[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

ثقافة الحرب، وحروب الثقافة

توقف القتال في الجولة السادسة من حرب شمال غربي اليمن المستمرة منذ العام 2004. أعلنه الرئيس علي عبد الله صالح وقائد الحركة الحوثية، عبد الملك الحوثي. سبق ذلك بأيام إعلان الحوثيين وقف القتال مع القوات السعودية على الحدود بين البلدين.

المؤمل للاتفاق أن يدوم. الخروقات قليلة. بدأ فتح الطرقات. وبوشرت إجراءات تسليم الأسرى السعوديين على مراحل. والبحث جار في العناية بالربع مليون نازح وإعادتهم إلى ديارهم.

ليس التوقيت مفاجئاً. يأتي بُعيد مؤتمر لندن وقُبيل مؤتمر الدول المانحة المفترض عقده في السعودية نهاية الشهر الجاري. نجح الرئيس علي عبد الله صالح في تدويل حروبه الداخلية المثلثة، بمعس الحرب في صعدة والحراك الجنوبي تحت عنوان «الحرب ضد الإرهاب». ومع أن الإصرار هو على اعتبار التسوية داخلية محض، ما من شك في أن وقف الحرب في صعدة كان واحداً من الشروط التي وضعتها الدول الأوروبية لإجازة عقد مؤتمر الدول المانحة.

عشية إعلان وقف القتال ظهر فجأة أبطال الحرب على الساحة ممّن كان يحرّكها من وراء الستار. إلى جانب رئيس الجمهورية بما هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، تفقّد القوات كل من القائد الميداني للمنطقة الشمالية الغربية، علي محسن الأحمر، الأخ غير الشقيق للرئيس علي عبد الله صالح وابن الرئيس أحمد، قائد الحرس الجمهوري. وهما للصدفة المتنافسان الرئيسيان على «التوريث». على الرغم من ذلك، لا يبدو أن الحرب انتهت بغالب ومغلوب. توقفت العمليات في وقت كان الحوثيون يحاصرون فيه لواءً كاملاً من الجيش هو اللواء 101 ويحتلون لا أقل من 40 مركزاً في الأراضي السعودية. فإذا افترضنا أن التدخل السعودي كان يرمي إلى حشر المقاتلين الحوثيين بين سندان الجيش اليمني والقوات السعودية الضاربة بقيادة قائد «عاصفة الصحراء»، لا يبدو أن هذه الخطة قد حققت أهدافها.

على أن وجه الغرابة الأكبر في هذه الحرب أن وقف إطلاق النار يتم وفق شروط يصعب معها تفسير الحرب أو التدخل السعودي.

فالبنود الستة التي توقف القتال بناء على إعلان استعداد الحوثيين الالتزام بها، بنود إجرائية تتعلق بشكليات وقف القتال. اللهم إلا واحدة هي موافقة الحركة الحوثية على عدم التدخل في الشؤون الداخلية لمحافظة صعدة. وهي أغرب الشروط من حيث تصوّر كيفية تطبيقها على قوة شعبية عسكرية تسيطر على القسم الأكبر من تلك المنطقة.

مهما يكن من أمر، فحتى هذه التقنيات ليست محسومة. يجري مثلاً الحديث عن تبادل أسرى مع السعودية. ترفض هذه الأخيرة التعامل مباشرة مع الحركة الحوثية وتريد تسليم الأسرى الحوثيين إلى السلطات اليمنية. والسؤال هو: هل تسلّم السلطة بدورها الأسرى الحوثيين المحرّرين إلى الحركة الحوثية أم تعتبرهم متمردين يتوجب اعتقالهم وتقديمهم للمحاكمة؟ ومن باب أولى أن ينسحب السؤال على عملية تبادل الأسرى بين الحركة الحوثية والجيش؟

نظرة إلى مطالب الحوثيين والأهداف لن تزيدنا وضوحاً عما دعاهم إلى رفع السلاح أو ما يدعوهم للتخلي عنه. «مشروعنا ثقافي»، يقول يحيى الحوثي، الناطق السياسي باسمهم في ألمانيا، «ينادي بضرورة العودة إلى ثقافة القرآن الكريم. وتصحيح الوضع السيء القائم لدى الأمة على هذا الأساس باعتبار أن منشأ الخلل ثقافي والتصحيح ثقافي الذي يجعل القرآن الكريم فوق كل ثقافة».

