الشورى في المنظور القرآني ليست أصلاً من أصول الشريعة فحسب بل هي أصل من أصول العقيدة، وليست إطاراً ناظماً للعلاقات السياسية فقط بل إطاراً ناظماً للعلاقات الإجتماعية والسياسية معاً، وكدلالة على أهمية الشورى في القرآن سميت سورة كاملة بإسم الشورى كإشارة ربانية قرآنية لبيان محورية الشورى في تنظيم العلاقات الإنسانية.
ويتعزز هذا الفهم بأن الشورى أصل من أصول العقيدة وفريضة جماعية من فرائض الإسلام ورودها قرينة الصلاة والزكاة في القرآن في قوله تع إلى {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} الشورى 38
وسورة الشورى مكية لا مدنية وهذا دليل على أن الشورى أصل من أصول العقيدة لا من أصول الشريعة.
ومما يعزز من أهمية الشورى والتشاور والحوار بين الناس كفريضة ربانية إلهية أن الأنبياء والرسل لم يتم إستثناءهم من هذه الفريضة فقد جاء في القرآن التوجيه الإلهي الصريح للرسول –ص- بمشاورة من حوله من الصحابة رضوان الله عليهم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} آل عمران159..
بل إن القرآن الكريم يبين لنا أن الله سبحانه وتع إلى شاور وحاور الملائكة في أمر تعيين آدم خليفة في الأرض بما يؤكد أهمية الشورى ليس في إختيار القيادات فحسب وإنما في إتخاذ القرارت أيضاً {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} البقرة30، فإذا كان الله ورسله يشاورون ويحاورون فمنهم هؤلاء الطغاة المستكبرين الذين يأنفون من مشاورة أهل ثقتهم فضلاً عن غيرهم وما قيمتهم أمام الله ورسله، والقيادات الصالحة للأمم والشعوب {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} الزخرف54.
هذا عن الأدلة المباشرة الصريحة المتعلقة بالشورى، أما من يفهم القرآن فهماً إستنباطياَ موضوعياً تركيبياً فيمكنه معرفة مقام الشورى في القرآن كأصل من أصول العقيدة ولو لم ترد في حقها أدلة مباشرة بمعنى أن يستنبط دليل موضوع فرعي من دليله الأصلي وأم معناه، والفهم الإستنباطي في القرآن هو دليل الفقه والفهم والعلم وليس مجرد الحفظ للأدلة المباشرة دون إدراك علاقة مواضيع القرآن بعضها ببعض لقوله تع إلى {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} النساء83.
ولو أدركنا عمق هذا المصطلح القرآني (الإستنباط) لجعلناه بديلاً لكلمة الإجتهاد فنقول بلغ العالم درجة الإستنباط لا درجة الإجتهاد لأن الإجتهاد هو مجرد بذل الجهد والطاقة في محاولة الفهم سواءاً تم الفهم أم لم يتم أما الإستنباط فهي مرتبة علمية تدل على العلم بموضوعات القرآن والكتب السماوية وليس ذلك فحسب بل وعلم العلاقة بين هذه الموضوعات في إتجاهات ثلاثة رئيسية – مقاصد عامة ينبثق عنها قواعد وأسس كلية وكليات يتولد عنها معاني جزئية أي الفهم الموضوعي المركب .
في هذا السياق أقول أن دليل الشورى الكلي وأم معناه كامن في عقيدة التوحيد نفسها (لا إله إلا الله) فقد أوضحت سلفاً بأن كلمة التوحيد مركبة من محورين : الأول : نفي (لا إله) والثاني : إثبات (إلا الله).
