[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

دبي .. النموذج المدني أعتى من الأسلحة العربية

انجاز آخر تسجله دبي، بل قل رقما قياسياً، ليس اقتصاديا أو تنموياً أو عمرانياً هذه المرة.. ولكنه امني ومدني بإمتياز.

اكثر من ذلك، تبدو هذه الامارة 'المعجزة' اليوم وكأنها تتعقب واحدا من أعتى وأشرس و'أخبث' أجهزة المخابرات العالمية، جهاز 'الموساد الاسرائيلي'، الذي سجل في تاريخه 'صولات وجولات' اجرامية غطت قارات العالم الخمس، دون أن يترك اثرا يذكر، ودون أن يستطع ان يتعقبه أحد مثلما تفعل الإمارات اليوم، ودبي بصورة خاصة.
جريمة قتل محمود المبحوح، القيادي في حركة حماس، التي يشتبه أنه ارتكبها عملاء للموساد الاسرائيلي، لجهة السرعة والتقنية الاحترافية التي استخدمت لتنفيذها، واسلوب شرطة الاكثر احترافية ومهنية في الكشف والاعلان عنها، شغلت العالم بأكمله، ولا تزال، منذ أن خرج الفريق ضاحي خلفان تميم قائد عام شررطة دبي ليعلن للعالم كيفية حصول هذه الجريمة وليعطي بدقة متناهية، مدعومة بالزمن والصوت والصورة، كيفية حصول هذه الجريمة، التي وصفها ب'الجبانة'.
وسائل الاعلام العالمية، بمختلف أنواعها غطت الحدث بصورة واسعة، وتناولته كما لم تتناول أي حدث شرق أوسطي آخر، مشابه.. أو ربما أكبر منه.

وليس أدل على ذلك من الكيفية التي تناولت فيها وسائل الاعلام هذه عملية اغتيال القيادي العسكري في حزب الله عماد مغنية في دمشق، رغم أن هذا الاخير معروف اكثر، وكان ملاحقا قبل اغتياله بعقود، ونشرت عنه الصحف الكثير والكثير.. ومع ذلك كل ما ركزت عليه وسائل الاعلام الاجنبية بعد اغتياله لم يخرج عن التوقعات والتحليلات لرد فعل حزب الله على الاغتيال وتكهن حجمها ومكانها وتوقيتها.
اما في قضية المبحوح فقد بدت الصورة مغايرة تماماً، وذهبت القضية في مسالك اخرى، وصلت كما اشير سالفا إلى حد ملاحقة جهاز مخابراتي بأكمله، والفضل هنا يعود لدبي، من الألف إلى الياء. صديقي العائد من اوروبا اكد لي انه عايش هذا الحدث بأكمله، وشاهده بالعين الاوروبية التي غطته، ولم يتحفظ ابدا على القول بأن دبي صنعت 'براند' جديدا لها من خلال سرعة ودقة كشفها للجريمة. ويضيف ان وسائل الاعلام الاوروبية بمختلف انواعها ظلت قصتها الرئيسية كشف دبي ملابسات الجريمة، وادعائها على المجرمين.. وتصدرت صور الفيديو التي بثتها للمغدور وللجناة أثناء تنفيذ العملية، وصورة قائد عام شرطة دبي الفريق ضاحي خلفان تميم، تصدرت صفحات الصحف على مختلف اتجاهاتها وانتماءاتها، واكثر من ذلك ان القنوات التلفزيونية التي كانت تستضيف اسرائيليين للتعليق على الجريمة، كانوا يعجزون عجزا كاملا في الدفاع عن 'موسادهم' أو انكار الجريمة، ويلوذون بصمت مريب ازاء الاتهامات التي يكيلها لهم الصحافيون والمعلقون والاعلاميون.. وفي احيان كثيرة لا يجدون بدا من ضم صوتهم إلى صوت المنددين بالجريمة واستنكارها، والتنديد بها وبمرتكبيها وبالمخططين لها. ويضيف محدثي القادم من القارة العجوز، ان الانتصار الاكبر الذي حققته دبي في هذا الحدث، هو نجاحها في ترسيخ نفسها كبلد 'مدني' محكوم بالقانون، والقائمون على شؤونه مهمومون بأمن ورفاهية مواطنيها والمقيمين على أرضها.. ولذلك استنكر الجميع على المجرمين تصفية حساباتهم على أرضها.

