صباح 10 أبريل 1977 أوقفت وسائل الإعلام المسموعة والمرئية في أوروبا والولايات المتحدة برامجها الاعتيادية، ونقلوا للناس فحوى الخبر الصدمة .. أتانا على التو أن شخصية يمنية كبيرة أُغتيلت في العاصمة البريطانية لندن في ظروف غامضة والشرطة البريطانية تعلن حالة استنفار واسعة لمتابعة الجناة.
مقدمة النشرة (إذاعة ألمانيا الغربية ودبليو تي في)، قبل قليل وردنا الخبر العاجل: أُغتيل أمام فندق رويال لانكستر في العاصمة البريطانية لندن عضو مجلس الرئاسة ورئيس الوزراء اليمني (الأسبق) القاضي عبدالله الحجري وزوجته ودبلوماسي يعمل في سفارة اليمن بالمملكة المتحدة، وشرطة اسكوتلنديارد تغلق محيط الفندق وحديقة هايد بارك والأماكن المجاورة. مقدمة النشرة (البي بي سي وأخرى محلية)، الإرهاب يضرب مجددا في لندن ويغتال رئيس وزراء اليمن وزوجته وموظفا في السفارة اليمنية والمحققون لايستبعدون فرضية دور لليمن الجنوبي وللمخابرات الروسية ال"كي جي بي" وللمنظمات الفلسطينية ، مقدمة النشرة (صوت أميركا).
توالت بعدها سيطرة الخبر على كل زاوية في العالم، لقد كان الحجري أرفع شخصية أجنبية يُغتال في بريطانيا وهذا هو الخبر المثير.
وإليكم عرض ما حدث ذلك اليوم بنسبة حقيقة بمعدل 90% ونسبة خطأ هامشي 10% ، هذه هي تفاصيل ما حدث بعد ثلاثة وثلاثين عاما على رحيل الحجري استنادا على تقارير وشهود أحتفظ بأسمائهم وتحقيقات إعلامية من صحف التايمز والديلي ميل والديلي تلغراف وغيرها:
نحن الآن في صباح يوم الأحد وفي العاصمة البريطانية لندن، الأحد هنا كان دائما يوما للمسيح، يذهب فيه المتدينون المسيحيون وهم اقلية لترميم العلاقة مع المسيح في كنائسه والتطهر مما جمعوه من أخطاء الأسبوع، دائما ظنوا أن صلاة الأحد كفيلة بمحو الخطايا، إنه يوم الترانيم الكنسية ويوم الأنجيل، الأغلبية البريطانية غير متدينة والكثير منهم لايعنيهم الإنجيل ولا علاقة لهم به، وأحد المسيح أو يومه لا يلقون له بالا، إلا كونه يوم ساعات النوم الإضافية التي ضيعوها في سهرة مساء السبت، فيأتي هذا الأحد وكل أحد آخر في التقويم، ولا يُرى في شوارع بريطانيا صباح الأحد سوى السياح والتائهون، فالشوارع تخلو من المارة وتقل حركة المركبات، أنه يوم مثالي لعملية الاغتيال والقتل السياسي أو الاجتماعي. الكل نائم أو في الكنيسة وخلو الشوارع يساند الهارب للنجاة من فعلته، والشوارع الخالية تسمح بالمناورة الناجحة في الحركة والعدو.
أحد 10 أبريل 1977 في لندن كان لاشيء يوحي بشيء مثير ولافت، فندق رويال لانكستر المطل على حديقة "هايد بارك" وركن الخطابة في الحديقة (كورنر سبيتش) يبدو أيضا هادئا.. الذين يمارسون رياضة الهرولة والعدو في حديقة هايد بارك التي تمتد إلى الفندق ويفصل بينهما شارع مُنحن، أعداد لا تغيب منهم في أجواء كصباح هذا الأحد والمكان برمته ليس خاليا ولكنه مقارنة بأيام العمل يبعث على التساؤل أين ذهب كل أولئك الناس؟، وبنظرة عامة فالمحيط كله ليس موحشا، الجو العام من ناحية امنية مسترخ جدا في المنطقة المحيطة للفندق ومنها حديقة هايد بارك. في داخل الفندق، هدوء اعتيادي يتناسب مع كل أحد، أشخاص يعدون على الأصابع وعلى فوارق زمنية يغادرون ويدخلون الفندق.
في جناج إقامة الحجري بالفندق، يفتح القاضي الباب ويستقبل واحدا من ثلاثة أشخاص رأوه للمرة الأخيرة ، أتى للسلام عليه، هو أحد الثلاثة الذين شاهدوا الحجري من بين كل اليمانيين للمرة الأخيرة، يقول استقبلني القاضي ببشاشة وبترحاب وباتسامة مطمئنة وبدعاء نافع، كانت الساعة قد تعدت التاسعة صباحا، وبدا لي أنه كان قد أنهى قرآءة ماتيسر من القرآن الكريم، سألني إن كنت قد فطرت أم يطلب لي إفطارا، وعندما أجبت بأني قد فطرت، استفسر مني، ما الأخبار في بريطانيا؟ فاستعرضت له الأخبار، وتحدثنا عن المستشفيات والعلاج وعن أفضل الأطباء لمعالجة زوجته طيب الله ثراها ثم عرضت عليه أن يأمرني بأي خدمة ومنفعة أقدمها بسعادة نحوه، ثم سلمت عليه وغادرت الجناح ومن ثم الفندق.
