آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

المذاهب في المنظور القرآني (2-2)

المذاهب والمدارس والآراء العلمية لسلف هذه الأمة في التكييف الشرعي لها هي تعبير عن حركة الإجتهاد الإسلامي التاريخية المواكبة لظرفها الزماني والمكاني.

فعلماء الإسلام عبر التاريخ إمتلكوا أدوات الإجتهاد فقاموا بتنزيل معاني الدين الكلية المجردة على واقعهم الظرفي الزماني والمكاني في صور تطبيقية جزئية مجسدة لأن حركة التاريخ الإنساني ثابتة في سننها وقوانينها العامة الكلية ومتغيرة في أشكالها وصورها الجزئية لقوله تع إلى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}الروم30.

فهذه الآية العظيمة أمرتنا بإقامة تعاليم الدين الآمرة الناظمة للحركة الإنسانية بعلاقاتها المختلفة السياسية والإقتصادية والإجتماعية ثم عللت هذا الأمر بموافقة تعاليم الدين لقوانين الفطرة الإنسانية وسننها (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) ثم أكدت الآية ثبات سنن وقوانين الفطرة والخلق الإنساني بقوله تع إلى (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) ولأن سنن وقوانين الدين الآمرة مطابقة لسنن وقوانين الفطرة والخلق الإنساني زكى الله هذا الدين بقوله (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أي هذا هو المنهج العلمي الذي تقوم وتنهض به المجتمعات والدول والحضارات ولكن الكثير من الناس لم يرتقوا إلى المنهجية العلمية القرآنية السننية ليدركوا عظمة هذا الدين.

ومن هذا المنطلق يتوجب على العقلية الإسلامية المعاصرة اليوم أن تفرق بين الثابت والمتغير في الدين.

فالثابت هو الوحي الإلهي قرآناً معصوماً وسنة معصومة بالقرآن وقد إكتسب صفة الثبات بسبب إمتلاكه لصفة المرونة لأن طبيعته التشريعية كلية لا جزئية تضع القواعد والسنن والقوانين العامة المجردة ولا تتطرق للصور التطبيقية المجسدة على قاعدة (تفصيل الثوابت وإجمال المتغيرات) وبسبب الطبيعة التشريعية الكلية للوحي الإلهي إمتلك صفة المرونة ومن صفة المرونة إمتلك الوحي الإلهي صفة الديمومة والصلاحية لكل زمان ومكان.

أما المذاهب الإسلامية التاريخية السنية والشيعية لكونها تعبير عن حركة الإجتهاد التاريخية المواكبة لزمانها ومكانها فهي متغيرة لا ثابتة لعدة أسباب:

1. لأنها فهوم البشر لنصوص الوحي وهذه الفهوم عرضة للخطأ بحكم بشريتهم ومن هذه الزاوية يجب عدم الخلط بين قداسة نصوص الوحي وفهوم العلماء لها لأنه بسبب رواسب عصور الإنحطاط والتخلف كثيراً ما تسحب قداسة النصوص على العلماء أنفسهم فلابد أن ندرك أن فهوم العلماء هي ثمرة ثلاثة عوامل وهي (النص + عقلية معينة + بيئة معينة) ، ولما كانت فهوم العلماء عرضة للخطأ فلابد من نقدها وتقويمها بمعيارية نصوص الوحي لتكون آراء العلماء محكومة بالنصوص لا حاكمة عليها {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}البقرة170.
2. لأن فهوم العلماء التاريخية مؤطرة بخصوصية واقعهم الزماني والمكاني فإذا كان علماءنا الأجلاء قد إمتلكوا أدوات الإجتهاد وإستطاعوا مواكبة عصورهم تجديداً وإجتهاداً فالمطلوب منّا اليوم هو إمتلاك نفس الأدوات لا تقليدهم ومحاكاة فتاواهم، فإذا كان للإمام الشافعي رحمه الله مذهب جديد ومذهب قديم ويفتي مراعاة للبعد المكاني في مصر بما لا يفتي به في العراق فكيف بنا وقد إختلف واقعنا المعاصر زماناً ومكاناً، وقد قال علماء الأصول أن الأحكام الشرعية ثابتة لكن الفتوى تتغير زماناً ومكاناً وشخصاً، ومن هذا المنطلق نقول أنه من الخير للعقل الإسلامي اليوم أن يجتهد فيخطئ من أن يقلّد فيصيب.

