الزمان: زمان المجد بالأندلس
المكان: أرض الأندلس
توطئة:
بينما كان العالم الإنساني عامة وأوروبا خاصة تتخبط في متاهات الفوضى، وتترنح في دياجير الجهل والتخلف، كانت الحضارة الإسلامية في أوج عطائها وتطورها، في شتى الميادين ومنها ميدان الطب والصحة.
المقال / القصة
على آهات الألم وصرخات المرض أخذ الملك (فيليب) يتقلب على فراشه الوثير، حار وزراؤه وأطباؤه في معرفة سبب ما ألمّ به، إلى أن أشار عليه أحد الوزراء بالسفر إلى العرب في مملكتهم بالأندلس ليتعالج عندهم، وفي دهشة المفزوع تساءل الملك سائلاً وزيره: وماذا عند العرب مما ليس عندنا؟ وهل من العار أن أذهب إلى أعدائنا لأتعالج عندهم؟
الوزير: وما عسانا أن نفعل أيها الملك، وأعداؤنا المسلمون قد فاقونا قدرة وتجاوزونا جدارة في الطب؟
الملك: وكيف ذلك وهم رعاة الشاة ونحن أصحاب حضارة وتقدم؟
الوزير: لقد جاء الإسلام وحوّل العرب المسلمين إلى ما هم عليه اليوم، ففي أشبيلية وقرطبة وغرناطة بزغت نجوم علماؤهم الفطاحل الذين اكتشفوا كثيراً من الحقائق العلمية، وعلى سواعدهم قامت مبادئ الحضارة والمدنية.
الملك (و قد بدا عليه الاستسلام لفكرة الوزير): ومن منهم أيها الوزير برع في ميدان الطب؟
الوزير: منهم يا سيدي أبو القاسم خلف بن عباس القرطبي المعروف ب (الزهراوي) وهو صاحب الكتاب الشهير والموسوعة الطبية (التصريف لمن عجز عن التأليف) ويعتبر كتاباً عظيماً في علم الجراحة أتى فيه بآراء جديدة، كما تمكن هذا الطبيب أيها الملك من سحق الحصاة في المثانة وقام بتشريح الأجسام الحية والميتة، وقد أجرى عمليات العيون والأسنان والولادة، وأتى بفكرة غريبة ومبدعة في نفس الوقت بأن اتخذ من أمعاء بعض الحيوانات خيوطاً لخياطة الجروح وغير ذلك. ومنهم كذلك الطبيب الغرناطي المسلم (ابن الخطيب) صاحب كتاب (حقيقة السائل عن المرض الهائل) الذي أكد فيه نظرية العدوى وبرهن عليها، وذلك بعد أن انتشر مرض الطاعون في أوروبا خلال منتصف القرن الثامن الهجري، ووقف الجميع حياله مكتوفي الأيدي، وفي هذا التوقيت بالذات شق (ابن الخطيب) حُجُب الحيرة والتساؤل ووضع كتابه الذي ذكرتُ. ومنهم كذلك أيها الملك أبو بكر الرازي، هذا الطبيب الذي عُدّ أول من دوّن من العرب ملاحظاته على مرضاه، وراقب تطور المرض وظواهره، وأثر العلاج فيه، كما كان كثير الملاحظة عظيم الإنتاج، وهو أول من وصف الجدري والحصبة، وأول من قال بالعدوى الوراثية، وأول من استخدم الماء البارد في أمراض الحميات المستمرة، وأضحى من الأمور التي أُخذ بها إلى الآن، كما يجب أن لا أنسى أيها الملك أن أذكر أشهر كتب الرازي في الطب وهو كتاب (الحاوي) إلى جانب كتب كثيرة تُرجمت جميعها إلى اللاتينية ودُرست في الجامعات وطُبعت عدة طبعات.
و منهم كذلك يا سيدي (ابن سيناء) وهو أسطع نجم في سماء الطب العربي والإسلامي، وألمع شخصية علمية إسلامية في جميع مجالات العلوم، ففي مجال الطب يُعدّ أول من وصف التهاب السحايا وصفاً دقيقاً، ووصف أسباب اليرقان وصفاً واضحاً مستوفياً، وفرّق بين شلل الوجه الناتج عن سبب داخلي في الدماغ أو عن سبب خارجي، وفرّق بين داء الجنب وألم الأعصاب ما بين الأضلاع، ووصف السكتة الدماغية الناتجة من كثرة الدم، ووصف أعراض حصى المثانة، وانتبه إلى أثر العلاج النفسي في الشفاء، وقد امتازت مؤلفاته بحسن وضعها وبترتيبها وإبرازها في قالب منطقي قوي الحجة ومن أبرزها كتاب (القانون) الذي ظل فترة طويلة من الزمن مرجعاً أساسياً، ومع ذلك أيها الملك لم يقتصر اهتمام المسلمين بالطب البشري فحسب بل تجاوز اهتمامهم بالطب البيطري أيضاً.
