آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

أزمة الجنوب وخرافة الشراكة!

لم يكن انحراف مسار الاحتجاجات في المحافظات الجنوبية في اليمن إلى النزعات الانفصالية، ناجماً عن فراغ.. لقد كان حصيلة طروحات أغلبها مغلوط، تعددت في أذهان الكثيرين دون أن تخضع للتفنيد أو حتى مجرد المناقشة..

ولذا فإن المشكلة، في تقديري، يجب أن توضع على الأرض وتناقش بلا انفعال، نقطة.. نقطة.. حتى لا ترتقي الطروحات المغلوطة إلى خانة المسلمات والثوابت التي لا تقبل النقاش.. وبدوري أحاول خلال هذه التناولة مناقشة عنوان عريض يرفعه أغلب دعاة "فك الارتباط" ويتعلق بمسألة الشراكة.. سواء الحزبية بين المؤتمر والاشتراكي، أو الجغرافية بين الشمال والجنوب.

في البداية نبدأ بالتساؤل: هل كانت الوحدة بين شطري اليمن عام1990 توحيداً اندماجياً للأرض والشعب والقوانين والقيادة زالت بموجبها الصفة الدولية للدولتين السابقتين.. أم كانت وحدة مكونة من تحالف حزبين ارتبطت الوحدة بهما وبوجودهما في السلطة.. فلا وحدة إلا بهما معاً.. وغير ذلك فهو فك للوحدة ونهاية لها.. وصيرورة الوحدة احتلالاً من طرف آخر؟

هذا السؤال الكبير هو المضمون الأساسي للخطاب السياسي والإعلامي الذي يستند إليه في تبرير الدعوة إلى الانفصال وإنهاء الوحدة القائمة، أو بالأدق: إنكار وجود وحدة سياسية من أساسه!

ولأسباب عديدة تدرجت الدعوة إلى الانفصال بعد حرب94 من إزالة آثار الحرب، وإصلاح مسار الوحدة، إلى إعادة الشراكة بين الشمال والجنوب.. وكلها تعني شيئاً واحداً: أن خروج الحزب الاشتراكي اليمني من السلطة، رغم أنه الطرف الثاني في إقامة الوحدة، قد أنهى "الوحدة".. وفي رواية: قتلها، وحولها من وحدة ديمقراطية سلمية إلى وحدة ضم وإلحاق، واحتلال بالقوة!

الشراكة إلغاء للديمقراطية!

يتناقض هذا المفهوم لمعنى "الشراكة" مع مفهوم الديمقراطية التي يقال دائماً إن الحزب الاشتراكي اليمني هو الذي فرضها أو اشترط تلازمها مع الوحدة! والتناقض واضح.. فالديمقراطية لا توجد فيها شراكة أبدية أو بقاء مستمر في السلطة، استناداً لتمثيل افتراضي لجهة جغرافية أو فئة سلالية أو مذهبية طائفية.. ولا نظن أحداً يكابر في أن مفهوم الديمقراطية هو أن تحكم الأغلبية، وأن تمارس الأقلية دور المعارضة حتى تتغير موازين القوة في انتخابات تالية بإرادة شعبية حرة..

والذي نريد أن نفهمه هل قامت دولة الوحدة على أساس ديمقراطية حقيقية بمفهومها المذكور سابقاً، وكما أوضحتها اتفاقية الوحدة والدستور، أم أنها قامت على أساس اتفاق سري بين قيادتي الشطرين على حفظ مصالح الحزبين الحاكمين وحقهما في البقاء في السلطة بصرف النظر عن مقتضيات الديمقراطية؟

فإذا كانت الوحدة قامت على أساس الديمقراطية السياسية- كما قيل يومها وتفاخر بذلك الحكام- فلا معنى للحديث عن ضرورة وجود شراكة واجبة تحت أي مسمى، سواءً باسم الجنوب مقابل الشمال، أو باسم الحزبين اللذين وقعا على اتفاقية الوحدة.. كما لا معنى للبكاء المستمر على الوحدة المقتولة بسبب خروج أحد طرفي اتفاقيتها الديمقراطية!

وأما إذا كانت الوحدة قامت على أساس شراكة أو تقاسم أو مناصفة دائمة باسم الجنوب والشمال، أو باسم المؤتمر والحزب الاشتراكي.. فالمطلوب أن يقال هذا علانية للشعب حتى يكون الجميع على بينة من وجود اتفاق سري بذلك.

ليس هناك اتفاق شراكة سري

والثابت تاريخياً وسياسياً أنه لم تكن هناك أي إشارة واضحة وعلنية لوجود (اتفاق شراكة) جغرافي أو حزبي يبقي أطرافه على السلطة إلى ما لانهاية.. وكان واضحاً منذ البداية أن الوحدة ستقوم على أساس ديمقراطي (أغلبية وأقلية).. ولا يوجد في أي وثيقة –غير سرية بالطبع- أو في صحيفة من صحف الحزبين الحاكمين أنذلك إشارة بأن الوحدة التي ستقوم، ثم قامت، هي وحدة بين حزبين حاكمين تجمعهما شراكة البقاء في السلطة كشرط لبقاء الوحدة منزهة عن كل عيب!

وخلال فترة ماضية، وقد عدنا لقراءة عدد من مجلدات صحف "الثوري" و"المستقبل" الاشتراكيتين و"الميثاق" المؤتمرية، قبيل وبعد الوحدة، لم نجد فيهما إشارة لهذا النوع من الوحدة التي يقال الآن أنها قامت على الشراكة لا بين الجنوب والشمال، ولا بين المؤتمر والاشتراكي.. بحيث تصير الوحدة قائمة بوجودهما ومنعدمة بعدم وجودها.

وحدهم رموز ما يسمى بتيار إصلاح مسار الوحدة كانوا يطرحون هذا المفهوم علانية، ولكن كان واضحاً أن هذا المفهوم لم يكن يجد له أغلبية تؤيده داخل الحزب الاشتراكي.. لكن مع ظهور الحراك الجنوبي عام2007، قويت هذه الأطروحة وصارت خطاباً رسمياً للحزب الاشتراكي وأبرز قياداته.. وفي افتتاحية للثوري (4-6-2009) قال كاتبها صراحة إن من أسباب المشاكل التي ظهرت بين الشريكين قبل الحرب، هو عدم وجود "آلية تنظم العلاقة بين الشريكين وتحفظ حقوقهما". وتعترف الافتتاحية أن تداعي العلاقة بين الشريكين، وظهور الانقسامات بينهما وتعرض الوحدة للأزمة الكبرى-التي انتهت بالحرب- سببه "شعور الشريك الجنوبي –المقصود الحزب الاشتراكي- أن دوره بالسلطة يتضاءل، وأن عليه أن يقبل بالأمر الواقع وما عوده الشريك الأكبر من كرم الضيافة وفتات الشراكة بعد أن أدى دوره مشكوراً في التوقيع على الوحدة"!

هذا إذن هو سبب الأزمة السياسية ثم الحرب والانفصال!!.. وليس اغتيالات أو نهب الأراضي أو حرف الوحدة عن مسارها الطبيعي الديمقراطي الحضاري السلمي (كما زعم البيض في خطابه الأخير في النمسا)، أو التنصل من تنفيذ جميع بنود اتفاقية الوحدة!

مؤشرات تضاؤل دور الحزب الاشتراكي في السلطة بعد انتخابات1993 (حصل على المركز الثالث).. هي سبب أزمة 1993، وهو الأمر الذي كان معروفاً يومها وتداولته الصحافة.. لكن قيادات الحزب الاشتراكي يومها لم تكن تستطيع أن تقول ذلك علانية لأنه يتناقض مع حديثها الطويل العريض عن "الديمقراطية التي فرضت مع الوحدة"، ولذلك كانت الأزمة السياسية وسيلة لإجبار الطرف الآخر على الدخول في مفاوضات لحفظ حقوق الشريك الجنوبي في السلطة. وضمان ألا تؤدي الممارسة الديمقراطية المتوالية -بصرف النظر عن مصداقيتها لأنهم لم يتحدثوا عن ذلك- إلى تضاءل دوره في السلطة!

والذي يعود لقراءة كل ما كتبه وقاله د. محمد حيدرة مسدوس وحسن باعوم وغيرهما منذ التسعينيات وأيضاً ما قاله الأستاذ سالم صالح محمد أواسط 2009 عن ضرورة إعادة النظر في اتفاقية الوحدة.. وكذلك ما قيل عن الشراكة بين الجنوب والشمال.. سوف يخرج بنتيجة واحدة –وإن كانت قديمة- بأن الوحدة لا تعد قائمة إلا إذا عادت الشراكة أو التقاسم كما كان قائماً في الفترة الانتقالية! فحينذاك كانت الديمقراطية على سنجة ونص، والحرية مشاعة كالماء والهواء، والوحدة صحيحة وسليمة من كل أنواع الانفلونزات والاختلالات والأمراض!

وسوف يلاحظ المتابع للكتابات والتصريحات أن مصطلح "الشراكة الجنوبية الشمالية" لم يكن مطروحاً أبداً قبل1994.. وكان المتداول هو الائتلاف أو التحالف الثنائي بين المؤتمر والاشتراكي.. لكن لأن الذي لا يتغير أبداً هو الله سبحانه وتعالى، فقد تحول المصطلح الآن إلى شراكة جغرافية.. وحتى المحاولات لتوحيد المؤتمر والاشتراكي في الفترة الانتقالية يعبر عنها الآن هكذا "المؤتمر حاول جر الجنوب الاشتراكي إلى الدمج مع المؤتمر". وقس على ذلك في قضايا عديدة، بحيث نجح هذا الخطاب في تأجيج مشاعر العداء بين أبناء اليمن الواحد من خلال الحديث عن هويتين جنوبية-شمالية متصادمتين متعاديتين، متناقضتين في مصالحهما وآمالهما!

خرافة الأخذ بالأحسن

في ثنايا الحديث عن "الشراكة" يكثر الكلام عما قيل إنه اتفاق على الأخذ بالحسن من النظامين السابقين أثناء بناء دولة الوحدة!

وكما هو واضح، فإن هذا الاتفاق يتناقض أيضاً مع مفهوم "الديمقراطية".. لأن الأغلبية هي التي تقرر ما هو الأحسن وليس اتفاقاً حزبياً (لا أحد يعرف آلياته) مقصوراً على عدد محدود من المسؤولين يريدون أن يفرضوا رؤيتهم للأحسن على الآخرين!

وعلى العموم فقد كفانا د. ياسين سعيد نعمان، مشقة بيان عيوب وعدم واقعية هذا الشعار بقوله: "الحامل السياسي للوحدة -يقصد المؤتمر والاشتراكي- لم يكن لديه تصور متكامل لبناء دولة الوحدة سوى ذلك الشعار الساذج (وهو الأخذ بالأحسن من النظامين السابقين)".

ولا يستطيع أحد (من الحامل السياسي) أن يزعم أنه يفهم في الأحسن.. فخلال الفترة الانتقالية تمت محاولة تعميم "لجان الدفاع الشعبي" التي كان الشاعر المشهور إدريس حنبلة يسخر منها واصفاً إياها "لجان الهجوم الشعبي"!

والغريب أن حسنة شهيرة تم الاتفاق على قتلها وعدم الأخذ بها، وحتى الآن لا أحد يدافع عنها من المسؤولين ألا وهي حسنة حظر بيع القات سوى يومين في الأسبوع. فمن الثابت أن الجميع اتفقوا -لأول وأخر مرة- أنها سيئة يجب عدم الأخذ بها.. وقد كان!

جدلية السكان والمساحة

من أجل إشعال المزيد من الأحقاد والكراهية بين أبناء الوطن الواحد.. يتبرع البعض في إذكاء النيران من مثل الزعم بأن الجنوب عومل وكأنه "ابن عاق" وفرع تابع ولابد أن تفرض عليه الوصاية والحجر. والزعم بأن الوحدة تحولت إلى ضم وإلحاق دون مراعاة مساحة الجنوب الكبيرة والاعتماد على معيار السكان فقط!

ومعيار السكان في احتساب ممثلي الشعب في المجالس التشريعية ليست بدعة "شمالية".. فحتى الاتحاد الأوروبي يعتمد على هذا المعيار، فلا توجد مساواة بين البلدان كثيرة السكان والقليلة في عدد الأصوات الممنوحة لها أو عدد ممثليها في البرلمان الأوروبي.. والذين يتخوفون من انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي يخفون أسبابهم الدينية بالقول إن تركيا بعدد سكانها الكبير سوف يكون لها ممثلون أكثر بكثير من دول عديدة.. وأتمنى أن أعرف: هل كان أعضاء مجلس الشعب الأعلى قبل الوحدة ينتخبون بناء على مساحة الأرض أم على عدد السكان؟ وهل عضوية المؤتمر العام للحزب الاشتراكي تقوم على المساحة أم على عدد الأعضاء؟

البيض وصالح وهيلموت كول

لكيلا يلتبس الأمر، فإن الشراكة التي ترتبط بالمفهوم الديمقراطي هي التي توفر فرصاً متساوية للجميع في العمل السياسي، وخوض الانتخابات الحرة النزيهة، ويتساوى الجميع أمام القانون، وفي استخدام أو عدم استخدام مقدرات الدولة.. وهي شراكة تجعل الوصول للسلطة سلمياً حقاً مشروعاً للجميع وليس مقصوراً على فئات بعينها.. فلا أحد مخلد في السلطة، ولو كان قائداً ومؤسساً لوحدة بحجم الوحدة الألمانية التي قادها المستشار السابق هيلموت كول، ورحل عن السلطة، بل وتعرض للرمي بالبيض الفاسد من مواطنيه الغاضبين من سياساته الاقتصادية، لكنه عندما حان وقت رحيله لم يقل أنه صانع الوحدة أو مشارك فيها وينبغي أن يبقى في السلطة إلى الأبد!

زر الذهاب إلى الأعلى