وعلى هذا الأساس نقول إذا أدركنا أن المذاهب الإسلامية وآراء العلماء السابقين متغيرة لا ثابتة نقول أن التعامل مع المذاهب التاريخية كثابت من الثوابت وهي متغيرة يكرس في العقلية الإسلامية عنصر الجمود لا التجديد والإجتهاد وبهذا يتضح لنا أن أبرز سلبيات التمذهب تتلخص في إشكاليتين كبيرتين:

1. أنها عامل فرقة وإنقسام للأمة.
2. أنها عامل جمود وتقليد لا عامل إجتهاد وتجديد.

وللتخلص من الآثار السلبية للمذاهب وتحويلها من عامل إعاقة إلى عامل إثراء لابد من:

1. إبعاد صفة المذهبية عنها أي عدم إعتبارها إطاراً مرجعياً ملزماً بحيث تتسمى كل مجموعة بإسم إمام المذهب _ الشافعية الحنابلة المالكية الزيدية الإثناعشرية الإسماعيلية ...الخ – لأن هذه المذهبية عامل تمزيق للأمة ولذلك يجب إلغاء هذه التسميات إنطلاقاً من قوله تع إلى {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى}النجم23 ، والإكتفاء بالتسمية القرآنية (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ) الحج78.
2. بإلغاء هذه التسميات يتم التعامل مع المذاهب كمدارس علمية وآراء علمية كبقية المكتبة الإسلامية بحيث نسترشد بها ولا نتوقف عندها ونخضعها للتمحيص والنقد والغربلة وفق الميزان الشرعي لتمييز غثها من سمينها أما الكتب المذهبية التي لا دليل شرعي فيها فالأفضل عدم الإلتفات إليها، وعلى العقلية الإسلامية أن تتخلى عن نمط التفكير السلبي منطق الأبيض والأسود والخير المحض والشر المحض فليس هناك حقائق مطلقة إلا في الوحي الإلهي أما الفهم البشري مذاهباً ومدارساً وآراء فهي نسبية فالمذهب الصحيح في الجملة كمذهب أهل السنة قد تجد فيه أخطاء في التفصيل والخاطئ في الجملة كالمذهب الشيعي قد تجد فيه صواب في التفصيل، والفقيه العالم هو الذي يميز الصحيح من الخطأ، وبهذه الكيفية يتحول التراث الإسلامي التاريخي إلى عامل إثراء لا عامل إعاقة فالإسترشاد بالمذاهب الإسلامية التاريخية وعدم التوقف عندها عامل إثراء، والجمود والتقوقع عليها عامل إعاقة.

وحتى تتخلص العقلية الإسلامية من رواسب الجمود والتقليد وتمتلك أدوات الإجتهاد والتجديد لا بد أن تعي أن الإجتهاد يقوم على ساقين أو محورين:

أحدهما: هو النص الإلهي (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً)

وثانيهما: هو الواقع (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)

الواقع يحدد الإحتياجات والنصوص تلبيها.

وإن تعليماً إسلامياً يقوم على تدريس النصوص دون فقه الواقع هو أشبه بصرخة في وادٍ أو نفخة في رماد.

ولهذا السبب نجد القرآن يأمرنا بقراءتين وليس بقراءة واحدة ، قراءة في كتاب الله المسطور (القرآن) وقراءة في كتاب الله المنظور (الواقع).

فقوله تع إلى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) هي قراءة في كتاب الله المنظور (الواقع) وقوله تع إلى (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ{3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ{4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{5}) هي قراءة في كتاب الله المسطور (القرآن).

والتطابق بين هاتين القراءتين يفضي إلى الحكمة المقصودة في القرآن، وبالوصول إلى المضمون المعرفي القرآني الحقيقي (الحكمة) تنجح عملية التغيير والمشاريع النهضوية الحضارية لأن شرط نجاح التغيير هو إدراك القوانين العامة والسنن الناظمة للحياة الكونية والإنسانية، وإلى هذا المعنى أشار القرآن بقوله تع إلى (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) وليست الدعوة هنا الخطب والإنشاء والمنابر وإنما الخطط وإستراتيجيات التغيير التي تبني المجتمعات والحضارات.

وإشكالية التراث الفقهي التاريخي أنه حبس العقل المسلم في سجن الماضي وحال دون إدراكه لمتغيرات العصر ومستجداته.

وللوصول إلى النضج المعرفي الكامل لا بد من تفاعل ثلاثة مصادر معاً:

1. الإسلام قيماً وأحكاماً.
2. والتاريخ دروساً وعبراً.
3. والواقع تحديات ومستجدات.

