آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

الحراك الجنوبي قوة حيوية تائهة في الفراغ

كان الحراك نوراً أصيلا من روح اليمن ، كان يبحث عن إنسانيتنا في آفاق الحرية والعدالة، كان الحق عنوانه، كان اليأس غالب عليّ وأنا التابع الصراع سياسي النخبوي على الموارد بين القوى السياسية الفاعلة في الساحة..

كان الأفق مسدود أمام التغيير، انتعش الأمل في روحي بولادة حراك سياسي في الجنوب، كان الحراك حينها يرسم ملامح الوطنية الحرة والأبية، كان الحراك وقتئذ يتحكم فيه عقل راسخ، وحسابات وطنية ناضجة، كان يبحث عن وطن ضائع وطن قلق غارق في الظلم، وفجأة تراكم يأسي، فالتطورات أوقعت الحراك في فخ قاتل، لقد سقط الحراك في الغريزة وانتحر الأمل الذي زرعوه في خزعبلات التخلف، لست قاسيا، كان الحراك إنسانيا وغدا عنصريا، كان نجما حرا نقتبس منه معنى الإباء والتحدي رغم نموه البطيء في حينه، وصار فاشلا وبلا أفق رغم تأثيره الغرائزي الكاسح.

كانت ملامحه الأولى تقول أنه ينحت بصبر وأناة عن مشروع جديد لنا جميعا، نعم لقد كان فعلا يعبر عن الروح الثورية لصانعيه وكان فعلا تجسيد لعقائدهم السياسية التي صنعها تاريخهم الوطني الفريد، لا أؤمن بالمؤامرة لكن الحراك أخاف الفساد وقوى التخلف والرجعية ، لقد سقط بفعل فاعل ونتيجة لعجز قيادته عن أنتاج مشروع واضح،.

صار الحراك بعد خروجه من مساراته الطبيعية حالة خطرة على نفسه وعلينا جميعا، أنه بتجلياته العصبية أشبه بممارسة الزيف والخداع على الذات، خرج من فاعليته النورانية إلى آفاق مظلمة، أنه انسلاخ عن الواقع الفعلي لمناضليه، عن الحقيقية الحرة وعن الوطنية التي يحملها مناضليه بين جوانحهم.

أن الحراك بصورته الراهنة حالة غضب قلقة ومتهورة انبثقت من أروح عاشقة للحياة النظيفة وللوطنية النقية أفقدها الظلم مروءتها فتاهت في فراغات الانتحار، أنها روح يمانية لم تستوعب التاريخ، أنه غضب عربي جامح لم يستوعب العقل، قبلية متحكمة بوعينا تقودنا في جحيم الانتقام، وفي غمرة الغضب ضاع العقل وتاه المشروع، وعندما يفقد العقل توازنه وتتغلب العاطفة الجامحة فإن المناضل يقاتل بانفعال فينتج دمارا مضاعفا، أن الحراك في لحظته الراهنة تجسيد لروح اليمني الجاهلي لا اليمني الحر الباحث عن عصر جديد.

لا ألوم أحد فكلنا في الطبع سواء، المشكلة أني كنت على يقين كامل أن الجنوب صار أكثر خبرة ونضجا وحداثة بل وأكثر ذكاء ومازلت عند قناعتي، لكني استغرب كيف وقع الحراك في فخ الكراهية المؤسس على وعي قبلي انعزالي؟ كيف خانت قوى وطنية تاريخها ونفسها، قوى علمتنا الوطنية والحرية قوى وطنية لها تجربتها السياسية وتاريخها النضالي، سوف اقول تجاوزا أنها حمير الجامحة لم يحررها التاريخ بعد من أخطائها القاتلة، أنه التاريخ يكرر نفسه في لحظة يأس وفي ظل عنجهية متنمرة غارقة في عاطفة قلقة وغير نزيهة.

لقد سيطرة الثقافة العصبية وهيمنت افكار ماضوية قروية وتغلبت نزعات ماقبل المدنية، وتغلبت لغة التجمعات الغوغائية كخيار لتحريك الشارع، وتخلق عقل جمعي حماسي، والعقل الجمعي عاطفي ولاعقلاني وعندما يسيطر على الجماهير تضيع الطاسة على أعقل العقلاء، تم حقن النضال بثقافة غريبة عن أصحابها لكنها في معمعة الفوضى والرضوخ للصراخ سيطرت وأصبحت هي المتحكم، وأصبح من يفكر خارج العقل الجماعي خائن للقضية وللجماعة، وعميل ومرتزق، ومع الوقت أصبح الخطأ هو الصواب المطلق ولا مراجعة.