فهؤلاء جميعهم أيها الملك ساهموا بشكل كبير في نهضة العرب والمسلمين في الطب وهم بدورهم قد نقلوا ما اكتشفوه إلى طلابهم، وعلى ذلك أشرت عليك يا سيدي أن تذهب إليهم حتى يروا ما بك ويصفوا لك أنجع الدواء.
الملك (ضاغطاً على بطنه متألماً): نعم فليكن، تجهزوا للسفر في أقرب وقت ولتعط الأوامر إلى الحراس للاستعداد.
وفي موكب مهيب انطلق الملك يرافقه وفد رفيع المستوى سائرين إلى الأندلس أرض العلم والحضارة العربية الإسلامية، وحال وصوله ووفده استُقبل الاستقبال اللائق بهم واعتُني بالملك المريض عناية كبيرة ومكث في الأندلس أياماً معدودات حتى عادت صحته إليه كأحسن ما يكون، ثم أذن بالرحيل قافلاً إلى مملكته، وخلال طريق العودة أخذ الملك يتبادل أطراف الحديث مع وزيره..
الملك: لم أحسبهم بهذا التطور والمهارة، لقد أصبحوا منارات علم في كافة مضارب العلوم والثقافات إضافة إلى نظامهم وترتيبهم ونظافتهم فكل هذه المميزات وغيرها تظهر بوضوح على أنحاء الأندلس شوارعاً وبيوتاً ومتاجراً ومساجداً ومستشفيات، ولو قُدر لي لتمنيت أن تكون حال مملكتي كحال الأندلس وناسنا كناسهم بل وبهائمنا كبهائمهم.
الوزير: نعم.. نعم أيها الملك، وما أذهلني أكثر هو اهتمامهم بالمستشفيات اهتماماً كبيراً، وقد لاحظت ذلك لأنني كنت أكثر التصاقاً بها خلال علاجك، ف (البيمارستانات) كما يحلو لهم أن يطلقوا عليها كانت ذات تخصصات عديدة، كما كانوا يحرصون على إنشاء أكبر عدد منها، ويتبرع الخلفاء والأمراء والأغنياء لها بالأموال الطائلة ويوقفون الأوقاف من أجل أن يستمر عملها وتقدم خدماتها بشكل دائم.
الملك: ومما عجبتُ له أكثر أنه أُتي بمريض فقير قد خارت قواه من المرض وهدّه الفقر والجوع هداً، فقُدم له الدواء والمأكل، وكُسي بثوب جديد ونظيف، كل ذلك من دون مقابل وبالمجان دون تفريق بين المرضى في اللون أو الجنس أو الدين، وليس ذلك فحسب بل كان يُعطى للفقراء المتعافين بعض المال ليستعينوا به على اكتساب قوتهم بعد أن يشتفوا، فلله ما أعظمهم وأرحمهم وأكرمهم.
الوزير: صدقت يا سيدي، بتلك المعاني التي ينادي بها دينهم الإسلام ساد هؤلاء القوم وعلت مكانتهم، ولن يزالوا كذلك ما استمسكوا بدينهم.
الملك: وددتُّ لو نرسل بعثاً من طلابنا إليهم ليأخذوا عنهم شيئاً من ذلك العلم الغزير.
الوزير: لم يفُتني هذا الأمر يا سيدي فقد التقيت بعضاً من وجهائهم واتفقت معهم على أن نبعث بعضاً من أبنائنا إليهم ليتعلموا على أيديهم، وقمت أيضاً بشراء كثير من الكتب في شتى العلوم والمجالات لننقل علمهم في كل فن إلينا ونستفيد مما حصلوه وتفوقوا فيه.
الملك: باركك الإله أيها الوزير على حسن تفكيرك وسعة تدبيرك.
و لم يكد الحديث الذي كان يدور بينهما أن ينتهي حتى نودي بالوصول إلى المملكة، ومن هناك وخلف الأفق البعيد الذي تتراءى منه حضارة الأندلس كانت السماء حمراء قاتمة حينما آذنت الشمس بالغروب.