منذ ظهور قضية "الحراك السلمي" في المحافظات الجنوبية والشرقية في فبراير 2007م، بتجمعات احتجاجية أولية في الضالع لمجاميع صغيرة من الضباط والجنود المسرَّحين من الخدمة في القوات المسلحة، ظلت الدولة تنظر اليها على أنها مجرد" أصوات خرقاء لمتضررين فقدوا مصالحهم، وأسرع ما تزول"!!.
غير أن تلك التجمعات التي تلقفتها معارضة الخارج باستبشار ولهفة، ولاقت هوى عند بعض القوى الإقليمية ما لبثت أن نمت وتوسعت حتى أصبحت قضية كل المحافظات الجنوبية والشرقية، وشكلت قضية رأي عام كبيرة، بدأت بمسيراتها الحاشدة، وبأصوات عالية تحاكم تجاهل الدولة لقضايا وهموم الناس..
وترفض أساليب الإقصاء والتهميش وفوضى الإدارة والفساد، حتى انتهى بها الأمر إلى رفع الأعلام التشطيرية والدعوة لـ"الانفصال"، وما يسمى ب"فك الارتباط"، وما تبعه من قطع الطرق ونهب المسافرين واعتداءات وممارسات قتل بالهوية كما حدث في العسكرية في يوليو2009م، في ظل صمت مطبق من قبل أجهزة الدولة، الأمر الذي شكل تطورا مخيفا، وانذر – ولا يزال - بتداعيات خطيرة على مستقبل أمن الوحدة اليمنية واستقرار البلاد.
وإذ بدأت الدولة (بطريقتها) تعالج قضية الحراك في المحافظات الجنوبية والشرقية، لكنها بدأت متأخرة، وبطرق قديمة ومتخلفة، كتقديم العطايا والإغراءات الفردية، الأمر الذي فاقم من قضية الحراك وطور من مطالبه تدريجيا، حتى وجدت الدولة أن معظم محافظات الجمهورية قد بدأت تتأثر بمعاناة وصراخ أخواتها، فهي (الأخرى) تعاني من نفس المشاكل، ولذلك بدأت منذ نوفبمر2007م تتشكل التجمعات الجهوية، وتعقد المؤتمرات القبلية في محافظات شمالية أيضا كعمران ومارب والبيضاء والجوف وتعز والحديدة..الخ، وهو الأمر الذي لايزال ينذر بأبعاد جديدة للأزمة.
وبالتحديد نستطيع القول أن هذا التنامي المتسارع لمشاعر العداء للوحدة والنظام السياسي والدعوة للعودة إلى ما قبل 22مايو1990م في المحافظات الجنوبية والشرقية، يرجع إلى عدد من الأسباب نوجز أهمها في التالي:
أولا: غياب رؤية استراتيجية (ثقافية وتعليمية – وطنية) :
أي مشروع وطني عملاق لابد أن يصاحب وجوده رؤية استراتيجية تبحث في إمكانية نجاحه وتطويره وضمان استمراريته، وهو مالم يحدث بعد قيام دولة الوحدة اليمنية، أو -على الأقل- ليس هناك ما يؤكد إن كانت قد وجدت رؤية مماثلة!!، لكن طالما أنها لم تجد طريقها إلى النور فوجودها كعدمه.
فقيام دولة الوحدة اليمنية عام 1990 م لم يكن عملاً سهلاً بل كان مشروعا وطنيا كبيراً وجباراً إختزل معالجة المشكلة اليمنية (السياسية والاقتصادية)، وحدد مسارات وتوجهات اليمنيين الداخلية والخارجية. ذلك لأن اليمن الموحد لا يمتلك فقط مقومات النماء والتطور الاقتصادي، وإنما يمتلك أيضا مقومات جيوسياسية تؤهله - في حال توفر له الأمن والاستقرار- لأن يكون دولة محورية يمكن أن تلعب دورا مهما على الصعيدين الإقليمي والعربي.
وهو ما يدعونا إلى القول أن الوحدة هي محور النهوض والتنمية، وأنه كان يجب أن يتزامن قيامها عام 1990م مع وجود رؤية استراتيجية (ثقافية وتعليمية - وطنية) تخضع للتطبيق لتسهم في الحفاظ على إنجاز الوحدة وترسيخ قيمها، وتعمل الدولة من خلالها على تحقيق التالي:
1- تأصيل قيم روح الانتماء الوطني عند أبناء الوطن وبالذات الناشئة منهم.
