آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

الأتراك يقاتلون معنا لا عنا

تحوّل احتجاجنا الساخط، نحن العرب، على مجزرة “إسرائيل” البحرية الوحشية احتفالاً صاخباً بتركيا وزعيمها رجب طيب أردوغان . ثمة جوع مزمن لدينا إلى البطولة والكرامة، إن لم يسدّه واحد منا تطلّعنا إلى آخر من سوانا لينهض إلى المهمة نيابةً عنّا .

حاول جمال عبد الناصر صادقاً التصدي للغرب المستعمر وربيبته “إسرائيل”، فتفجرت حناجرنا هتافاً له وقلوبنا إعجاباً به وعيوننا متابعةً حميمة لخطواته . كنا نتفرّج عليه ولا نساعده كي نساعد أنفسنا . كان موضوعاً للفرجة وليس قدوة للعمل والتضحية .

اليوم يطل علينا أردوغان بقامة عالية من شرفة مجاورة ويقول في “إسرائيل” ما لا يجرؤ كثير منا، في العصر الأمريكي، أن يقوله فيها، فتتفجر حناجرنا هتافاً وقلوبنا إعجاباً وننتظر منه، بسذاجة أسطورية، أن يقاتل “إسرائيل” عنّا وأن يلقنها درساً لطالما اخترناه لها في أحلام اليقظة .

جميل أن نقدّر للغير، أياً كان، سجايا ومزايا ومواقف، خصوصاً عندما يكون نتاجها مفيداً لنا . ومن الممكن والمفيد أيضاً أن ننتظر منه، اذا ما تلاقت المطامح والمصالح، أن يقاتل معنا، لكن من السذاجة الفاضحة أن نطلب إليه أو نتوقع منه أن يقاتل عنّا وأن نقبع في أماكننا لنتفرج عليه .

أياً ما كانت رغائبنا، فإن الأتراك، ولاسيما نخبتهم القائدة، ليسوا سذّجاً ليقاتلوا عنّا . هم يتذكرون حدثاً لم يمر عليه الزمن بعد هو أننا قاتلنا، في الحرب العالمية الأولى، مع الغرب الأوروبي وعنه ضدهم إلى أن تمكّن منهم ومنّا . قاتلنا، بسذاجة، مع بريطانيا وفرنسا ضد تركيا العثمانية نتيجةَ وعدٍ لنا باستقلال لبلاد الشام وبمملكة عربية معقودة اللواء لأحد أبناء الشريف حسين، حاكم الحجاز، وما أدركت نخبتنا القيادية آنذاك، باستثناء شكيب ارسلان ورفاقه من دعاة اللامركزية لا الانفصال عن السلطنة العثمانية، خطورة الانخراط مع دول استعمارية غربية عاتية للاستعاضة بها عن سلطة شرقية هرمة . وماذا كانت النتيجة؟ أعطت بريطانيا بشخص بلفور وعداً لليهود بوطن قومي في فلسطين، وتواطأت بريطانيا، من وراء ظهر الشريف حسين، مع فرنسا من خلال اتفاق سايكس - بيكو على تقاسم بلاد الشام وبلاد الرافدين بينهما لتقوم على مدى المشرق العربي كله كيانات هشة تدور في فلك لندن وباريس .

لعل من المفيد أيضا التأكيد أن الكيان الصهيوني ما كان ليقوم أصلاً لولا تقاسم الميراث العثماني بين بريطانيا وفرنسا . وما كانت السلطنة العثمانية (التي كان عرب المشرق في ظلها موحدين لا حدود ولا سدود بينهم) لتموت وترثها أوروبا الاستعمارية لولا سوء تقدير وسوء تصرف النخبة القيادية العربية في الربع الأول من القرن الماضي . فقد كان حرياً بها أن تناضل، تحت شعار اللامركزية، لنيل الاستقلال من الأتراك جسماً عربياً واحداً، بدلاً من أن تنخرط في تحالف غير متكافئ مع أعتى قوتين استعماريتين من أجل إزاحة سلطنة عثمانية هرمة وقابلة لتقديم تنازلات سياسية لشركائها العرب .