وعلى هذا الأساس لا تتم العبودية لله إلا بنفي العبودية لغيره إبتداءً، أي الكفر بالطاغوت والإستبداد أولاً ثم الإيمان بالله بدليل قوله تع إلى (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ)، والكفر بالطاغوت والإستبداد أولاً كشرط من شروط التحقق بعقيدة التوحيد لا مجرد التلفظ اللساني بالشهادة يعني إطلاق حرية الإنسان إزاء الإنسان كشرط لتحقق العبودية لله بدليل قوله تع إلى (أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ)، أي أن العبودية لله ينبثق عنها مقصد الحرية الإنسانية، ولو سألنا أنفسنا وكيف يمكن أن نعبر عن الحرية كإطار نظري بطريقة عملية لأجبت عبر الشورى، لأن العلاقة الطاغوتية الإستبدادية ليس فيها حوار وشورى وتداول آراء وإنما طرف طاغوتي يأمر وينهى وطرف آخر يسمع ويطيع وينقاد دون نقاش أو حوار، فالعلاقة الطاغوتية لغتها لغة الإكراه لغة الإستخفاف بالآخرين لغة الأمر والنهي من السيد ولغة السمع والطاعة والإنقياد من العبيد {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} البقرة256
فلغة الطاغوت هي لغة الإكراه ولغة الإكراه وليدة النظرة الدونية للآخرين لغة الإستخفاف (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) أما لغة الأديان السماوية فهي لغة الحرية ولغة الحرية هي لغة الحوار والشورى ولغة الحوار هي لغة تبين الرشد من الغي لا لغة السمع والطاعة العمياء الصماء البكماء (قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) والدليل القرآني الصريح الذي يبين أن البديل لمنطق الطاغوت والإستبداد لغة الشورى والحوار هو قوله تع إلى (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ{17} الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ{18}) [ الزمر ]..
لقد أوضحت هذه الآية بصريحها أن البديل لمنطق الطاغوت والإستبداد منطق الأوامر والنواهي المطلقة من الطاغية والسمع والطاعة المطلقة من العبيد دون نقاش هو منطق الحوار وتداول الآراء والتشاور ثم إختيار أحسن الآراء بحيث تهيمن الإرادة الجماعية على القرارت {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} النمل32 (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) الشورى 38، فهذا دليل صريح على أن الشورى في المنظور القرآني هي الأداة المجسدة لمفهوم الحرية الإنسانية والكفر بالطاغوت الذي هو الشرط الرئيسي للتحقق بعقيدة التوحيد (لا إله إلا الله) نفياً لحكم الطاغوت أولاً ثم إيماناً بالله (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ) وبهذا يتضح لنا أن هناك علاقة جدلية بين مفهوم العبودية لله والحرية الإنسانية والشورى.
فالعبودية لله لا تتم إلا بشرط إطلاق حرية الإنسان إزاء الإنسان، وحرية الإنسان إزاء الإنسان لا تتم إلا إذا أدركنا أن حرية الآخر مقدسة قداسة التوحيد ومقتضى قداسة حرية الآخر شرعاً إحترام شخصه وعدم الإستخفاف به ومقتضى الإحترام هو إحترام رأيه وإحترام رأيه يقتضي التشاور والحوار معه، ومقتضى التشاور والحوار هو أنه إذا إجتمع ثلاثة فما فوق على أمر وجوب دوران الشورى بينهم والنزول عند رأي الأغلب لا رأي الفرد.
ومن هذا المنطلق أقول أن الشورى في المنظور القرآني ليست إطاراً ناظماً للعلاقات السياسية فحسب بل إطاراً ناظماً للعلاقات الإجتماعية والسياسية بل أستطيع القول أن الشورى السياسية لا يمكن أن تعطي النتيجة المرجوة منها إن لم يبدأ دوران الشورى في مؤسساتنا الإجتماعية إبتداء من الأسرة ثم المدرسة وبقية المؤسسات الإجتماعية ثم الأطر السياسية والسبب في ذلك أن أول عملية إغتيال لحرية الفرد ومصادرة لشخصيته لا تبدأ في المؤسسات السياسية وإنما في المؤسسات الاجتماعية على رأس ذلك الأسرة والمدرسة..
وأول مشكلة يواجهها الطفل بمجرد ولادته هي السلطة الأبوية (الأم والأب) لأن علاقة الطفل بوالديه هي التي تحدد ملامح شخصية الطفل بأبعادها الثلاثة الجسدية والعقلية والنفسية، فمطلوب من الوالدين ليس الإهتمام بالنمو الجسمي للطفل عبر الرعاية الصحية والأكل والشرب فحسب وإنما الإدراك بأن تربية الطفل ثلاثية الأبعاد أي النمو الجسمي والنمو النفسي والنمو العقلي والبعد النفسي والعقلي كثيراً ما يقابلان بالإهمال لا سيما البعد النفسي وهو الذي يحدد شخصية الطفل قوة وضعفاً، فعلماء النفس يؤكدون أن الملامح الأساسية لشخصية الإنسان تصاغ في طفولته، ويفترض في الوالدين أن يكونا على علم بالوسائل التربوية العلمية للتعامل مع الطفل، لأن المطلوب منهم بناء شخصيته لا هدمها وسحقها..