من خلال القرآن المعصوم والسنة المعصومة بالقرآن والتراث الإسلامي التاريخي إسترشاداً به لا توقفاً عنده وإدراك العصر بمتغيراته ومستجداته عبر البحث عن رصيد الحكمة الإنسانية في الثقافة الإنسانية قاطبة لأن الحكمة هي ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها، فالفكر الإسلامي لا يقبل بالإنغلاق ولا بالذوبان في الثقافات الأخرى ولكنه يقبل بحوار الثقافات والحضارات ليهضم رصيد الحكمة الإنسانية كاملة.

وأستطيع القول أن التراث الإسلامي بكل ما يزخر به من كتابات لم يصل بعد إلى المضمون المعرفي القرآني الحقيقي (الحكمة) (يس{1} وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ{2}) لأن الأفق المعرفي الذي دار حوله التراث الفقهي هو فقه آيات الأحكام التي لا تتجاوز خمسمائة آية، ولن تصل العقلية الإسلامية إلى مذخور الحكمة القرآنية إلا إذا إنتقلت من فقه آيات الأحكام إلى فقه السنن والقوانين العامة الناظمة للحياة الكونية والإنسانية، ولأن هذا الأمر مطلب عسير أوكلت هذه المهمة في آخر الزمان إلى المسيح، مهمة الكشف عن مذخور الحكمة القرآنية وحل الخلافات الناشبة بين المذاهب والأديان حيث سترفع المذاهب من الأرض، كما أن المسيح عليه السلام عبر نقده الحاد سيغربل ما علق بأديان السماء من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وسيقود ثورة معرفية شاملة تملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً فيعم الأرض السلام وتضع الحرب أوزارها.

والدليل القرآني على أن المسيح بمقدمه المبارك سيكشف عن مذخور الحكمة قوله تع إلى {وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}الزخرف63 وقوله تع إلى {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ}آل عمران48.

وقد جاء وصف المسيح عليه السلام في الإنجيل بنفس الوصف القرآني، وعلماء الإسلام متفقون على تصديق ما ورد في كتب أهل الكتاب مصدقاً لما في القرآن حيث ورد في الإنجيل (و المسيح* 3 المذخر فيه جميع كنوز الحكمة و العلم) كولوسي 2/2-3.

ونجد في التوراة وصف المسيح بالحكمة مطابقاً لما في القرآن والإنجيل (و يحل عليه روح الرب روح الحكمة و الفهم روح المشورة و القوة روح المعرفة و مخافة الرب* 3 و لذته تكون في مخافة الرب فلا يقضي بحسب نظر عينيه و لا يحكم بحسب سمع أذنيه* 4 بل يقضي بالعدل للمساكين و يحكم بالإنصاف لبائسي الأرض و يضرب الأرض بقضيب فمه و يميت المنافق بنفخة شفتيه* 5 و يكون البر منطقة متنيه و الأمانة منطقة حقويه* 6 فيسكن الذئب مع الخروف و يربض النمر مع الجدي و العجل و الشبل و المسمن معا و صبي صغير يسوقها* 7 و البقرة و الدبة ترعيان تربض أولادهما معا و الأسد كالبقر يأكل تبنا* 8 و يلعب الرضيع على سرب الصل و يمد الفطيم يده على جحر الأفعوان) أشعيا 11/2-8.

وهناك عشرات الأحاديث الصحيحة التي تبشر بالمسيح وظهوره في آخر الزمان منها قول الرسول (ص) في الحديث الصحيح (إن روح الله عيسى إبن مريم نازل فيكم فإذا رأيتموه فاعرفوه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض عليه ثوبان ممصران كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويدعو الناس إلى الإسلام فيهلك الله في زمانه المسيح الدجال وتقع الأمنة على أهل الأرض حتى ترعى الأسود مع الإبل والنمور مع البقر والذئاب مع الغنم ويلعب الصبيان مع الحيات لا تضرهم فيمكث أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون) المستدرك على الصحيحين.

ونلاحظ في هذا الحديث الصحيح الذي ورد بعدة روايات التطابق في وصف المسيح مع التوراة عندما أشار رسول الله بقوله (حتى ترعى الأسود مع الإبل والنمور مع البقر والذئاب مع الغنم ويلعب الصبيان مع الحيات لا تضرهم) فقد جاء نفس الوصف في التوراة.