2- إبراز الأهمية التاريخية والوطنية والإنسانية للوحدة اليمنية، وانعكاساتها الإيجابية على بناء الدولة والمجتمع.
3- كشف معاناة اليمنيين في ظل حقب التشطير والتمزق، وإبراز الصور المأساوية من ويلات التشظي والانقسام، والتأكيد على حقيقة "أن اليمن القوي والآمن والمتطور لا يمكن أن يتحقق الا بالوحدة، وما دونها هو الاحتراب والقتل والدمار".
4- التأكيد على مفهوم أن الوحدة اليمنية هي الضمانة الوحيدة لتحقيق الأمن والاستقرار، وازدهار الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وتحسين الظروف المعيشية للمواطن اليمني.
ثانيا: سوء وفساد الإدارة :
لعب كثير من قادة العمل السياسي والإداري دوراً كبيراً في إفساد الحياة العامة في كل المحافظات وفي كل مؤسسات الدولة، وتعاملوا في المحافظات الجنوبية والشرقية بالذات مع كثير من القضايا السياسية والإدارية ليس من منظور نظامي وقانوني، وإنما من منظور بسط النفوذ وإظهار القوة، متأثرين بأجواء وآثار حرب 1994م التي جرَّت نفسها بعلم أو بدون علم على مختلف الممارسات والمعاملات، مما أدى الى:
1- تعامل كثير من قادة العمل السياسي والإداري مع مواقعهم أو وظائفهم القيادية اعتبارها فرصة اللحظة الأخيرة للإفساد والكسب غير المشروع، فأطلقوا العنان لممارساتهم الخاطئة، حتى وجد الكثير من أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية أن كل شيء حولهم أصبح في حكم المستباح.
2- إخضاع الوظيفة العامة للدولة لمعايير مزاجية وغير قانونية تداخلت فيها اعتبارات القرابة والوساطة والمصلحة الخاصة، وحرم منها أصحاب المصلحة الحقيقة من الكفاءات والخبرات والخريجين من الشباب.
3- خصخصة الكثير من المؤسسات والشركات العامة وبيعها بأثمان بخسة لقاء مصالح متنفذين، ومن ثم الاستغناء عن وظائف العاملين في هذه المؤسسات والشركات العامة، الأمر الذي فقدت معه ألاف الأسر مصادر عيشها ودخولها الأساسية.
4- نهب الأراضي العامة والخاصة، والبسط والسيطرة على الأملاك العامة من أراضي ومباني جاهزة لمؤسسات ودوائر حكومية مختلفة بداخل مدينة عدن نفسها، وبعض عواصم المحافظات الجنوبية والشرقية، واستملكوها بأساليب وطرق مختلفة، وأخضعوها على مرآى ومسمع من الجميع للسمسرة دون أن يكون للدولة وللقانون والنظام أي رأي فيها.وهو ما حدث ويحدث أيضا في المحافظات الشمالية، كأمانة العاصمة وصنعاء، والحديدة، وتعز.
5- تسريح ما سمو ب"المتقاعدين" الضباط والجنود المشاركين في حرب 1994م من أبناء القوات المسلحة وحرمانهم من مواصلة الخدمة في السلك العسكري، الأمر الذي ساعد على توسع وإنتشار البطالة في صفوف المواطنين من أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية.
6- التعيينات الانتقائية لأبناء القادة والمتنفذين ولشخصيات غير مرغوبة من أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية خلقت حالة من السخط وعدم الرضى.
7- صرف الأموال والمكافئات والهبات والسيارات والوظائف لبعض القيادات الجنوبية بهدف تهدئة الحركة المطلبية، ولكنها تحولت إلى النقيض، وقادت إلى نتائج عكسية، حيث اندفع كثير من المستفيدين إلى مقدمة صفوف الحراك. وكانت نتيجة غير متوقعة لمعالجات خاطئة غير محسوبة النتائج.
8- عدم التعاطي بجدية مع نتائج أعمال اللجان الرئاسية التي أفضت - بحسب وسائل الإعلام – إلى مقترحات رأت فيها بعض المعالجات للمشاكل في المحافظات الجنوبية والشرقية.
