كشفت الحرب السادسة مع الحوثيين، التي انتهت قبل أسابيع عن جملة حقائق كانت طي المستور، أبرزها في تقديري ما يتعلق بشئون اللجنة الخاصة السعودية اليمنية التي أكدت الحرب فشل هذه اللجنة بامتياز. وهو ما سأتناوله هنا بشيء من التفصيل.
أقول: منذ عقود وصرة الريال العربي (السعودي) تتدفق مدرارا بسخاء حاتمي باتجاه بعض مشايخ اليمن الأعزاء، وخاصة كثير من مشايخ (عمران صعدة الجوف مارب) وقليل من مشايخ بعض المحافظات المجاورة لها!!
وبدأت قصة اللجنة الخاصة من توقيع المصالحة بين الجمهوريين وبقايا فلول الإمامة توقفت على إثرها الحرب بين الطرفين مع التزام سعودي بدفع رواتب كبار موظفي النظام الإمامي البائد، الذين فضل جزء منهم العيش خارج اليمن. ويقدر بعض المهتمين نسبة الإماميين في كشوف اللجنة الخاصة بحو إلى الثلثين علما أن مجموع الأسماء تناهز 20 ألف مستفيد.
يرأس "اللجنة الخاصة" منذ تأسيسها و إلى اليوم صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز. ويحكى أن الرئيس علي عبدالله صالح ضغط بقوة بعد توقيع اتفاقية جدة الحدودية في سبيل إالغاء اللجنة فنجم عن ذلك تخفيض المخصصات الشهرية المتدفقة إلى النصف.
تختلف نسبة هذا التدفق والعطاء باختلاف المكانة والثقل الاجتماعي والسياسي، واعتبارات أخرى قد لا أكون ملما بتفاصيلها. ليس الريال العربي وحده فقط؛ بل ومعه كثير من الامتيازات الأخرى كالتأشيرات المجانية لرحلات الحج والعمرة وأيضا المنح العلاجية، وربما الدراسية للأبناء...إلخ.
يمثل هذا التدفق ما يمكن أن يشبه الحبل السري لهؤلاء الذي يمثل لهم الشيء الكبير والمهم، وتأتي هذه الأعطيات والمنح والاعتمادات ضمن سياسة سعودية خاصة تعتبرها استراتيجية. وبالنظر إلى جغرافية هؤلاء المكانية نجدهم من مربع جغرافي واحد له حدود تماس مع الحدود السياسية للمملكة، وبعضهم لها معهم ما يحرص هؤلاء المشايخ على تسميته بالعلاقة التاريخية، وما هي بتاريخية في حقيقتها، ولا استراتيجية أيضا كما أرى.
والسؤال المهم هنا: ما جدوى دعم المملكة الشقيقة لهذه الفئة تحديدا منذ فترة طويلة، ولا تزال، وبهذا السخاء؟ هل ثمة أثر إيجابي ملموس يعود على المملكة من هذا العطاء؟ أرى أنه لا فائدة، وذلك للأسباب التالية:
أولا: كشفت الحرب السادسة وتحديدا الهجوم الحوثي على أراضي المملكة هشاشة وضعف ربائب النظام السعودي في اليمن، الذين لم يحولوا بينه وبين الهجوم على أراضي المملكة بثقلهم القبلي ومكانتهم الاجتماعية، وظلت المملكة تعاني ويلاتها وتتكبد خسائرها حو إلى شهرين، خسرت فيهما مئات الملايين السعودية، واضطرت في النهاية إلى التفاوض مع هذه الجماعة بطريقتها الخاصة، التي لا تزال تفاصيلها غامضة حتى الآن!! وإن كان أحد المشايخ الكبار حاضرا خلال المشهد؛ لكنه حضور وسيط، لا أقل ولا أكثر، مع احترامي لجهوده التي بذلها، ولا أريد أن أقلل من أهميتها. ثم إن الظروف نفسها كانت مواتية للصلح. والحديث هنا منصب على المستفيدين من "الخاصة" من غير التيار الحوثي نفسه.
ثانيا: هؤلاء المشايخ لهم ارتباطهم أيضا بالنظام اليمني وعلاقاتهم الخاصة مع السلطة العليا، وهو ارتباط طبيعي، كجزء من هويتهم الوطنية تحتم عليهم طبيعة المواطنة الصالحة ذلك ولا غبار عليه، وفي حال تقاطع وجهات النظر الرسمية بين البلدين فإن معظمهم؛ بل كلهم سيكون مع موقف بلده، مع الإشارة إلى أنه في حال ارتخاء حبل المصالح الشخصية بينهم وبين النظام، أو انقطاعه ستخبو هذه العلاقة وينفك الارتباط!! وهو أمر مستبعد حاليا.