ويتعزز هذا الحديث بما ورد في البخاري ومسلم من الأحاديث الكثيرة التي تبشر بمسيح آخر الزمان منها ما رواه البخاري عن النبي (ص) بقوله: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم إبن مريم حكماً عدلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها ثم يقول أبو هريرة وأقرءوا إن شئتم {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً}).

وقد أشار علماء التفسير إلى دور المسيح في آخر الزمان في التأليف بين أهل الأديان السماوية الثلاثة وإزالة عوامل الإختلاف والصراع والعودة إلى جوهر الأديان السماوية بتنقيتها مما علق بها من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين في تفسيرهم، لقوله تع إلى {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً}النساء159.

فقد جاء في تفسير الطبري لهذه الآية قوله: [معنى ذلك (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) يعني عيسى (قَبْلَ مَوْتِهِ) يعني قبل موت عيسى، يوجه ذلك إلى أن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال فتصير الملل كلها واحدة وهي ملة الإسلام الحنيفية دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم] .

وقد أكد هذا المعنى لهذه الآية إبن كثير في تفسيره حيث قال : [وقوله تع إلى (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) قال إبن جرير إختلف أهل التأويل في معنى ذلك فقال بعضهم معنى ذلك (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) يعني عيسى (قَبْلَ مَوْتِهِ) يعني قبل موت عيسى يوجه ذلك إلى أن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال فتصير الملل كلها واحدة وهي ملة الإسلام الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام].

وبهذا يتضح لنا أن الخلافات المذهبية وخلافات الأديان وصراعاتها ستحسم إنشاء الله في آخر الزمان على يد المسيح عليه السلام، ولكن لا ينبغي التواكل وتعليق أعمالنا حتى يأتي المسيح بل يجب على كل عالم أن يشرع في هذا ومثل هذه البشارات والنبوءات إنما ساقها الله لنا لنزداد حماساً للتغيير ولا نصاب باليأس عن إمكانية تحرر الناس من الأطر المذهبية الضيقة والتأويلات الفاسدة لأديان السماء المجافية لروح الأديان وجوهرها وقد جاء وصف النقد الحاد الذي سيخرج من فم المسيح لتسوية الخلافات المذهبية والتأويلات الباطلة للأديان بأنه سيكون كالسيف الحاد يقول كلمة الحق ولا يخشى في الله لومة لائم وهذا تشجيعاً للعلماء على البلاغ وعدم كتمان العلم لأن الكثير من الأباطيل لم تروج إلا بسبب سكوت العلماء عن قول كلمة الحق ولذلك جعل الله مقام العلماء هو مقام البلاغ ومقام البلاغ هو مقام الخشية من الله لا الخشية من الناس في قوله تع إلى {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً}الأحزاب39.

ونجد في الإنجيل هذا الوصف القوي للنقد الذي سيخرج من فم المسيح تأكيداً على جرأته في البلاغ وعدم خشيته حتى أن لسانه يوصف بالسيف الحاد (ثم رأيت السماء مفتوحة و إذا فرس أبيض و الجالس عليه يدعى أمينا و صادقا و بالعدل يحكم و يحارب* 12 و عيناه كلهيب نار و على رأسه تيجان كثيرة و له اسم مكتوب ليس احد يعرفه إلا هو* 13 و هو متسربل بثوب مغموس بدم و يدعى إسمه كلمة الله* 14 و الأجناد الذين في السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض لابسين بزا أبيض و نقيا* 15 و من فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب به الأمم و هو سيرعاهم بعصا من حديد) رؤيا يوحنا 19/11-15.

وسيكون أكثر الناس فرحاً بمقدم المسيح عليه السلام واستفادة منه أهل السنة من المسلمين والمسيحيين وسيقبلون كل أطروحاته النقدية لتصحيح التأويلات الباطلة التي طرأت عليهم لأن هاتين الفئتين – أهل السنة والمسيحيين – يتسمان بالصدق في التدين وليس من طلب الحق وأخطأه كمن طلب الباطل وأصابه، فأهل السنة وإن سلمت منطلقاتهم العقدية في الجملة سيقبلون تصحيحات المسيح المتعلقة بالأخطاء التي طرأت في الجانب التشريعي والفقهي من مذهبية وتقليد أعمى، والمسيحيين سيقبلون من المسيح تصحيح إنحرافاتهم العقائدية وأهمها الإعتقاد بألوهية المسيح كما أخبر الرسول (ص) بقوله (يدق الصليب) فالمقصود بهذه العبارة أن المسيح سيقنع المسيحيين أنه رسول الله وليس رباً يعبد كما أخبر القرآن على لسان المسيح بقوله (أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) والقرآن قد أشار إلى أن المسيحيين هم الأقرب لأهل السنة من المسلمين بقوله {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}المائدة82.