دعونا نتحاور بالعقل والمنطق، ليسأل القادة أنفسهم هل هم في اللحظة الراهنة صناع تاريخ أم أنهم صاروا أتباع لعاطفة غرائزية قاتلة للتاريخ؟ هل هم مقتنعون بما يجري وبخطاب الحراك المناقض لحقيقتهم الحرة الذائبة في عشق اليمن؟ هل يجرؤ من يعتصرهم الألم على واقع الحراك ممن يعملوا وسط الحراك أن يقدموا رؤية نقدية للحراك تراجع مسيرته وتناقضاته الداخلية؟

الحراك تحول إلى قوة سلبية تعيد أنتاج الظلم وتخدم قوى الفساد، ما يجري يمنح الظلم قوة مضاعفة في الهيمنة ويعطيه شرعية المواجهة لحماية ما قاتل من أجله الحراكيون طوال تاريخهم، الحراك بتجلياته الحالية يقودنا إلى صراع سينتصر فيه الفساد وتقتل روح الحياة الباحثة عن وطن طاهر منتج للعدالة والحرية والمساواة.

دعوني أسأل:

هل الانفصال ممكن؟ أريد إجابة علمية مستوعبة للتاريخ وللجغرافيا السياسية اليمنية، ومستوعبة للمصالح الإقليمية والدولية، ولطبيعة الصراع في المنطقة، ولموازين القوى، لا إجابة عاطفية ينتجها عقل غارق في عاطفة محمومة، فصنع حجاب سميك يعمي البصيرة عن رؤية الواقع كما هو، أريد جواب مستوعب للتحولات وللمستقبل، جواب مستوعب لطبيعة الصراع الراهن في اليمن، جواب مبني على المعلومة والتحليل المنطقي لا التحيزات والانفعال القلق التائهة في الأماني المصبوغة بأحلام المظلومين، جواب منسجم مع تاريخ الضالع وردفان ومع تاريخ الجنوب الحر صانع أمجاد الهوية اليمنية، جواب منسجم مع التاريخ وطمحوحات المستقبل، لا مع الزيف الذي تصنعه لحظة تاريخية عمياء.

أطالب قيادات الحراك ومثقفيه ومناضليه أن يفتحوا مع أنفسهم حوارا حرا وليسمعوا لبعضهم البعض بلا تخوين أو اتهامات، ليفتحوا المجال لممارسة النقد حتى يتمكن العقل من العودة إلى الحراك ويتجاوز العقل الجمعي المهيمن الذي تحركه الغرائز لا المنطق والمحاكمات العقلية.

لماذا لا تتحول مناطق الحراك في المرحلة القادمة إلى ساحة مفتوحة تملئوها الحرية، وتعقد نقاشات بين كافة الأطياف وليتم دعوة الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والمثقفين ومدرسي الجامعات والنخب الفكرية والسياسية والاجتماعية من أجل حوار مفتوح وحر وبدل المظاهرات تتحول ساحات الحراك إلى برلمان شعبي لتداول الآراء وبحرية مطلقة، وليتم مناقشة كل شيء وبشفافية.

هذه الطريقة ستمكن الحراك من إعادة صياغة مشروعة وربما يكتشف مشروعه الإنساني الحر بسهولة ويسر، ولن أبالغ بالقول: أن الحراك إذا تمكن من تفجير الحرية ومارس النقد وطرح التساؤلات وتقبل آراء الجميع وعاد إلى وعيه الحقيقي المؤسس له، نعم أن تمكن الحراك من ذلك فإنه سيعيد صياغة التاريخ اليمني ومن عمق الحراك ستخلق قيادات وطنية ربما تغدو رموز لكل أبناء اليمن بل سيتحولون إلى قيادات مستقبلية يراهن عليها الداخل والخارج في إخراج اليمن من أزمته القاتلة.

الجنوب أملنا في التغيير ومن أحشائه ستخلق دولة مدنية يمنية موحدة، لا تخيبوا ضننا فيكم رغم كل ما يجري، أن العناد والخضوع للقوى الخفية سيجعل من الجنوب قوة ضائعة في متاهات الفراغ، وربما يفقد حيويته وقوته في صياغة الوطنية اليمنية الباحثة عن الحرية لمواجهة تحدياتنا الداخلية والخارجية .

لتكن صحيفة القضية أبتداء هي المنبر المؤسس لفكرة الحوار، ولندشن من خلالها ومن خلال منابر أخرى مشروع جديد يبحث عن التاريخ والمجد، أن اللحظات التاريخية المحورية يصنعها نبلاء وعظماء يبحثون عن البطولة الحقيقية التي ترسم نور أنساني حر، أما البطولة الزائفة المنتحرة في عصبية قاتلة، فإنها فعل لا أنساني تحمل بذور فنائها في أعماقها، كما أنها تخرب ولا تعمر وتدمر ولا تبني، أنها فعل أقصائي يتأكل كلما بلغ حده الأعلى، وعادة ما يبتلعها الزمن ويرمي باصحابها إلى زوايا التاريخ المظلمة.

زر الذهاب إلى الأعلى