في الثاني والعشرين من مايو 1990 أعلن قيام الوحدة بين شطري اليمن في الجنوب والشمال بعد محاولات دامت ما يقرب من ربع قرن منذ استقل الشطر الجنوبي في نوفمبر 1967.
كانت الوحدة اليمنية في حينه إنجازاً فريداً في النظام العربي منذ مطلع ستينيات القرن الماضي حين تفككت التجربة الوحيدة لوحدة اندماجية عربية بين مصر وسوريا في سبتمبر 1961، وربما قلّل البعض من دلالة قيام الوحدة اليمنية باعتبارها أقرب إلى عمليات بناء الدولة القطرية منها إلى أن تكون خطوة على طريق الوحدة العربية الشاملة، على أساس أن الوحدة اليمنية قد أعادت توحيد شطري اليمن اللذين سبق في مراحل مختلفة من التاريخ أن شكلا كياناً سياسيّاً واحداً، ومع ذلك فقد بقيت للإنجاز قيمته الوحدوية العربية على أساس أن الوحدة اليمنية تمت بين دولتين عربيتين لكل منهما سيادتها وعضويتها في المنظمات العربية والإقليمية والعالمية.
لم تفضِ الوحدة اليمنية لاحقاً إلى أي مد وحدوي عربي بفعل عوامل داخلية على رأسها انكبابها على بناء الذات، وخارجية يأتي في مقدمتها أن محيطها الجغرافي المباشر لم يكن متحمساً كثيراً لها، لكن الأهم من ذلك هو أن الخلاف بين شريكي الوحدة (المؤتمر الشعبي العام في الشمال والحزب الاشتراكي في الجنوب) قد تسلل إلى العلاقة بينهما خاصة بعد أن أظهرت نتائج أول انتخابات برلمانية في أعقاب الوحدة في عام 1993 أن ثمة قوة ثالثة صاعدة هي حزب "التجمع اليمني للإصلاح" ذو التوجهات الدينية، ومن ثم أصبح ممكناً لأي تحالف بين "المؤتمر" و"الإصلاح" أن يطيح بالحزب "الاشتراكي" خارج الحلبة، وهو ما حدث بالفعل لاحقاً. ومن هنا أخذ الخلاف بين شريكي الوحدة يتصاعد تدريجياً، وأخفقت كل محاولات تسويته سياسيّاً إلى أن وصل الأمر حد الصدام العسكري بين الطرفين في مايو 1994، واستخدم كل منهما في هذا الصدام القوات المسلحة التي كانت تابعة له إبان مرحلة "التشطير"، وفي المراحل الأخيرة من هذا الصدام أعلنت القيادة الجنوبية السابقة الانفصال، لكن الحسم العسكري للحرب في مدة وجيزة نسبيّاً وضع نهاية سريعة لمحاولة الانفصال تلك.
ومع ذلك فإن الحسم العسكري وحده لم يكن كافيّاً لتأمين مستقبل الوحدة، وتكفلت مشكلات كالتباين بين النخبتين الحاكمتين في الشطرين سابقاً، والإخفاق في إعادة تكييف وضع النخبة الجنوبية بالذات داخل دولة الوحدة، والضعف المؤسسي الذي بدا معه وكأن دولة الوحدة تدار من المركز في صنعاء دونما اعتبار لرغبات أهل الجنوب، ناهيك عن الأزمة الاقتصادية العامة في اليمن -تكفلت هذه المشكلات وغيرها بظهور حركة مطلبية في الجنوب في السنوات الأخيرة أسمت نفسها ب"الحراك الجنوبي"، غير أن هذه الحركة تطورت مؤخراً إلى حد رفع مطلب الانفصال، وعلى رغم أن وزنها في الشارع اليمني في الجنوب لا يبدو كافيّاً لتحويل هذا المطلب إلى حقيقة فإنها كانت قادرة دون شك على زعزعة الاستقرار في دولة الوحدة في توقيت تحتاج فيه إلى أقصى استقرار ممكن للتغلب على ما يواجهها من مشكلات.
