخذ بالحكم الظني الذي يعتقدأنه أقرب إلى السلامة."
والصحيح أنه لا يحق للمسلم أن يأخذ بالحكم الظني الذي يعتقد أنه أقرب إلى السلامة إلا فيما يتعلق بما لم يثبت قطعياً من أمور العبادات.
أما ما يؤثر على مصالح الناس الآخرين وحقوقهم فإن الجهة الوحيدة التي يحق لها أن تحدد الحكم في المجتمع الحديث، والدولة الحديثة هو مجلس النواب الذي يسن القوانين بتفويض من الشعب الذي يسند له ذلك الحق.
وقد جمعت هذا المبدأ المقولة الرائعة للقاضي العلامة عبد الرحمن بن يحيى الإرياني عندما قال: "نعم الحاكمية لله ولكن الحكم للشعب". فأيما فرقة أو حزب هي جزء من الشعب ولا يمكن أن تكون بديلاً للشعب في تقرير الأحكام وفرضها، إلا إذا كانت ألهت نفسها، وأرادت اغتصاب الحكم زوراً تحت شعار حاكمية الله أو حاكمية الشريعة لا فرق.
هامش
* نص من كتاب (الإسلام وقضايا العصر الكبرى) لكاتب المقالة.