اليوم اذ تنهض تركيا لتلعب باقتدار دوراً إقليمياً متزايد الأهمية، يقتضي أن تعي النخبة القيادية العربية تحديات المرحلة الراهنة في الصراع العربي - الصهيوني من جهة والصراعات الإقليمية من جهة أخرى، وأن تحيط بأبعادها جميعا، من أجل أن ترسم رؤية وبالتالي نهجاً لمواجهة التحديات الماثلة بما يؤمن استخلاص حقوق العرب وحماية مصالحهم ورفد دورهم السياسي والحضاري في المستقبل .

في هذا الإطار، تُمكن الإشارة إلى حقائق خمس بارزة تتجلى في مرآة الواقع الإقليمي الراهن :

* اولاها، أن تركيا التي خاب أملها، أو كاد، بالانضمام إلى أوروبا باتت مصممة على تعويض خيبتها بالعودة إلى الانخراط، سياسياً واقتصادياً، في بيئتها الإقليمية وعالمها الإسلامي . ويبدو أنها وجدت في قضية فلسطين باباً واسعاً يقودها إلى قلب العرب ودائرة الهمّ المركزي لغالبيتهم الساحقة .

* ثانيتها، أن تركيا كانت وما زالت جزءاً من حلف شمال الأطلسي وليس ما يشير إلى أنها في وارد التخلي عن عضويتها فيه . بالعكس، هي تصبو إلى أن تلعب من خلال عضويتها هذه دورَ صلة الوصل والوسيط بين الغرب الأطلسي والعالم الإسلامي .

* ثالثتها، أن تركيا تقيم علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية مهمة مع “إسرائيل”، وأنها توسّلت هذه العلاقات من جهة وعلاقاتها الإقليمية المتطورة مع سوريا من جهة اخرى من أجل إدارة مفاوضات غير مباشرة بين الدولتين العدوتين . ويبدو أن هذا الدور التوسطي قد انتهى بالمجزرة البحرية الوحشية التي ارتكبتها “إسرائيل” أخيراً واستهدفت، بالدرجة الاولى، المتضامنين الأتراك المشاركين في “اسطول الحرية لغزة” .

* رابعتها أن مجزرة “إسرائيل” البحرية عززت شعبية أردوغان ومكانته داخل تركيا وفي العالمين العربي والإسلامي، لكن شعبيته ومكانته مهددتان بالضمور اذا لم يبادر إلى الرد على “إسرائيل” بشكل يعزز موقعه ومكانته من دون الانجرار إلى تأزيم العلاقات مع الولايات المتحدة وربما إلى صدام معها . من هنا فإن بقاء تركيا في وضع متوازن بين الغرب الأطلسي من جهة والعالمين العربي والإسلامي من جهة أخرى يتوقف على مدى قدرة الرئيس الأمريكي أوباما على زحزحة حكومة نتنياهو عن تصلبها وإقناعها بتقديم قدر من التنازلات السياسية يرضي تركيا والحكومات العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة، ناهيك عن عرب المواجهة والمقاومة .

* خامستها، أن قدرة أردوغان على إقناع الولايات المتحدة بالضغط على “إسرائيل” لحملها على الاعتذار من تركيا وعلى تقديم التنازلات اللازمة على الصعيد الفلسطيني تتوقف على مدى قدرة العرب على تأمين مستوى عالٍ من التضامن والتنسيق لدعم الفلسطينيين في قضايا رفع الحصار عن غزة، وإجلاء “إسرائيل” عن الضفة الغربية، وإقامة دولة فلسطينية سيدة ومستقلة وقابلة للحياة على خطوط العام 1967 .

يتحصل من هذه الحقائق الخمس، أن أموراً ومرتجيات عدة إزاء قضية فلسطين وتجاه حقوقنا ومصالحنا ومستقبلنا تتوقف علينا . إننا مدعوون جميعاً، لاسيما في بلاد الشام وبلاد الرافدين، إلى إدراك حقائق المرحلة وتحدياتها وفرصها المتاحة، آخرها موقف تركيا من “إسرائيل” كي نخرج مما نحن فيه من فرقة وتشرذم وضعف وننهض إلى بناء تحالف قومي متين ومتطور وتحالفات ثنائية وإقليمية مع تركيا وإيران في مواجهة غرب أطلسي معادٍ وطامع وكيان صهيوني عدواني ومتوسع .

ثم، آن أوان الإدراك أن الآخرين ممكن أن يقاتلوا معنا، عند التقاء المطامح والمصالح، ولكن أحداً لن يقاتل عنّا .

زر الذهاب إلى الأعلى