آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

اليمن.. نصف الكوب الممتلئ

نعم في اليمن عدد من عناصر «القاعدة»، وفيها مشكلات أمنية تثيرها بعض العناصر الانفصالية في بعض المحافظات الجنوبية والشرقية، وفيها اندلعت ست حروب في صعدة في الشمال استنزفت قدرات الدولة على مدى سنوات طويلة.

نعم عدد السكان 23 مليون نسمة وهو الأكبر في دول الجزيرة والخليج، ومعدل النمو السكاني 3.5% وهو من بين الأعلى إن لم يكن الأعلى عالميا.

نعم تشير بعض الدراسات إلى أن حوض صنعاء المائي إلى نضوب خلال 10 إلى 15 عاما. نعم الثروة النفطية في تناقص مستمر بنسبة 10% سنويا وهو ما يعني نضوبها في مدة لا تتجاوز 10 سنوات، مع أن النفط يشكل 90% من صادرات اليمن و75% من الدخل القومي للبلاد.

نعم كل ما ذكر أعلاه يجعلنا نضع الأيدي على القلوب خوفا على مستقبل البلاد.

لكن مهلا، دعونا ننظر إلى نصف الكوب الممتلئ.

هناك تحول اجتماعي وسياسي كبير في البلاد، هناك حركة صحافية قوية وحرة إلى حد كبير، هناك منظمات المجتمع المدني التي بدأت تتخذ زمام المبادرة للتصدي لكثير من المعضلات التي يعاني منها الناس، وهناك حركة حقوقية هي من بين الأنشط في المنطقة، هناك كذلك الحركة النسوية وهي فاعلة ونشطة إلى حد كبير، وتعمل بشكل كبير على التصدي للقضايا المتعلقة بالمرأة في البلاد.

هناك أيضا الوجه الجميل لليمن الذي يمكن أن يشكل رافدا للاقتصاد الوطني يفوق مداخيل الثروة النفطية المتناقصة. تصوروا فقط لو أن لصنعاء حملة ترويج سياحية في وسائل الإعلام المحلية والعربية والدولية، ولو عُضّدت هذه الحملة بفرض سلطة الدولة واستتباب الأمن والاستقرار، أي مداخيل يمكن أن تعود على اليمن جراء ذلك، وأي فرص عمل يمكن أن تتوافر لليمنيين؟ هذا عن صنعاء وحدها فما بالكم ولدى اليمن مأرب وشبام وعدن وتعز وشبوة والجوف وصعدة وجبلة وغيرها من المدن الأثرية الجميلة؟ وماذا عن الحزام الأخضر في إب والمحويت وحجة وغير ذلك من مناطق السياحة الطبيعية؟

وماذا عن السواحل الممتدة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب إلى أقصى الشرق بتنوع فريد وثروات مائية كبيرة؟ ما الذي يمنع من تشجيع المنتجات اليمنية وتسويقها في الجوار العربي والأفريقي؟ ما الذي يمنع الجوار العربي من استقدام العمالة اليمنية لتخفيف الضغط على الاقتصاد اليمني؟

ما الذي يمنع من تأمين حاجات المستثمرين لبناء قاعدة استثمارية قوية ستسهم بلا شك في إيجاد مزيد من فرص العمل وتوفير المزيد من العملة الصعبة؟

ما الذي يمنع من توظيف نسبة الشباب العالية في السكان توظيفا إيجابيا لصالح أهداف التنمية؟ ما الذي يمنع توظيف التفاف أشقاء اليمن وأصدقائه حوله في المحنة الحالية التي يمر بها؟

أعتقد أن اليمنيين اليوم بحاجة إلى الهدوء. المطلوب أن نهدأ قليلا كي نفكر بشكل سليم كي نستطيع العمل بشكل أكثر جدوى.

الذين يصرخون لا يفكرون، الذين ينفعلون لا يفكرون، الجماهير الغاضبة تحكمها غرائز الانتقام وردود الأفعال. فلنهدأ قليلا حكومة ومعارضة ولنفكر بصمت إن استطعنا.

لقد تكلمنا كثيرا وصرخنا كثيرا في الشوارع والمنابر الإعلامية. اختصمنا أكثر، رفعنا شعارات التخوين والعمالة والتفرقة العنصرية والقبلية والمناطقية. واليوم يلزمنا أن نهدأ لنفكر في الحلول المناسبة لمشكلاتنا.

لا أعتقد أن هناك ما يمنع الأطراف المختلفة من أن تلتقي في حوار مسؤول وهادئ للخروج من الأوضاع الراهنة، فالاستمرار على هذا المنوال سيزيد الأمور تعقيدا.

علينا الكف عن المناكفات السياسية وتصيد الأخطاء، علينا الاعتراف بأننا مسؤولون كلنا عن الحال التي وصلنا إليها، وعلينا جميعا تقع مسؤولية الخروج من هذه الأوضاع.