وأسلوب التعامل الذي يقوم على لغة الإكراه والتقريع فضلاً عن الضرب يؤدي إلى إضعاف شخصيته بتعويده على تجاهل رأيه وتحويله إلى أداة تنفذ رغبة والديه بغض النظر عن قناعته الخاصة، أما أسلوب التعامل السليم فهو الأسلوب التربوي العلمي الذي يجعل من هدف التعامل معه بناء شخصيته بناءاً سوياً، شخصية مستقلة ستخرج من إطار الأسرة لتخوض معترك الحياة وهذا الهدف يستلزم التعامل الذي قوامه لغة الحوار والإقناع وإشعاره بذاتيته والتعامل معه وكأنه كبير حتى تنمو شخصيته وإيكال بعض الأعمال إليه لإنجازها حتى يشعر بالثقة بنفسه.... الخ.
والخلاصة في هذا الأمر مع الأسف أن علماء النفس والقرآن يؤكدان أنه بسبب جهل الوالدين فإن أول إغتيال لشخصية الطفل على الصعيد النفسي تتم في إطار الأسرة فالطفل يرضع مع الحليب حليب العبودية وتعود لغة الإكراه والإنقياد الأعمى لوالديه، ثم يسلم الطفل من الأسرة إلى المدرسة ويواجه ألواناً أخرى من الأساليب التربوية الطاغوتية التي تنمي فيه عوامل الخنوع والإنقياد الأعمى للآخرين، فلايكبر ويصل إلى المؤسسات السياسية إلا وقد قامت المؤسسات الاجتماعية بمحو شخصيته وتعويده لغة السمع والطاعة والإنقياد الأعمى ولو خالف الأمر قناعته.
والقرآن الكريم أكد خطورة السلطة الأبوية التي يواجهها الطفل في المؤسسات الاجتماعية (الأسرة – المدرسة) في أكثر من موضع، بل وحملها المسؤولية الأولى في صياغة الشخصية صياغة قوامها القابلية للإنقياد الأعمى والسمع والطاعة غير المبصرة من ذلك في قوله تع إلى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} البقرة170 ، فداء الآبائية طرح في القرآن بقوة في العديد من الآيات لأن السلطة الأبوية تعلّم الطفل الإنقياد الأعمى وتربطه بعالم الأشخاص لا الأفكار.
وقوله تع إلى {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} العنكبوت8 وقوله تع إلى {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} لقمان15، فقوله تع إلى (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) إشارة خطيرة إلى مدى التأثير الطاغوتي على نفسية الطفل من خلال عبارة (جَاهَدَاكَ) فكأن الطفل يواجه معركة متكاملة من أساليب الطغيان والإكراه التي تؤدي إلى محو شخصيته وتعوده للإنقياد الأعمى لا الإنقياد المبصر (مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).
وأنا أقول أن هذه الممارسات التي يواجهها الطفل ليست أفعال متعمدة من الوالدين، فلا شك أن الأبوين هما أشد الناس حباً لطفلهما ولكن الجهل والأعراف الاجتماعية الخاطئة والفهم المغلوط أيضاً للبر بالوالدين ديناً يؤديان إلى ذلك.
ولذلك فأنا أنبه أولاً إلى أهمية الإدراك بأن روح الحرية وتجسيدها العملي الشورى ولغة الحوار تبدأ في المستوى الإجتماعي قبل السياسي وإلى أهمية الإهتمام بتعليم الأب والأم حتى يستطيعا أداء دورهما التربوي على الصعيد النفسي والعقلي كما يجب، وإلى ضرورة كتابة كتاب خاص يضعه خبراء في علم التربية وعلم النفس في كيفية تعامل الوالدين مع طفلهما ويصبح مادة ملزمة لكل أسرة، وإلى ضرورة تحويل هذا العلم إلى محاضرات وندوات تعطى للآباء والأمهات الأميين في شكل دورات مكثفة، وقبل هذا وذاك أقول أن الشورى ولغة الحوار لن تصبح تقليداً إجتماعياً وسياسياً في المجتمع إلا إذا وضعت مناهج جديدة يطرح فيها أن أصل الشورى هو الحرية في منظور أديان السماء وأن الحرية في المنظور السماوي مقدسة كقداسة التوحيد لأنها تنبثق عن عقيدة التوحيد مباشرة.