أما أكثر الناس خيبة وألماً من قدوم المسيح فهم المنافقون وهم فئتين كما أخبر القرآن (القيادات الشيعية – والقيادات اليهودية) {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}النساء88، لأن المسيح كما جاء وصفه في التوراة والكتب السماوية سيكون ظهوره آخر الزمان هو غضب الله على المنافقين (على أمة منافقة أرسله و على شعب سخطي أوصيه) اشعياء 10/6.

فالمسيح آخر الزمان سيكون مسلطاً على المنافقين ليميز الله به الخبيث من الطيب وينقسم الناس في عصر ظهوره إلى فسطاطين فسطاط إيمان لا نفاق فيه وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، وصدق الله العظيم القائل {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}آل عمران179.

ولذلك ستكون خيبة اليهود والشيعة كبيرة عند ظهور المسيح رغم أنهم أكثر من إستوقد نار بشارته وانتظر قدومه لأنهم خادعوا المؤمنين فالله خادعهم وصدق الله العظيم القائل في سياق الحديث عن المنافقين {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ}البقرة17، لا سيما عندما يدرك الشيعة أن لا مهدي غير المسيح عليه السلام كما ورد في الحديث الضعيف السند الصحيح المتن (لا مهدي إلا عيسى) الذي يعرف صحته من يعرف حقيقة النبوات الموجودة في الكتب الثلاثة كما أن هذا الحديث الضعيف السند يتعزز بقول الرسول (ص) : (ينزل عيسى إبن مريم مصدقاً بمحمد (ص) على ملّته إماماً مهدياً وحكماً عدلاً فيقتل الدجال) رواه الطبراني في الكبير والأوسط.

والجامع بين هاتين الفئتين هو التفسير الطاغوتي الإستكباري العنصري الشيطاني للدين والتقسيم الطبقي للمجتمعات إلى طبقتين طبقة السادة والمستكبرين وطبقة العبيد والمستضعفين مع أن الأديان نزلت لتحرير الناس ولنصرة المستضعفين بصريح قوله تع إلى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}النحل36، فهذه الآية بينت لنا أن جوهر الأديان السماوية وعقيدة التوحيد هو الحرية عبر مقاومة واجتناب حكم الطاغوت والظلم، وحكم الطاغوت هو حكم الشيطان بصريح قوله تعالى{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}النساء60.

وحكم الشيطان هو الحكم القائم على النزعة العنصرية لقوله تع إلى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}البقرة34، فإبليس كان مؤمناً بالله ومشكلته أنه رفض التسليم بخلافة آدم وحقوقه السياسية لإصراره على أن تكون الأفضلية العنصرية شرطاً من شروط الولاية والخلافة في قوله تع إلى {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}الأعراف12.

فاعتبر القرآن إبليس رغم إيمانه بالله كافراً لاستكباره واستعلائه بعنصره ونسبه واشتراطه أفضلية العنصر والنسب للخلافة والولاية ولذلك اعتبر القرآن كل من يستكبر ويفسر الدين تفسيراً عنصرياً يتبع الشيطان وحزبه وأنه من ذريته، وحذرنا من أن نتخذهم أولياء في قوله تع إلى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}الكهف50، وفي هذه الآية جاء النهي عن إتخاذ ذرية الشيطان أولياء بما يؤكد أن الذرية والنسب تقوم على أساس الإتباع والمنهج لا الدم والعنصر فهناك ذرية للرحمن وهناك ذرية للشيطان، وذرية الشيطان هم أتباعه في نهجه العنصري الإستكباري الذي يجعل النسب شرطاً من شروط الولاية، وذرية الرحمن الذين يقولون بمساواة بني آدم جميعاً في الحقوق السياسية، ثم تؤكد الآية أن الشيطان وذريته أعداء لنا رابطة لهذه العداوة برفض إبليس السجود لآدم للتأكيد على حقوق آدم وبنيه في الخلافة والولاية.

واليهود إفتخروا بنسبهم إلى إبراهيم عليه السلام واعتبروا أنفسهم آل إبراهيم، والشيعة إفتخروا بنسبهم إلى الرسول محمد واعتبروا أنفسهم آل محمد واعتبروا الولاية والسيادة لهم بناءاً على الأفضلية العنصرية، فرد القرآن على اليهود بأن الآل هم أتباع الملّة لا أتباع النسب بقوله تع إلى {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}آل عمران68.

