آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

الجارودية الخمينية والجمهورية اليمنية وتهيئة البيئة لقدوم الغائب

لم تتمكن السلفية في صعدة من اختراق المجال الزيدي إلا أن الصراع الديني بلغة اللاهوت النافي لأصول الزيدية واجتهادها الفقهي وبفكر ديني متطرف..

أسهم في تحفيز الهادوية والفرقة الجارودية المحسوبة على المذهب الزيدي رغم مغايرتها للمذهب في الأصول ونزعتها المتطرفة في تفسير الصراع السياسي في المرحلة التأسيسية للإسلام وفتح الأبواب لإعادة انتاج التراث وتوظيفه في صراع المصالح. فالمتابع لابد أن يلاحظ أن الأفكار المضادة التي انتجها الشيخ الوادعي هي الشرارة التي بعثت في الجارودية روحاً كادت أن تختفي في خضم التحولات المذهلة التي أحدثتها الجمهورية ولعب ملالي إيران والصراع السياسي الداخلي دوراً بارزاً في هذا الانبعاث.

وكما ذكرنا في موضوع سابق أن السلفية لم تكن وحدها هي الخصم فقد وجدت الزيدية كتكوين مذهبي وسياسي نفسها محاصرة بالاتجاه السني الإخواني فتحولت الجارودية والهادوية الفقهية والمتأثرة بالثيوقراطية الثورية للخميني إلى واجهة للصراع انفجرت في صعدة..

أما الخطر الذي أرعب الجارودية والهادوية والمدعومة من ملالي إيران والذين يمتلكون اخطبوطاً مؤثراً في اليمن فيتمثل في التجديدات الزيدية التي حاولت ان تتحرر من الهادوية وتخنق الجارودية لأن تلك التجديدات حاولت أن تعود إلى أصول الزيدية بأبعادها العقائدية والفقهية والارتكاز على أصول المعتزلة بمعزل عن الإمامية التي تحصر الحكم في البطنين كأصل من أصول الدين.

هذه المحاولات التجديدية كانت محاولة جادة لإعادة انتاج الزيدية كما هي في مصادرها المؤسسة لها وفي الفقه المنتج تاريخيا والمعتمد على العقل في فهم مسألة الحكم وهي محاولة لإنتاج مطرفية جديدة في اليمن متماهية مع الجمهورية لكن بروح دينية مذهبية متجاوزة لفكرة الصراع مع المجال السني، كما أنها محاولة لربط المذهب بالوطنية اليمنية لتجاوز الارتباط بالثورة الخمينية.

الإشكالية التي واجهت أبرز مظاهر هذا التجديد انه بدأ حركته في المجال المكاني للجارودية والمتمسك بالهادوية بصورتها الباحثة عن دولة ثيوقراطية على رأسها إمام فاطمي، وفي منطقة معزولة عن التحولات التي أحدثتها الجمهورية، وفي المكان الذي اختارته استراتيجية ولي الفقيه لبعث الزيدية بإيديولوجية غير متناقضة مع الاثنى عشرية وقادرة على تصنيع ثورة خمينية بأدوات زيدية..

ومن ناحية أخرى لم تمتلك الحركة التجديدية ثقافة عصرية فتحركت في مجال اللاهوت الماضوي للزيدية، وهذا مكّن الجارودية من إضعافها وطردها بفعل الحافز الخارجي الذي أمدها بالمال والخبرة المعاصرة للتنظيمات الإسلاموية وبالتقنية المحترفة القادرة على إعادة الأدلجة لصالح الماضي الفقهي وتحويله إلى ايديولوجيا قادرة على التعبئة.

تمكن حسين الحوثي وبسهولة من محاصرة المطرفية الجديدة التي يمثلها محمد عزان الفقيه القبيلي الباحث عن رؤية دينية جديدة للمذهب لا تناقض الجمهورية وتبحث عن رؤى تحرر القبيلي من عبوديته وانتهاك انسانيته في محراب الشيخ والسيد، حيث تمكن حسين الحوثي من بناء رؤية دينية متطرفة تجاوزت الزيدية وأسست لرؤية دينية سياسية متماهية مع الخمينية تبدو أنها زيدية لكنها قريبة من العقائد الإثنى عشرية.