في انتظار جلاء المزيد بما يخص الشروط المتبادلة لطرفي الحرب، وهي الآن طي الكتمان، من الطرافة أن نلاحظ إلى أي مدى يلتقي يحيى الحوثي مع صحافي أميركي في التركيز على الكلمة المفتاح في الحرب والحل: «الثقافة». طوماس فريدمان، لمن لا يعرفه بعد، داعية حماسي للعولمة العسكرية يحمي فيها الجيش الأميركي النيوليبرالية بواسطة «قفازه الفولاذي»، وهو في الآن ذاته صاحب فكرة «مبادرة السلام العربية» التي أطلقها الملك عبد الله. زار فريدمان اليمن في الآونة الأخيرة بما هي مسرح لحرب إضافية ضد الـ300 عنصر من عناصر «القاعدة».

لا يكترث فريدمان لا بالحركة الحوثية ولا بالحراك الجنوبي، يعرفهما بما هما حركتان انفصاليتان. لكنه يحمّل الوهابية السعودية مسؤولية تصدير «الإرهاب» إلى اليمن. وفريدمان لا يختلف عن الحوثي إلا في نوعية الثقافة المؤدية إلى الحرب وطبيعة الحل. ومع أن الخواجة الأميركي خزّن كميات لا بأس بها من القات في مقابل صنعاء، فلا يبدو أن النبتة العجائبية قد زادته نباهة ولا معرفة بشؤون اليمن. أعلن إعجابه بسلطة «مركزية ضعيفة» قائمة على المحسوبية والفساد والقوة ومع ذلك فهي قادرة على لملمة أطراف البلد.

لم يجد فريدمان لمشكلات اليمن من حل غير التعليم. كتب (نيويورك تايمز، 12/2/2010) أنه في مقابل كل صاروخ «بريدايتور» ترميه الولايات المتحدة على اليمنيين، يجب أن تساعد اليمن على فتح 50 مدرسة حديثة «تدرّس العلوم والرياضيات والتفكير النقدي للصبيان والبنات على حد سواء». ولم يجد الصحافي اللوذعي، حامل جائزة بولتزر، أي تعارض بين هذه الدعوة وبين اكتشافه أن 300 ألف يمني بمستوى جامعي هم بلا عمل. لا يجد غضاضة في أن يداوي البطالة بالتعليم، والمتعلمون لا يجدون... عملاً!!

تحسّر فريدمان على الحداثة اليمنية. واستشهد على ذلك بشاهد من أهله، الدكتور عبد الكريم الأرياني الذي شغل مناصب رئيس الوزراء ونائب رئيس الوزراء والوزير والأمين العام للحزب الحاكم، المؤتمر الشعبي العام، خلال لا أقل من ربع قرن من الزمن. يتذكّر الأرياني أيام كان طلاب الثانويات اليمنية يدرسون نظرية داروين ولم يعد الأمر كذلك بعد إطباق الموجة الأصولية. لا شك أن الذكرى مؤلمة. ولكن كأن المتحسّر، وهو ثاني رجل بعد الرئيس علي عبد الله صالح، لا علاقة له بما حصل. ولا هو معني بوجود ما يزيد عن عشرة آلاف مدرسة دينية في بلاده، حسب إحصاء فريدمان.

ولا يكتفي فريدمان بحلّه التربوي الثقافي هذا، يردفه بحل ثقافي آخر. يدعو لتخفيف «إدمان الغرب على النفط». على اعتبار أن النفط هو «ما يمنح رجال الدين والمؤسسات الخيرية الدينية في السعودية المال لنشر التفكير المناهض للحداثة في مختلف أنحاء المنطقة». والمعروف، طبعاً، أن رجال الدين هم من يسيطر على الثروة النفطية في العربية السعودية، لا الأسرة السعودية الحاكمة، التي يعد الخواجة فريدمان من أصدقائها المقرّبين.

هكذا يتفق يحيى الحوثي وطوماس فريدمان على أن المشكلة والحل في الثقافة. يختلفان على الثقافة. أما شحة المياه (تجف مواردها خلال 10 15 سنة) ونقص الكهرباء (انقطاع بمعدلات لبنانية!) وقرب نضوب الثروة النفطية والفقر (يعيش 59% من السكان تحت خطه) والبطالة (40%) والفساد والمحسوبية والتمييز المناطقي والطبقي، فهذه كلها «على الله». طالما أن الأمر ثقافة بثقافة. في زمن باتت الثقافة فيه هي أيضاً «على باب الله»!

عفواً! نسينا حلاً آخراً يقترحه فريدمان وهو أيضاً في مضمار الثقافة: تعليم اليمنيين «ثقافة» المُلكية، يعني تدريبهم على التعلق بالملكية الفردية.

فمن يحاسب على قتل آلاف البشر، جنوداً ومقاتلين ومدنيين، وتشريد مئات الألوف، وتدمير مناطق سكانية بأكملها، واستنزاف موارد أحد أفقر بلدان العالم وهو يخوض ثلاث حروب على أرضه دفعة واحدة، في عصر ثقافة الحروب وحروب الثقافات؟
هذه أيضاً «على الله»؟

زر الذهاب إلى الأعلى