لا تستطيع السلطة أن تتخلى عن مسؤوليتها الدستورية تجاه البلد، ولا تستطيع المعارضة الانفكاك من واجبها الوطني الذي يحتم عليها الارتفاع إلى مستوى التحديات والجلوس مع الحكومة على طاولة الحوار.

أرى في المبادرة الرئاسية الأخيرة نقاطا إيجابية كثيرة تتمثل في إطلاق المعتقلين والدعوة للحوار والإفراج عن الصحافيين وتشكيل حكومة وحدة وطنية، كل تلك نقاط ينبغي التعامل معها بإيجابية من دون الدخول في مرحلة من التشكيك والتشكيك المقابل والرفض والرفض المقابل. على اليمنيين أن يعرفوا أنهم إذا لم يجلسوا مع بعضهم فإن أهل المريخ لن يتحاوروا معهم.

الحوار مرة أخرى مطلوب لأن الفوضى هي التي مكنت «القاعدة» من العمل في بعض المناطق في الجنوب والشمال.

الهدوء مطلوب لأن أعمال الشغب إنما تعوق حركة التنمية ولا تؤدي إلى التغيير المنشود.

الانفتاح على الآخر والاستماع إليه والصبر في معالجة الأوضاع والحكمة في التصرف كل ذلك مطلوب، وإن لم يكن ذلك من أجلنا نحن، فليكن من أجل أطفالنا الذين يحز في النفس ألا تكون لهم حقوق الطفولة ذاتها التي لغيرهم في أجزاء أخرى من العالم.

نريد أن نرى مزيدا من المدارس لا الثكنات العسكرية، مزيدا من المستشفيات لا نقاط التفتيش القبلية. آن الأوان أن نقول بكل صراحة لقبائلنا الأصيلة في اليمن: القبائل على رؤوسنا، لكن عليها ألا تتدخل في سياسة البلد، ومن أراد التدخل فليدخل السياسة من بوابة سياسية من دون أن يخلط القبلي بالسياسي، لأن ذلك مضر بالدولة والقبيلة في اليمن على حد سواء، ولنا في القبائل العربية الأصيلة في الجزيرة والخليج أسوة حسنة، إذ إنها لا تزال تحتفظ بعاداتها العربية الأصيلة مع تمييزها بين القبلي والسياسي في بلدانها. أعتقد أننا ينبغي أن نركز على تمدين المجتمع بدلا من حالة القبلية المستمرة لكل قطاعات المجتمع بما في ذلك القطاع السياسي، فاستمرار ترييف المدن بدلا من تمدين الأرياف مضر بالمدينة والريف في الوقت ذاته.

ومن جهة أخرى، فإن على الحالمين بالانفصال ضبط إيقاع ساعاتهم على التوقيت الإقليمي المحيط الذي يرفض طروحاتهم، وإن شاءوا وقّتوا على التوقيت الدولي فهو رافض أيضا لتلك الطروحات.

عليهم أن يدركوا أنهم ظاهرة إعلامية أكثر منهم ظاهرة حقيقية متأصلة في قلوب الناس، عليهم ألا ينخدعوا بالعشرات الذين ينزلون إلى الشوارع احتجاجا على أوضاع معينة، حتى وإن رفعوا شعارات انفصالية، عليهم الالتزام بوحدة البلد مع الحق في المطالبة السلمية بحقوقهم المشروعة التي نؤيدهم فيها ونطالب بتلبيتها تحت سقف دولة الوحدة اليمنية.

لا ينبغي كذلك أن ننسى التركيز على الإيمان المطلق بالمواطنة المتساوية، وعلى الذين لا تزال نفوسهم تحدثهم بأن اليمنيين فئتان: فئة جعل الله فيهم الحكم والإمامة، وأخرى هم العامة وهم لا يصلحون لإدارة شؤون الدولة لأن الله لم يخلقهم لذلك بل خلقهم للسمع والطاعة لأئمتهم.. عليهم التخلي عن هذه الأفكار القروسطية العتيقة، وعلينا أن نقول بوضوح لهم: هذه الأفكار إنما تضركم أنتم بالمقام الأول، ولنا في التاريخ القريب شواهد على الآثار الكارثية التي حاقت بنا جراء هذه الأفكار السلالية.

وأخيرا لا ينبغي أن نيأس من إصلاح الأوضاع، السبيل الوحيد هو الأمل لأن الخيارات الأخرى هي خيارات عدمية، ولنصغ إلى الصوت القادم من أعماقنا الذي يذكرنا بالبيت القديم:

إذا اختلفت يوما فسالت دماؤها
تذكرت القربى فسالت دموعها

* كاتب يمني مقيم في بريطانيا

زر الذهاب إلى الأعلى