عندما تواجه دولة تهديداً جادّاً واحداً لأمنها فإن ذلك يكون كافيّاً لإثارة القلق، وعندما يتزامن معه مصدر تهديد آخر لا يقل خطورة يعني ذلك أن أمن هذه الدولة يواجه معضلة حقيقية. واعتباراً من مطلع القرن الحادي والعشرين، وبالتحديد عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وجدت دولة الوحدة اليمنية نفسها ضمن دول أخرى عديدة متورطة رغماً عنها في الحرب الأميركية العالمية على الإرهاب التي أعلنها الرئيس الأميركي السابق على تنظيم "القاعدة" الذي اتهم بتدبير تلك الأحداث. ولم يكن تنظيم "القاعدة" بطبيعة الحال صناعة يمنية، أو حتى كان لدولة الوحدة أي دور فيه، ولكن طبيعة الجغرافيا والبنية القبلية في اليمن والتوجهات الدينية المحافظة لقطاع من شعبه جعلت من أرض اليمن ملاذاً آمناً لبعض المنتمين إلى ذلك التنظيم، ومن هنا أصبحت دولة الوحدة مسرحاً سياسيّاً -وفي بعض الأحيان عسكريّاً- للحرب الأميركية العالمية على الإرهاب مما أدخلها كدول أخرى غيرها أكثر من مرة في تعقيدات سياسية كانت في غنى عنها، وكلنا يعلم ماذا فعلت السياسة الأميركية آنذاك بالدول التي أعلنت فيها حربها على الإرهاب كأفغانستان وباكستان والعراق.
غير أن الأمور للأسف لم تقف عند هذا الحد، ففي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين نفسه، وبالتحديد منذ عام 2004، بدأت دولة الوحدة اليمنية تواجه خطراً ثالثاً يتمثل في حربها مع "الحوثيين" في شمال اليمن بعد أن اتهمتهم القيادة اليمنية بأنهم يسعون إلى إعادة حكم الإمامة البائد في اليمن، فيما كانوا هم يؤكدون على الطابع المطلبي لحركتهم. وبغض النظر عن هذا الخلاف في النظر إلى حركة "الحوثيين" فإن أخطر ما في الصدام بين دولة الوحدة وبينهم تمثل في أمرين: أولهما أن الحرب قد اتخذت طابعاً استنزافيّاً يهدد التماسك المجتمعي والتنمية الاقتصادية في اليمن، وثانيهما ما ثبت بعد طول انتظار للأدلة والبراهين من أن دولة إقليمية ضالعة في تأييد "الحوثيين" سياسيّاً على الأقل، ناهيك عن نظرتها الطائفية الضيقة للصراع. وفي هذا الإطار بدا أن حدة الصراع قد ضغطت على أعصاب القيادة اليمنية فساد حديث "الاجتثاث" حيناً، لكن الأمور سرعان ما عادت إلى مسارها السياسي من جديد بعدما اتضحت استحالة الحسم العسكري للصراع، وبعد عودة "القاعدة" إلى البروز من جديد عقب محاولة تفجير طائرة ركاب أميركية في ديسمبر2009 على يد شاب نيجيري عاش في اليمن، وفي هذا السياق تم في فبراير 2010 التوصل إلى وقف لإطلاق النار مع "الحوثيين"، ووضع خطوط عامة لتسوية سياسية أوقفت تفاقم الصراع وإن بدت هشة حتى الآن.
هكذا حُصِرت دولة الوحدة اليمنية وهي تقترب من عيد ميلادها العشرين في مثلث للخطر يراه البعض مربعاً بإضافة ضلع آخر خاص بالأزمة الاقتصادية، ومن هنا تبدو أهمية المبادرة التي أطلقها الرئيس اليمني علي عبدالله صالح في خطابه بمناسبة الاحتفال بميلاد الوحدة. في ذلك الخطاب أبدى الرئيس استعداده لقبول حكومة "وحدة وطنية" تضم كافة القوى السياسية الفاعلة الممثلة في مجلس النواب، وفي مقدمتها شريكه في صنع الوحدة (الحزب الاشتراكي اليمني) وحليفه السابق (التجمع اليمني للإصلاح) وأحزاب المعارضة المنضوية في إطار ما يسمى ب"اللقاء المشترك"، كما أضاف الرئيس أنه وجه بإطلاق سراح جميع المحتجزين "الحوثيين" على خلفية حرب صعدة، والمعتقلين من عناصر "الحراك الجنوبي"، ودعا في خطابه كل أطياف العمل السياسي وكل أبناء الوطن في الداخل والخارج (في إشارة إلى المعارضين الجنوبيين خارج اليمن) إلى إجراء حوار وطني مسؤول في إطار المؤسسات الدستورية دون شروط أو عراقيل، وفي إطار نتائج الحوار يمكن تشكيل حكومة الوحدة الوطنية والتحضير للانتخابات البرلمانية القادمة.
لن تكون هذه المبادرة بطبيعة الحال بمثابة "عصا موسى" التي تلقف كل الأخطار المحدقة بالوحدة اليمنية دفعة واحدة، ولكنها بالتأكيد بأبعادها السابقة والتوقيت الذي أعلنت فيه، تمثل فرصة لبداية جديدة لدولة الوحدة اليمنية، شريطة أن تتعامل معها كافة الأطراف المعنية بحسن النية المطلوب والحس الوطني الخالص من أجل الحفاظ على وحدة اليمن وحمايته من مصير بات يتهدد عدداً من الدول العربية منذ آل حال العرب إلى ما نعرفه جميعاً.