وبعد الشورى الإجتماعية بهذه الكيفية يمكننا الحديث عن الشورى السياسية كنتاج طبيعي للشورى الإجتماعية، وفي هذا الصدد يمكننا القول أن الشورى هي الإطار الناظم لعلاقة المجتمع بالدولة (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) أي أمر سلطتهم وحكمهم شورى بينهم أي بين كافة أفراد المجتمع، وبهذا يتضح لنا أن الدولة والسلطة السياسية في المنظور القرآني هي أداة لخدمة الأمة ورعاية مصالحها وليست الأمة أداة لخدمة الدولة والسلطة وهذا هو الفارق بين السلطة والدولة العادلة والسلطة والدولة الطاغوتية فالولاية العامة والدولة المؤطرة بهدي السماء هي الولاية العادلة التي تخرج الناس من واقع العبودية والإستضعاف إلى واقع الحرية ومن حياة الفقر والجهل والمرض إلى حياة الغنى والعلم والصحة أي الدولة العادلة {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} البقرة257 {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} النساء58.
والدولة والولاية الطاغوتية هي الدولة التي تحكمها فئة ترعى مصالحها على حساب مصالح المجتمع وينقسم فيها الناس إلى طبقتين سادة مستكبرين لهم السلطة والثروة والعلم وعبيد مستضعفين يعيشون حياة الفقر والجهل والمرض {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة257.
وكفكفة طغيان السلطة السياسية في المنظور السماوي يتم عبر وسيلتين : -
أ- إنتزاع حق التشريع (السلطة التشريعية) وجعلها لله {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} الجاثية18 {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} الأعراف3، بجعل الملك والحاكمية والولاية لله عبر إتباع التشريع الإلهي وإعتبار السلطة المقدسة هي السلطة التشريعية ممثلة في الوحي الإلهي ونزع صفة القداسة عن البشر فهناك شريعة مقدسة وليس هناك سلطة سياسية تنفيذية مقدسة.
ب- إعتبار السلطة السياسية سلطة مدنية غير مقدسة وإخضاعها لسلطة الشعب والأمة عبر الشورى إختياراً ورقابة.
وعلى هذا الأساس فالشورى هي الكابح الثاني من كوابح السلطة الطاغوتية إلى جوار الشريعة الإلهية.
وتتجلى الشورى في الواقع العملي في شكلين رئيسيين : -
أ- حق إختيار القيادات.
ب- حق إتخاذ القرارت.
فيجب هيمنة الإرادة الجماعية للأمة في إختيار قياداتها وفي إتخاذ قراراتها.
ويتجلى حق الإختيار في قوله تع إلى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} النساء59، فقوله تع إلى (مِنكُمْ) أي المختارين منكم فالآية دقيقة قالت (مِنكُمْ) ولم تقل (فيكم) إلى جوار النص السابق (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، وما يؤكد عدم قداسة السلطة السياسية وحصر القداسة في الشريعة ما ورد في الآية من ذكر النزاع والإختلاف وأنه إذا حصل يتم الرجوع فيه إلى الشريعة ولا يحصل الخلاف مع أولي الأمر إلا إذا تربى الناس على عدم قداسة أولياء الأمر وعلى مفاهيم الحرية والشورى.
أما الشورى في اتخاذ القرارات وهي أرقى تجلياتها فقوله تع إلى {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} النمل32
ولو تدبرنا هاتين الآيتين : قوله تع إلى {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} الجاثية18، وقوله تع إلى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) لأدركنا أن مدار أمر المؤمنين مرهون بهذين المصدرين :
أ- الشريعة الإلهية.
ب- الشورى.
___________
مسئول التخطيط السياسي سابقاً في التجمع اليمني للإصلاح
للاطلاع على جميع الحلقات اضغط على "مواضييع أخرى من هذا القسم"..