وفي ظل ضعف التيار الذي استند عليه محمد عزان وتخلي الدولة عنه والهجمة التي تعرض لها من كرادلة التقليد تم خنق محاولته الجادة، بل إن فعله كان يبدو للبعض وكأنه فعل موافق للانبعاث الثيوقراطي للحوثية وهذه المسألة عرّضته للسجن في الحرب الأولى ومازال البعض يعتبره المؤسس الفعلي للمشكلة رغم وضوح أفكاره واجتهاده المستند على المنتج الفقهي للزيدية في مسألة تجاوزه ليس لفكرة البطنين فحسب بل ولقرشية الحكم وجعل السياسة منتجاً عقلياً محكوماً بالشورى.

وهنا لابد من الإشارة إلى أن الفاعل الرسمي وهو يدعم منتدى الشباب المؤمن الثقافي في مراحله الأولى كان لديه هاجس تفكيك النظرية الهادوية للإمامة ومحاصرة التطرف الجارودي في تفسيره للتاريخ الإسلامي بعد ان بدأت تبرز وتطرح العقائد على مستوى نخبوي وفي مجال ضيق داخل المجال الزيدي المتطرف الذي لم تتمكن الجمهورية من تجاوز رؤاه الدينية وظل يعتقد أن مسألة بعث النظرية الهادوية وتحويلها إلى قوة قاهرة في المواجهة مع الجمهورية ليست إلا مسألة وقت وهي بحاجة إلى إعادة ترتيب الصفوف ووجود داعم خارجي.

وما ساعد القوى المذهبية المتطرفة هو أن التحديث في المجتمع وفي البنية الجمهورية تم إضعافه في الصراعات المتلاحقة وحاصره التيار القبلي والديني وهذا خدم كثيرا القوى المضادة للجمهورية لأن ذلك أضعف الدولة وأدخل النخب في تناقضات أعاقت أي تحولات جذرية لصالح العصر، بل إن الصراع انتج مظالم كثيرة هي في الراهن تهدد بقاء الدولة كما أن الصراعات سهلت للثيوقراطية الإمامية تفجير التناقضات الداخلية لإضعاف الدولة وتحويل صعدة إلى قوة عقدية وعسكرية في الراهن ليس إلا التجلي الواضح للقوى التقليدية المتطرفة والتي ترى في الإمامية أصلاً من أصول الدين لا يكتمل إسلام المرء إلا بها..

وقد تعامل هذا الطرف الغارق في ماضويته مع دولة الجمهورية كأمر واقع وعمل على تدميرها من الداخل وتحول هذا التخريب إلى عبادة لأن دولة الجمهورية لا تعبر عن المثال الديني بل إنها وجود لابد من إنهائه لنصرة الدين الحق.

وهنا لابد من ملاحظة مهمة لا ينتبه لها الكثير فالشباب المؤمن في بداية التأسيس لم يكن كما هو معمم حتى اللحظة قوة في مواجهة الإخوان وإن كان هذا الهاجس موجوداً لدى الداعم والمشجع للفكرة إلا ان الفعل في جوهره كان لعبة خداع بين الاطراف النخبوية داخل السلطة..

فالجزء المهموم بالجمهورية كان يريد زيدية بلا نظرية الإمامة كمحاولة لمحاصرة القوى التي بدأت تطرح الإمامية كخيار في مواجهة الجمهورية والتي ظهرت ملامحه مع ضعف الدولة، وجزء كان يريد زيدية بلا إمامة لكنه يريدها قوى منظمة في مواجهة التيار الاخواني الذي أصبح يطرح نفسه كبديل لاحتلال الجمهورية بتحالفات قبلية وعسكرية وتحويله إلى قوة في مواجهة الإخوان بما يخدم النخب الحديثة والنخب الهاشمية في دولة الجمهورية. أما الجزء المتآمر فإنه كان يدرك ان الفعل سيقود إلى انبعاث نظرية الامامة بقوة وحسم لأنه على علم بما يجري في الخفاء.