ثالثا: فرض التجارب الفاشلة في الإدارة المجتمعية :
كان الناس في المحافظات الجنوبية والشرقية قد قطعوا شوطا كبيرا في تجاوز التمييز بين الأسر والإفراد والجماعات، وكانت الدوائر الرسمية في مناطقهم هي المرجع في حفظ النظام وضبط التجاوزات ووأد الخصومات، غير أن إعادة إحياء وفرض الزعامات الاجتماعية(الجديدة/القديمة) خلق واقعا جديدا أثار ردود فعل عصبوية متناقضة أدت إلى التالي:
1- فقدان ثقة المواطن بالدوائر الحكومية والرسمية نتيجة ضعف وتضاؤل دورها في ضبط إيقاع الحياة العامة مقابل تنامي وتعدد الولاءآت العشائرية والقبلية.
2- ظهور بعض الزعامات الاجتماعية - التي حظيت وتحظى بدعم مادي ومعنوي، وتأييد كبير من قبل قيادات الدولة - ليس فقط في وضع الآمرين الناهين والمستحكمين في شؤون مناطقهم، وإنما باعتبارهم البديل الشرعي للنظام والقانون أيضا، الأمر الذي أسهم بشكل أو بآخر في إيقاض وتنامي مشاعر السخط والتذمر من غياب الدولة في وسط اجتماعي بدأ يفقد تدريجيا مصادر دخله وإمكانياته الأساسية.
3- عودة ظاهرة الثأر والتقطع وإقلاق الحالة الأمنية في هذه المناطق بفعل تأثير المتنفذين من القوى الاجتماعية والسياسية.
4- تهيُؤ البيئة الاجتماعية أمام زعامات (الحراك الجنوبي) التي لاقت دعواتها استجابةَ والتفاف كل المتضررين من تفاقم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وانتشار ظاهرة الفساد الوظيفي، ووجد هؤلاء المتضررين أن محاولة التخندق ضد الدولة والوحدة (ربما) يكون هو المخرج من معاناتهم.
إن الوضع المتأزم في المحافظات الجنوبية والشرقية التي يكاد يكون النظام فيها غائبا، وينفلت الوضع الأمني بصورة لم يسبق له مثيل، هو نتيجة طبيعية للأسباب والحيثيات السابقة التي أدت إلى نشوء ظاهرة الحراك في هذه المحافظات والتي تحولت بالتدريج من حِراك مطلبي إلى سياسي ومن ثم إلى انفصالي.
وهذه الظاهرة التي تتفاعل أحداثها بالتزامن مع ظهور قوي لما يسمى ب"تنظيم القاعدة" في شبوة وأبين، وبعض المحافظات الشمالية الشرقية، وتطورات حرب صعدة في أقصى الشمال قد يقود البلاد إلى كارثة حقيقية، حيث يمكن أن يصبح اليمن ليس فقط أشلاء صغيرة ممزقة وساحة واسعة لحروب طويلة لانهاية لها، وإنما يمكن أن يصبح أيضا مصدرا حقيقيا للتوتر وزعزعة أمن واستقرار الجزيرة والخليج، والملاحة الدولية في خليج عدن والبحرين العربي الأحمر عموما.
ومن هنا وبالعودة إلى تشخيص مشكلة الحراك السياسي في المحافظات الجنوبية والشرقية وأسبابها – كما بينا سابقا- يمكن تدارك التداعيات الخطيرة المحتملة، من خلال البحث عن الحلول والمعالجات العملية والجادة.
غير أن ذلك لا يمكن أن يتأتى الاّ إذا ما توفر عاملان رئيسيان هما:
- الحرص على المصلحة الوطنية، وتغليب اليمن (الأرض والإنسان والوحدة) على المصالح الأنانية والشخصية.
- توفر ارادة المصالحة والتوافق لدى قيادة الدولة وأطراف القضية الجنوبية واليمنية عموما في الداخل والخارج.
وليتم في ضوء هذين العاملين الوقوف أمام كل حيثيات وأسباب المشكلة على طاولة حوار وطني مسؤول، بعيدا عن لغة التخوين والتمترس، وفرض الشروط والاملاءات المقوضة لأي تفاهم وحوار، فالوحدة اليمنية التي كانت حلم كل اليمنيين وقواهم السياسية لم تتحقق الاّ بالحوار والتفاهم، لكن الحقيقة المرة التي يجب أن يستوعبها أطراف العملية السياسية إن قيام دولة الوحدة ارتبط أيضا بشرط الديمقراطية، وهو ما يدعو الجميع (سلطة ومعارضة) إلى الالتزام بهذا العهد والوفاء به.
______________
* رئيس مركز الوحدة للدراسات الإستراتيجية
مواضيع متعلقة: