يُعجبني ذلك الشعار الذي يُزيِّن واجهة الموقع الإلكتروني «نشوان نيوز»، وهُو بالتأكيد اختيارٌ دقيقٌ وحصيفٌ لصاحبي عادل الأحمدي، تقول العبارة : «حياد الإعلام كذبةٌ كُبرى»، وهذا الشعار يُلخِّص الأمر برمَّته، حيثُ لا يزال هُناك بَشَرٌ يعتقدون بحيادية وسائل إعلامٍ هُنا أو هُناك، ما يجعلنا نسأل السُّوال البديهي : هل بمقدور الإعلام أن يكون مُحايداً؟ وكيف؟
السُّؤال الذي يفرض نفسه الآن وموضوعه حديث الساعة : هل قناة «الجزيرة» مُحايدة؟ وبالتوازي، هل هي مُقدَّسةٌ إلى درجة منع الاقتراب منها؟
إلى زمنٍ قريبٍ وقبل أن يستفحل فينا مرض الفضائيات، كانت إذاعة ال B . B . C وجهتنا طوال الوقت، وكان كثيرون مِنَّا يعتبرون ما تقوله فصل الخطاب ولا نقاش في ذلك، ومع بلوغ وعينا سنّ ما قبل الرُّشد أدركنا أنَّ حيادها «كذبةٌ كُبرى»، لكنَّها تُمارس المهنة بحرفيةٍ عالية، وتعرف كيف تخدم أصحابها بأن «تدسّ السُّمَّ في العسل» - إذا صحَّ التعبير - بذكاءٍ شديد، ومع ذلك كان هُناك عسلٌ كثيرٌ تذوَّقنا طعمه من خلال مادَّةٍ أُخرى شكَّلت وعي كثيرٍ من الناس، خُذ مثلاً «قول على قول» للكرمي - رحمه اللَّه - فيكفيها لو كانت حسنة ال B . B . C ذلك البرنامج لوحده، هذا إذا أغفلنا البرامج القيِّمة وأسماء الأعلام، ويكفيها فخراً أنَّ الطيِّب صالح، صاحب الرواية العظيمة «موسم الهجرة إلى الشمال»، مرَّ منها.
نحنُ العرب عاطفيون، واليمنيون أوَّلهم، لذا نندفع دائماً في هذا الاتِّجاه أو ذاك، اندفاعنا مشبوبٌ بالعاطفة، ثُمَّ نأتي ونحكم - أيضاً - على الأُمور وَبِعَجَلَة.
ال B . B . C وصوت أمريكا والصُّحف الأمريكية من أوَّلها إلى آخرها، تُؤكِّد أن لا وسيلة إعلامية مُحايدة، والمُحايدة يبدو لي إذا وُجِدَت فستُغلق مساء اليوم التالي، لكنَّ هُناك مسألةً مُهمَّة، وحتَّى لا نُحمِّل «الحيادية» ما شئنا من أثقال، نقول إنَّ هُناك وسيلةً إعلاميةً تُمارس المهنة بحرفيةٍ عالية، وأُخرى لا مهنية في أدائها.
«الجزيرة» بالمعنى الذي أشرنا إليه قبلاً، ليست مُحايدة، وسياستها بالأساس صيغ خطّها من البداية أن تدع الناس، وبالذات في الشرق الأوسط، يصرخون بعد سنوات من الكبت، وفرقٌ بين صُراخٍ وصُراخ، وهُنا يتبيَّن خيطٌ رفيع، خُطَّة الشرق أوسطية حين حطَّت رحالها.
لا أخفي شخصياً أنَّني مُعجبٌ إلى العظم ب «الجزيرة»، ولا يستطيع أيٌّ كان أن يقول بغير هذا، وهي ليست مُقدَّسة حتَّى نُمنع من الاقتراب منها، مُعجبٌ بمهنيتها العالية وحرفية العاملين فيها في فُنون صحافة التلفزيون بكُلِّ أشكالها، وهي تُذهلكَ بأدائها، لكنَّنا كعرب لم نستطع أن نستفيد من المساحة المُتاحة فيها للرأي، ولا استطعنا من خلالها استغلال أيّ مساحةٍ تُتاح لنا لإيصال رسالةٍ ما، وانظُر، فحين تستضيف «الجزيرة» في نشراتها أيَّاً كان من إسرائيل، فيأتون ويظهرون أذكياء كعزرا الذي ذهب ليُعزِّي في جريدة ما بوفاة أبراهام، فقالوا له : سَوِّ كذا، فصاغ تعزيته «عزرا يُعزِّي بوفاة أبراهام...»، قيل له : لو أكملت السطرين سيكون سعر المساحة أقلّ، وبذكاءٍ أضاف : «ويصلح ساعات»، بالمقابل نحنُ لسنا أذكياء، ولا نستغلّ أيَّة مساحة زمنية تُخصِّص لنا وتُوْصِل رسالتنا.
«الجزيرة» بمعنى من المعاني ليست مُحايدة، ولا يُمكن أن تكون، وخُذ مثلاً برنامج أحمد منصور «بلا حُدود»، فكثيرون يصرخون أنَّه «يُصفِّي حسابات مع الحقبة الناصرية»، هو يظهر هكذا، وبالذات مع جمال حمَّاد، ومع عبدالكريم النحلاوي، قائد الانقلاب على الوحدة في سُوريا.
السُّؤال : هل هُو أحمد منصور غير المُحايد؟ أم أنَّ سياسة «الجزيرة» هي كذلك، بما تُمثِّله من خطٍّ يتبع مُؤسِّسيها وفلسفتهم ورُؤيتهم؟ وإلاَّ لما كانت «الجزيرة» قد ظهرت أصلاً إذا لم تكُن قد أتت من أجل غرضٍ ما، وانظُر إلى سياستها تجاه غزَّة وبرامجها الدِّينية، وهذا لا يعني الانتقاص منها، ولن تُجدي أيَّة مُحاولةٍ لي لتقزيمها، هذا إذا فكَّرت في ذلك من أصله، وَإِذَاً لن يكون للسُّؤال : هل «الجزيرة» مُحايدةٌ في الشأن اليمني، أيّ معنى.
بقي أن أقول : إنَّ «الجزيرة» تظلّ القناة العربية الأُولى التي تحظى بمساحة مُشاهدةٍ خيالية، ويبدو أنَّ هذا على مُستوى العالم، وعربياً حتَّى «العربية» لم تستطع أن تسحب ولو جُزءاً من نسبة مُشاهدتها العالية، لكنَّها مُطالبةٌ إلى حدٍّ لا يخلّ بخطّها، أن تُسيِّد المهني يمنياً على ما هُو سياسي، وإن تداخل الخطَّان.
ولا بأس من السُّؤال هُنا : أين كانت «الجزيرة» في مُواجهتيْ صعدة الأُولى والثانية؟ ولماذا ظهرت في المُواجهة السادسة كما ظهرت عليه؟
هُناك سُؤالٌ عام - أيضاً - : بأيِّ معنى من المعاني نُريد من هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك أن تكون مُحايدة؟ كيف نستطيع أن نُحدِّد : هذه مُحايدة، وتلك ليست كذلك.