كما فنّد زعم اليهود أن لهم حق الولاية والسيادة من دون الناس وسفّه هذا الزعم بقوله تع إلى {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}الجمعة6

والمسيح عليه السلام في الإنجيل يقود ثورة تحررية ضد النزعة العنصرية مؤكداً لنفس المعاني القرآنية حيث يدخل في مواجهة حادة مع اليهود على نزعتهم العنصرية وافتخارهم بنسبهم الإبراهيمي حيث ورد في الإنجيل تحت عنوان أبناء إبراهيم وأبناء إبليس ما نصه (أجابوا و قالوا له أبونا هو إبراهيم قال لهم يسوع لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم* 40 و لكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني و أنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله هذا لم يعمله إبراهيم* 41 انتم تعملون أعمال أبيكم فقالوا له إننا لم نولد من زنا لنا أب واحد و هو الله) يوحنا 8/39-41.

فهذا النص الذي إفتخر فيه اليهود على المسيح عليه السلام بنسبهم الإبراهيمي وعيروه دون خجل بأنه إبن زنا نجد المسيح يؤكد أن آل إبراهيم ليسوا آله بالنسب وإنما من يعمل عمله من الصلاح (لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم) فجعل المسيح المعيار هو العمل الصالح لا النسب ولم يكتفي المسيح بذلك بل وصف اليهود المفتخرين بأنهم ذرية إبراهيم بأنهم أبناء الشيطان بسبب إفتخارهم بالنسب، فقد ورد في نفس السياق قول المسيح لليهود (أنتم من أب هو إبليس و شهوات أبيكم تريدون أن تعملوا ذاك كان قتّالاً للناس من البدء و لم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذّاب و أبو الكذّاب) يوحنا 7/44.

ونجد في الإنجيل نفس المعاني القرآنية الرافضة للكبر والإستعلاء على الآخرين والزعم بأن هناك سادة وآخرون عبيد ويصف المسيح المستكبرين كالتالي: (و كل أعمالهم يعملونها لكي تنظرهم الناس فيعرضون عصائبهم (عمائمهم) و يعظمون أهداب ثيابهم* 6 و يحبون المتكأ الأول في الولائم و المجالس الأولى في المجامع* 7 و التحيات في الأسواق و أن يدعوهم الناس سيدي سيدي* 8 و أما أنتم فلا تدعوا سيدي لأن معلمكم واحد المسيح و أنتم جميعا أخوة*) متى 23/5-8 .

ثم يؤكد المسيح رفضه للكبر والإستعلاء فيقول: (و أكبركم يكون خادما لكم* 12 فمن يرفع نفسه يتضع و من يضع نفسه يرتفع) متى 23/11-12.

ويؤكد المسيح مبدأ المساواة الإنسانية بقوله (ليس عبد و لا حر ليس ذكر و أنثى لأنكم جميعا واحد) رسالة بولس إلى غلاطية 3/28.

وهذه المعاني الإنجيلية حول رفض أن يكون هناك سادة وعبيد ونسب مقدس ونسب مدنس هي نفس المعاني التي فهمها علماء الإسلام من ذلك ما قاله القاضي العلامة عبد الرحمن الإرياني رئيس اليمن الأسبق:

ليس في الدين سيد ومسود
فاقرءوه وحققوا قرآنه

إن دين الإسلام دين التساوي
ليس فيه تعاظم واستهانة

إنما السيد الإله وكل الناس
حقاً عياله في مكانه

لا تقولوا سيدي، لشخص
ومن ينطق بها فاقطعوا بحدٍ لسانه

بعد هذا التوضيح للجامع المشترك بين الفئتين المنافقتين (التفسير العنصري للدين) فلا يعني هذا الجامع المشترك أن تكون الفئتين على وفاق سياسي لأن التأويل العنصري نفسه ما هو إلا غطاء لمطامع سياسية، ولهاتين الفئتين مطامع سياسية لا حدود لها، اليهود يريدون إمبراطورية يهودية والشيعة يريدون إمبراطورية شيعية، ومن هذه الزاوية ينشب الصراع فيما بينهم اليوم، والمدرك لإمكانات الطرفين سيعرف أن إمكانات الشيعة السكانية في إيران مع أذرعها داخل العالم الإسلامي وإمكاناتها الإقتصادية تجعل إيران أقرب بكثير لتحقيق هذا الطموح من إسرائيل.

زر الذهاب إلى الأعلى