آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

مواقيت لأحزان سبأ

قصيدة الشاعر الكبير أحمد ضيف الله العواضي بعنوان: مواقيت لأحزان سبأ


-1-
اصْعَدْ شجونَك كي ترى بلداً يمرُّ وخلفََه الآهاتُ. إِصعدْ كي ترى هذا المسمى الوقتَ ملقىً في العراء، ترى امتدادَ الأرضِ مرآةً محطمةً وحزنُك والمدى خطانِ مؤتلفان. ليس سواك إلاّ المسندُ المُلقى على حجرٍ يكلمُ نَفسَه. يا أنت يا هذا المُكلّمُ نفسَهُ، ضاقت بنا الأسفارُ، والطرقاتُ قوسٌ ضيّقٌ، والروحُ تُجرَحُ في الدروب إذا تضيق، وكُلما مِلنا إلى شجنٍ يفاجئُنا سواه. فمن سيقرأ حَزنَنا المنسي، من نقشٍ بأقصى حضرموتَ إلى جبال في السراةِِ. وهل سنصعد سلمَ الأشجانِ من نقشٍ على حجرٍ ، إلى جبلٍ، إلى أفقٍ يُطلُّ، لكي نرى بلداً يمر وخلفه الآهاتُ آهٍ بعد آهٍ بعد آهْ.

-2-
بعصا النقوشِ ومئزرِ السبئي، سوف ترى من الأشياء دهشتَها وغيرُك لا يرى إلاّ هواه. وأنت من قلق الشجون، إلى التأملِ في خبايا الوقتِ. كيف بكتْ بلادٌ باعدتْ أسفارَها وتوزعت تعباً على شجر المواجعِ.. كيف خبأت الأماني في جناح الطير والسدرِ القليلِ. ومسندٍ في الروح والأحجار، كيف تصعدت أشجانهُ من خلف أسرابِ المواسم كالدعاء. كأن هذا النقشَ مسرى الكائناتِ إلى مرايا الأرض. بابُ الكون ِ يفتح بالتأملِ والغناء. فهل سنصعد سلمَ الأشجانِ من خمطٍ إلى أثلٍ إلى سدرٍ قليلٍ كي نرى بلداً يمر وخلفَه الآهاتُ. آهٍ بعد آهٍ بعد آهْ.

-3-
يا أنت، خلفَكَ وهمُ عرشِ الماءِ أسفارٌ مباعدةٌ وحلمٌ غامضٌ. بلدٌ يفر بما تبقى منه. خلفَك هدهدٌ بالٍ يحط على جدار القلبِ. خلفَك ما تبقى منك حزنٌ مشمسٌ في نصف قوسِ الأرض.. فاصعد ربما تتساقط الأسفارُ منهكةً وتخرجنا خطانا.. ربما تتبدل الآيات أو نبكي ونجمعُ ما تبقى من حطام الشمسِ والأحجار والسدرِ القليل لكي نسميها بلاداًليس في دمنا سواها. مسندُ الأحلامِ والعرمُ العجوزُ. كأنها والروح نقشٌ في سماءِ الغيبِ. فاصعد سلَمَ الأشجانِ من أسفارك الدنيا إلى ما يشبه الأحلامَ
، سوف ترى بلاداً خلفها الآهاتُ. آهٍ بعد آهٍ بعد آهْ.

-4-
يا أنت، روحُك ملتقى طرق الأسى وقوافل الهذيان. روحُك صار مجرى الريحِ. فانزع قشرةَ الأسماء. قوسُك في كثيف الحزنِ من عَظْم اللغات. وأيُ سهمٍ غير هذا القلب يبدو خادعاً. يا أنت صبرُك واسعٌ والأرضُ لا تُؤويك. سوف ترى فضاء نادراً وتخوض خوفاً في قديم الماء، أولُه أجاجٌ مالحٌ. والوهمُ أسبابٌ. لوَ اْنك في جناح الطير كنت ترى خرائب غامضِ الرؤيا وآيَ الريح. فاصعد، ربما تتبدل الآياتُ. نملُ الأرضِ خلفَك صاعدٌ. سترى وتُبكي من يراك وأنت تجمع ما تساقط من كلام الطيرِ عن بلدٍ يمر وخَلفه الآهات. آهٍ بعد آهٍ بعد آهْ.

-5-
يا أنت يا هذا المدثرُ نفسَهُ بتراب ذاكرةٍ لِجنَّاتٍ من الأعنابِ، بالموتِ المؤجلِ، بالكثيف من البصيرة، بالدموعِ قواقعِ الأحلامِ، بالأرضِ التي نقصت قليلاً عن جناحِ بعوضةٍ تفنى، بكفِك وهي تخرجُ من شقوق الماءِ ظامئةً إلى ما لا تلامسه اللغاتُ، بحسن هذا المسند الملقى على حجر الذهولِ ، بظل سيل إسمه العرِمُ العجوزُ، بقوسِ روحِك وهي تبكي في تشهدها الأخيرِ.. ألا ترى لغتي مشققةً وحزني واضحاً. وأنا الوحيدُ تكاثرت ضدي السيولُ (كأنني غرضُ الرماةِ). ولست أول من رأى شجر الخطيئةِ. من يخبئ شكَه لتَضيق في الدنيا مخيلةُ الطيورِ. أنا فضاءٌ نادرٌ. تَعبت شجوني في تصعُّدِها إليك، وقلبيَ المحزونُ يشبه حبةَ الذُرِة الصغيرةِ وهي تسقطُ في الصقيلِ من السكون.

-6-
لكأنّ حلمَك مقبلٌ، فاسرع وناوله عصاك. وخذ كثيراً من رمادِ القلبِ وانثره على شجر الخوارق. ربما تتجنبُ الأقدارَ قبل وقوعِها، وترى ابتداءَ الخلقِ في غيبوبةٍ للمسند الملقى على شجنٍ يقوم كأنه الصلصالُ.. أُنفخ بعضَ روحِك فيه سوف ترى بأنك قابَ قوسٍ واحدٍ من شوكة المعنى التي ما مسّها بشرٌ سواك.. فهل ستكتم ما ترى، وتظنُّ إثماً أنَّ لا عيناً تراك، وأنت تطوي خِرقةَ الرؤيا وتُخرجُ كلَ هذا البرقِ من جمر الكلامِ وتمسك الخيطَ الأخيرَ من السماءِ لكي ترى بجوارحٍ أخرى بلاداً تشبه الفردوس.. ظنُكَ آثمٌ، فالطير لا وطنٌ له إلاّ الغناء.

-7-
يا أنتَ لا وطنٌ سوى هذا المسمى في كتاب الأرضِ: وقعَ الدهشةِ الأولى. المسمى في مزاج الروحِ: حالاتِ الحلولِ وبابَها الأبهى. المسمى في بنان الغيب: فَصّ الخاتم المسحور.. فاصعد ربما تتبدل الآياتُ، أو نبكي ونرسمُ آهةَ الحنّاءِ في أقصى خطوط القلبِ! كفُك متعبٌ، والحُلُم آهاتٌ من البلور بعثرها الأسى، والريحُ غاضبةٌ عليك. فكيف تجمع ما تساقط من فُتاتِ العمرِ. كفكُ متعبٌ، وعصاك أقصرُ من ذراعِ البحر.. كيف تشقُّهُ نصفين كي تمضي إلى بلدٍ يمرُّ وخلفَه الآهات آهٍ بعد آهٍ بعد آهْ.

زر الذهاب إلى الأعلى