ثالثا: هؤلاء المشايخ بدأوا يفقدون بريقهم وحضورهم الاجتماعي في الأوساط العامة، وتضاءلت نسبة نفوذهم إلى حد ما مع الأخذ قي الاعتبار أن نظام المجالس المحلية وانتخاب المحافظين قد أعاد إنتاج بعض المشيخات وخولها شيئا من السلطة الرسمية وذلك بفعل الوعي الذي بدأ ينتشر وإن كان على استحياء ولا يزال في مرحلة الحبو بفعل انتشار الجامعات والمدارس ومنظمات المجتمع المدني على وجه التحديد، جعلت من بعض المواطنين من يرى في نفسه شيخا في حد ذاته، أو لا يكترث لمسألة المشيخة من أساسها!!
رابعا: رعاية المملكة لمجموعة أو عدد معين من المشايخ كمن يكتحل في عين ويترك أخرى!! بمعنى أن ثمة مشايخ آخرين لهم حضورهم السياسي والاجتماعي، سواء من نفس الرقعة الجغرافية أو من خارجها لم يحظوا بما حظي به نظراؤهم هؤلاء (فأسروها في أنفسهم) وبدأوا ينظرون إلى المملكة شزرا، ولسان حالهم: " ما زيد هؤلاء علينا"؟! ومن ثم بدأوا يبحثون عن "لجنة خاصة" أخرى، في دولة أخرى، وبالطبع فلم يعدموا دولة أخرى مناوئة للمملكة سياسيا، فاستووا مع نظرائهم بالرعاية الشهرية بالدولار بدلا عن "الريال العربي" ومن ثم سيستجيبون لشروط التمويل؛ لأن تمويلهم ليس هكذا عرضا لوجه الله، ولن تسلم المملكة من شرهم إن أرادوا ذلك، أو تم توجيههم، وبالتالي تكون المملكة قد صنعت لنفسها خصما بيدها. مع العلم أن كلا منهم مستعد للتصالح معها في حال تم ضم اسمه إلى كشوفات اللجنة الخاصة، وهو ما لم تستطع عليه المملكة؛ لأن اليمن هو أصلا بلد المشيخات والسلطنات منذ القدم.
ورحم الله السلطان الرسولي علي بن محمد الرسولي الذي تنسب إليه هاتين البيتين من الشعر ضمن قصيدة يشخص فيها القبيلة في اليمن وقد ضاق ذرعا بمطالب المشايخ التي لا تنتهي:
إذا نحن زدنا من عطاء قبيلة لنكفى أذاها زاد فينا انتقامها
فأطماعها نار وإن عطاءنا لها حطب إن زاد زاد ضرامها!!
فهل وعت المملكة وسمو الأمير سلطان، ولي العهد، والرجل المهذب والخلوق سعادة الأستاذ السفير علي بن محمد الحمدان هذه الحقيقة؟!
خامسا: مشايخ اليمن ليسوا أغبياء أو بدواً كما تبدو هيئات بعضهم؛ بل إنهم على قدر عال من الذكاء والسياسة ولعب الأدوار، وأكثر سياسة من سياسة اللجنة الخاصة نفسها.. ولن يتقاطعوا يوما من الأيام فيما بينهم تقاطعا لمصلحة المملكة، إلا أن تكون المقاطعة تكتيكية لجلب المزيد مما خف حمله وغلا ثمنه، وإن كان ثمة تقاطع قائما الآن فهو لأسباب أخرى لا أقل ولا أكثر..
سادسا: مثل هذه الفئة المدعومة التي ترعاها المملكة في أقصى الجزيرة العربية، ليس بوسعهم ولا بمقدورهم دعم المملكة في موقف إقليمي أو دولي ما، من شأنه أن يرجح كفتها أو يعزز موقفها، وربما يتبنى البعض منهم وجهة نظر أخرى مغايرة، وهو ما حصل بالفعل مثلا إبان الغزو العراقي للكويت عام 90م، وإن كانت هذه السياسة ضمن سياسة البلد الرسمية، مع أني أستبعد أن يحصل تباين رسمي على المديين المنظور والقريب في وجهات النظر الرسمية بين البلدين. وهو ما يمكن القول أن المملكة في غنى عن هؤلاء مقابل تمتين علاقتها بالنظام.
سابعا: فيما يتصل بالشأن الاستراتيجي للمملكة على المديين القريب والمتوسط، وحتى على المدى البعيد، فإن هؤلاء لا يمثلون لها أي رصيد سياسي أو أيديولوجي يتم التلويح به من قبل المملكة أمام القوى المواجهة لها إقليميا؛ بل على العكس من ذلك تماما، فإنهم سيمثلون عبئا اقتصاديا كبيرا، خاصة إذا ما تراجعت أسعار النفط، أو طرأ على المملكة أي مكروه لا سمح الله.