حسب تصوري كان بإمكان اللاعبين المهمومين بالجمهورية ان ينجحوا في مخططهم إلا ان نزعة المغامرة والقرارات المبنية على الهوى والغارقة في هواجس الصراع السياسي وأيضاً نقص المعلومة وعدم استيعاب التاريخ والعلاقات السرية التي يديرها بعض أطراف الجناح الفاطمي في السلطة والمعارضة مع ملالي طهران وبعض المنظومات العربية المهووسة بالدولة الفاطمية أو النخب الحاكمة الخائفة على مواقعها من تضخم الحراك السني في المنطقة جعلها تقع في فخ كبير كان من نتائجه خدمة أجندة من أرادوا محاصرتهم..

ونشير هنا إلى أن الجمهورية إن لم تتمكن من تجاوز الإيديولوجية الحوثية بجناحها العسكري والسياسي فإنها ستغرق في الفوضى المذهبية وهي مدخل الملالي لتكوين دولتهم الممتدة إلى باب المندب وتحويل اليمن إلى منطقة مفككة مؤذية للنظام الإقليمي العربي ولأمن الخطوط التجارية البحرية.

وعندما نتحدث عن إيران فإننا نؤكد مسألة واضحة، فاليمن حاضرة دائماً في الإستراتيجية الإيرانية قبل قيام ثورة الملالي والنظام الملكي كان مهموماً باليمن وموقعه الاستراتيجي لتحقيق الطموح الامبراطوري للشاه الذي يتجلى حاليا بنزعة دينية عبر الملالي، إنها الجغرافيا، فاليمن من المداخل الأساسية لتحقيق الهيمنة على المشرق العربي والامتداد نحو أفريقيا ومحاصرة مصر المنافس الأقوى والطبيعي لإيران ناهيك عن امتلاك مركز قوي في مواجهتهم مع روما الجديدة.

إيران كقوة لا يمكن الاستهانة بها ،فهي قوة شابة لا يمكن ان تستسلم إلا بفرض مصالحها، وأمنها القومي في مواجهتها الحالية يحتاج اليمن كمدخل طبيعي لطموحها في الهيمنة على الجزيرة العربية، وليس السلاح النووي إلا المقدمة لفرض هيمنتها وكمقدمة أولى لإعلان نفسها كما عبّر نجاد الرئيس الإيراني وطالب العالم ان يتم التعامل مع إيران كدولة كبرى، وهذا الطموح يعظّمه الهوس الديني وغيبيات ثيوقراطية اسطورية، والحركات الشيعية هي منفذ الملالي الوحيد في هذه المواجهة.

أما السؤال المهم فهو: لماذا اليمن؟ ببساطة إن الهيمنة على المشرق العربي لن تكتمل بل ربما تصبح مستحيلة في ظل وجود فاعل قوي ويمتلك القوة الكفيلة لمواجهة طموح الملالي في المشرق العربي وهي المملكة العربية السعودية، وإضعاف هذا الكيان الذي اصبح يمثل القلب في المعركة كما يرى الملالي بل تحول إلى إستراتيجية لا يمكن التراجع عنها، واليمن هو البوابة الأكثر جدوى لتحقيق الاستراتيجية.

ومجرد انتصار دولة ولي الفقيه في اليمن فإن ذلك يؤسس لفوضى ستعم الخليج وهذا سيدخل المملكة في صراعات متفرقة يشتت قوتها ويلهيها عن تنمية ذاتها، وما تريده دولة ولي الفقيه هو إعادة اقتسام النفوذ مع الغرب بما يرسخ الأمن القومي الإيراني ويثبت عقائد الملالي ويجعلها قادرة مستقبلا على تهيئة البيئة لخروج الإمام الغائب الذي لن يتم حسب المثيولوجيا الدينية للملالي إلا بالاستيلاء على مكة والمدينة. فما نحن فاعلون؟

زر الذهاب إلى الأعلى