بعد رحيل الزائر الأول تقدمت شخصية يمانية كبيرة جدا إلى جناح القاضي الحجري للسلام عليه، فالقاضي بالنسبة له وللحمدي ولزملائهما في مجلس القيادة يُعد الأب الروحي والمرشد الأعلى وبه يطمئنون لشرعية قراراتهم. لم يمكت مع القاضي طويلا، إنه يستعد للعودة إلى اليمن، لقد أرسله إلى لندن رئيس مجلس القيادة إبراهيم الحمدي على رأس وفد كبير للإطمئنان على صحة الملك خالد بن عبدالعزيز آل سعود.. أما ثالث وآخر شخصية التقت القاضي الحجري في جناحه صبيحة ذلك اليوم وقبل نصف ساعة أو أكثر على اغتياله فكان أحد زعماء اليمن التاريخيين الكبار والذي توفاه الله بعد عمر مديد بينما لايزال الزائران الآخران على قيد الحياة يمرحان عافية ومناصب، ولم يكن يدور بخلد الزوار الثلاثة أن ذاك هو الصباح الأخير للقاضي والسلام الأخير على القاضي والطلة الأخيرة لواحدا من عصبة الأنقياء في اليمن.
ذهب الثلاثة كلا نحو وجهته، وغادر القاضي في حو إلى الساعة العاشرة والنصف من صباح ذلك الأحد المروع جناحه ومن ثم بهو الفندق تتبع خطاه زوجته متجها إلى خارج الفندق يتقدمهما عبدالله الحمامي، متجهين جميعا نحو سيارة مرسيدس سوداء موديل 1976 تحمل لوحة دبلوماسية للسفارة اليمنية. أحد بوابي الفندق تقدم الحجري وزوجته ليفتح لهما بابي السيارة وهي عادة من عادات الضيافة في فنادق البلدان وفي أوضاع ماطرة يحمل هؤلاء المظلات لمنع ابتلال ملابس النزلاء بالمطر.
ركب القاضي الحجري بجانب عبدالله الحمامي الذي رغب أن يتفرغ للحجري ولمشاويره بديلا عن السائق الذي خصصته السفارة له. زوجة الحجري أخذت مكانها في المقعد الخلفي، وخطة الرحلة للحجري كانت الذهاب إلى مدينة بريتون الساحلية إلى الجنوب من لندن وتبعد نحو ساعتين.
أُغلقت أبواب السيارة ، يصف تقرير عن الحادثة أن ذاك الأحد كان يوما مشمسا ولندن وعموم بريطانيا تشكوان أبد الدهر غياب الشمس، فهذه البلاد مستعمرة للضباب، هكذا هي أجواء بريطانيا، ضباب ومطر بلاتوقف أو رذاذ بلاتوقف. البريطانيون لن يعطشوا، لكنهم يحتاجون للكثير من المظلات، هم اكثر شعب في العالم يستهلك المظلات بكل انواعها، لكن هذا الأحد مشمس. لعل الشمس ارادت ان يترجل الحجري الدنيا إلى يوم الله راحلا على ضوئها.
استقر الثلاثة داخل السيارة في لحظة إنطلاق، لاشك أن القاضي كان قد بدأ يتلو دعاء السفر، فجأة يفتح باب الراكب الأمامي حيث يجلس القاضي، شخص مجهول، أخرح من تحت معطفة مسدسا كاتما للصوت وأطلق الرصاص بسرعة أولا على القاضي وأخيرا على زوجة القاضي، ويهرب بعيدا عن عين المكان، مهمة اغتيال الهدف الكبير قاضي اليمن تمت وانتهت.
عمال الفندق أحسوا أن شيئا مروعا وخطيرا قد حدث هذه اللحظات رأوا شخصا يهرب بعيدا، كان هو الوحيد الذي يجري من نطاق المكان والسيارة الدبلوماسية السوداء، هرب باتجاه الأشجار، لم يقتربوا من السيارة ومن أولئك الثلاثة الذين قضوا داخلها، تسمروا في أماكنهم بعد أن صرخ رجل أمن الفندق ابتعدوا، أتركوا الأمر لشرطة أسكوتلنديارد إنها قادمة، لا أحد يقترب ابتعدوا (كيب أويه). لحظة جمود وصمت لم تقطعه إلا أصوات سيارات الشرطة وعربات الإسعاف والمطافئ وهي تأتي من كل اتجاه.
المنطقة في لحظات ستصبح ثكنة أمنية، الشرطة تحاصر المكان وتضرب حزاما أمنيا واسعا، يهرع السفير اليمني في لندن محمد الإرياني بعد سماع الخبر إلى مكان الجريمة، انا السفير اليمني، شرطة التحقيق تستمع له وترشده إلى اين يتوجه، كل من كان خارج الفندق ممنوع عليه الدخول وكل من كان داخله ممنوع عليه الخروج ، كل يبقى في مكانه، أغلقت اسكوتلنديارد منطقة أمنية كبيرة بحجم الحي السياسي في صنعاء، خبراء التحقيق يرسمون خريطة البحث والتقصي الآن لكل سنتيمتر في المكان ويتوسع لاحقا ليصل إلى بيروت وصنعاء وعواصم أخرى.. ونصل نحن للجزء الثاني في الأحد المقبل إن شاء الله.
إعلامي يماني