دبي اليوم، وبكل الحسابات وضعت 'اسرائيل وموسادها' في مواجهة، حتى مع الاسرائيليين أنفسهم، والمتتبع للصحافة الاسرائيلية يطالع كمية التهكم والاستهزاء، سواء بالكلمة أو بالكاريكاتور، التي يتعرض لهما يوميا جهاز الموساد. ومع ذلك لا تزال المعركة في بدايتها، ولا يزال أمام السياسة والاعلام العربيين عمل الكثير في هذا الطريق. في مقابل ذلك، المؤسف ان الفعل ورد الفعل العربي تجاه الجريمة لم يرتق ولو بنسب قليلة جدا إلى ما قام به جهاز شرطة دبي، ففي الوقت الذي كان فيه قائدها العام يوجه اتهاماته الصريحة والموثقة للموساد الاسرائيلي ويتوعده بالملاحقة والمحاكمة والقصاص، بدأ فريقا الحكم 'الاخوة الاعداء' في فلسطين توجيه الاتهامات لبعضهما بعضا.

حركة حماس، 'اهل دم' المغدور محمود المبحوح، بدأت على الفور بالتهجم على أجهزة أمن السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، فيما ردت حركة فتح وسلطتها الاتهامات.. خطاب كاد ينسي الفلسطينيين والعرب الجريمة الأساسية والمشتبه بارتكابها، ويلتفت إلى التحليلات وتصفية الحسابات الحزبية، في بازار مجته الغالبية العظمى من العرب، من المحيط إلى الخليج.

بالتأكيد، لن يغير دم المبحوح شيئاً من مرارة الواقع الفلسطيني.. ومن باب الافراط بتفاؤل غير مبرر، القول ان دمه قد يوحد الفلسطينيين، ويلفت نظرهم إلى عدوهم الحقيقي، فما مرة على الفلسطينيين من احداث اجسم بدراميتها ومأساويتها من اغتيال المبحوح، لم تفلح في دفع الشقيق التنازل و'قيد أنملة' لشقيقه ليظل باب الاختراق الاسرائيلي واسعا ومتسعاً لكل المشاريع المعادية.

واكثر من ذلك، اثبتت الجريمة الاسرائيلية ان الرأي العام الغربي اكثر تجاوباً مع القضايا العربية، حتى من العرب أنفسهم.. ليفتح الباب من جديد على حقيقة تقصير العرب في استخدام هذا السلاح المهم في معاركهم المحقة.. وعندما كانوا يحاولون ذلك، كانت حروبهم الداخلية وخطابهم الموجه، يضيع حقهم ويرتد سلبا عليهم. المتابع لمسيرة العرب في هذا السياق، لن يغمره تفاؤل كبير.. فمن ضيع فرص العشارات من القرارات الدولية التي جاءت في مصلحتهم.. ومن ضيع حكم محكمة العدل الدولية ضد الجدار العنصري.. ومن ضيع، أو كاد، الحقائق التي تضمنها تقرير 'غولدستون' عن الجرائم الاسرائيلية في الحرب الاخيرة على غزة.. وغيرها.. وغيرها الكثير، لا يؤمل منه خيرا في قضية المبحوح. ليت العرب يدركون اليوم ان وضع 'اسرائيل' الدولي اشبه ما يكون بوضعها أيام 'مؤتمر ديربان' الاول الذي عقد في جنوب افريقيا، حيث حشرت، وكل من يساندها المحافظون الجدد على الاخص وادارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، حشروا في اضيق الزوايا كعنصريين قولا وممارسة.. ومع ذلك استطاعوا قلب الصورة وتغيير المزاج الدولي العام بعد احداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001.

في احدى المناسبات العامة أعلن الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الامارات رئيس مجلس الوزراء وحاكم دبي ان امارته تضع تجربتها ونجاحاتها في شتى المجالات تحت تصرف الاشقاء العرب.. ولكن للاسف قليل جدا اولئك الذين تلقفوا هذه المبادرة، وظلت دبي تحقق نجاحا اثر نجاح.

واليوم دبي، في نجاحها بلفت نظر العالم إلى قضية اغتيال المبحوح أسست لأرضية صلبة يمكن للعرب بعامة، وللفلسطينيين بخاصة، ان ينطلقوا منها نحو اختراق واحد من أعتى وأخطر الاجهزة الاسرائيلية.. فهل يفعلون؟

لا اعتقد..
ولكن يبقى لدبي شرف انها استطاعت بنموذجها 'المدني' ان تكون اكثر قوة ومضاء من كل اسلحة الانظمة الرسمية العربية المكدسة في المخازن بلا حراك منذ عشرات السنين.
كاتب صحافي سوري

زر الذهاب إلى الأعلى