على ضوء ما ذكرت، ومن منطلق الحرص على المصلحة العامة للبلدين الشقيقين والجارين، ومن أجل الاستفادة المثلى لأي مورد عربي أضع بين يدي المملكة النقاط التالية:
أولا: إعادة النظر في سياسة اللجنة الخاصة نفسها، ورسم أهداف جديدة وفقا للمتغيرات والمستجدات الراهنة، وما أفرزته العشر السنوات الأخيرة إقليميا وعربيا ودوليا، وتوظيف هذا الدعم بما يتلاءم وتوجه هذه المتغيرات، التي تخدم المصلحة العامة للمملكة واليمن على حد سواء، وحتى لا يكون الدعم من أجل الدعم فقط!!
ثانيا: ترشيد هذا الدعم والأعطيات والمنح الشهرية والسنوية التي تضرر منها الكثير من المواطنين في اليمن بطريقة غير مباشرة، حين حرص هؤلاء المشايخ على الاستفادة القصوى من كل ريال بذكاء وحرص في التجارة والسياسة معا والذي أوصلهم إلى السلطة والاشتغال بالسياسة، فأصبحوا إلى جانب كونهم مشايخ ووجاهات اجتماعية أيضا تجارا؛ بل وساسة في نفس الوقت!! وهذا في الواقع هو ما يهدد بنية النظام السياسي اليمني ويقوضه من أساسه حاليا ومستقبلا، ويأتي عليه من القواعد، ويؤثر سلبا على الحاضر والمستقبل، وما أزمة اليمن الحالية إلا نتاج هذه اللعبة التي تشبه لعبة "جيجزو بوزل" المعروفة، وقد نالت الجارة الشقيقة نصيبها من هذه المعاناة بطريقة غير مباشرة حين وجدت نفسها فجأة أمام مسئولية إنقاذ جارتها من الانهيار الذي يرجع جزء كبير من سببه إلى هذه اللعبة..
ثالثا: وهذا هو الأهم في تقديري التحول باتجاه منظمات المجتمع المدني في اليمن ورعايتها ونسج علاقة ود وتعاون بينهما؛ كون منظمات المجتمع المدني هي الرديف المهم والشريك الفاعل في التنمية، خاصة في ظل التوجه الدولي نحو هذه المؤسسات، التي أثبتت حضورا إيجابيا فاعلا في مختلف المجتمعات. ومن ذلك أيضا الهتمام بشريحة المثقفين وصناع الرأي العام.
رابعا: الاهتمام بقطاع الشباب على وجه الخصوص، من خلال عدة برامج مدنية، كتخصيص المنح الدراسية الجامعية والأكاديمية لهم سنويا، ورعاية بعض مشاريعهم الثقافية، وإقامة دورات التدريب والتأهيل في مجالات مختلفة، وتقديم التسهيلات لهم كشريحة مهمة في المجتمع، والأهم من ذلك تبنيهم كرصيد سياسي وأيديولوجي مستقبلي لها، خاصة وقد أصبحت حاضرة بقوة في كل القضايا ذات الأبعاد الإقليمية والعربية، وبعض القضايا الدولية. وهذا في تقديري من أعظم الرهانات المستقبلية؛ ولكن إذا ما تم استغلاله..
خامسا: يحسن للمملكة أن تتريث قليلا، وتنظر بعين البصيرة إلى سياسة خصمها السياسي الكبير " إيران " في المنطقة، وفي خارج المنطقة، وكيف تخطط لمستقبلها كصاحبة مشروع بذكاء ودقة، من خلال نشر مراكز التشيع في العالم وتصدير ثورتها، فهي الآن على مشارف الانتهاء من بناء جامعة عملاقة في كابول ربما أرقى من جامعات طهران أو قم في إيران نفسها، وهي تدعم مئات مراكز التشيع في أمريكا وبريطانيا ودول المغربي العربي وأفريقيا بشكل عام؛ بل حتى داخل المملكة نفسها!! وتبني المستشفيات والمراكز الطبية وتدعم منظمات المجتمع المدني ذات التوجه المقارب، وإني على ثقة أن الشباب اليمني سيكون على قدر عال من المسئولية والوفاء تجاه المملكة فيما يتعلق بخصومها الاقليميين أو الدوليين، وسيكونون في مقدمة الصفوف المدافعة، وعلى أكثر من صعيد.
سادسا: بوسع المملكة أن تزيل من تفكيرها أي تحسس سياسي تجاه اليمن، وتعمل على طي صفحة الماضي في المواضيع ذات الشأن المضاد أو المغاير، فالمرحلة لا تتحمل جرجرة الماضي أو الوقوف لحظة عتاب للآخر، بقدر ما تستدعي التخطيط للمستقبل بجد من الآن وطي الخلافات السابقة، وعليها تمتين علاقتها بالنظام السياسي، من خلال برامج وخطوات عملية، ودون انتظار أو تأخير.