آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

تأملات في الأسباب الاقتصادية والاجتماعية للأزمة في الجنوب اليمني (3+4)

مع انهيار دول المنظومة الشيوعية في عام 1989م الواحدة بعد الأخرى وتخلي حليفها الأكبر الاتحاد السوفياتي عنها جميعا ضاقت الخيارات أمام الحزب الاشتراكي اليمني الذي يحكم الشطر الجنوبي من اليمن حينذاك

والذي كان يعتمد كليا على دول المنظومة الشيوعية، وبالمقابل شن الرئيس علي عبد الله صالح الذي كان يحكم الشطر الشمالي من اليمن ما يمكن تسميته هجوما وحدويا، إذ مارس ضغطا شديدا على النظام الاشتراكي في الجنوب وطرح عليه التعجيل بإعلان الوحدة بين شطري اليمن إما وفق النموذج الفيدرالي أو النموذج الاندماجي باعتبار الوحدة السبيل الأمثل لتجنيب الحزب الاشتراكي السقوط في الجنوب كما حدث مع نظرائه في معظم الدول الأوروبية... ثم توجه الرئيس صالح بنفسه في 29 نوفمبر 1989م إلى عدن للمشاركة في احتفالات الجنوب بالجلاء وعلى طوال مرور موكبه في محافظتي لحج وعدن قوبل باستقبال شعبي تلقائي كبير وهتافات تطالبه بإعلان الوحدة فورا مما سبب قلقا شديدا لقيادة الحزب الحاكم في الجنوب وأعطى الرئيس صالح فرصة لا تعوض بألا يعود إلا بالاتفاق على الوحدة الاندماجية، وكان هذا ما حدث إذ وقع في اليوم التالي مع الأمين العام للحزب الاشتراكي علي سالم البيض – الذي كان الرجل الأول في النظام بحسب النظم الاشتراكية – على اتفاقية إحالة مشروع دستور دولة الوحدة إلى السلطتين التشريعيتين في الشطرين لإقراره من قبلهما تمهيدا لإعلان قيام دولة واحدة وهو ما كان يعني تجاوزهما لفكرة الاتحاد الفيدرالي.

بموجب هذه الاتفاقية والاتفاقيات السابقة كان يفترض إعلان الوحدة في نوفمبر من العام التالي، لكن سرعة تساقط الأنظمة الاشتراكية أقلقت النظام في الجنوب وخاصة النهاية المأساوية للرئيس الروماني نيكولاي تشاوشيسكو التي تصادفت مع وجود البيض في صنعاء أواخر ديسمبر 1989م حيث لقي استقبالا وحفاوة بالغين أدرك معه أن العرض الذي قدمه له الرئيس صالح باختصار الزمن المحدد لإعلان الوحدة أصبح أمرا ضروريا فجرى بالفعل اختصار نصف المدة وتم إعلان قيام الجمهورية اليمنية الموحدة في 22 مايو 1990م وانتخاب الرئيس علي عبد الله صالح رئيسا لها وعلي سالم البيض نائبا له، فيما تم الاتفاق خلال الشهور الستة التحضيرية على مبدأ تقاسم السلطة في الدولة الجديدة مناصفة في البرلمان المعين والحكومة وجميع السلطات فإن كان الوزير أو رئيس المؤسسة منتميا للمؤتمر الشعبي العام الذي كان يحكم الشمال فإن نائب الوزير أو نائب رئيس المؤسسة يجب أن يكون منتميا للحزب الاشتراكي اليمني وهكذا في جميع مرافق الدولة الجديدة، في الوقت الذي جاء فيه هذا الأخير لدولة الوحدة بخزينة خاوية وما يقارب من أربعمائة ألف موظف حكومي مدني وعسكري فإذا بموازنة الدولة الوليدة وهي في الأساس دولة فقيرة مثقلة بأعباء ما يزيد على نصف مليون موظف حتى تحولت كلفة الرواتب الشهرية إلى أكثر من 50 في المائة من الموازنة العامة.

ومن سوء حظ الدولة اليمنية الوليدة أن حدث الاجتياح العراقي للكويت بعد شهرين فقط من قيامها، وجرى ما جرى من ملابسات الموقف اليمني من الاحتلال فأدى إلى قطع كثير من المساعدات الخارجية وعودة ما يقارب من مليون مغترب يمني في دول الخليج كانوا يرفدون الخزينة العامة بعائدات كبيرة فازدادت الأوضاع الاقتصادية سوءا فيما بدأت الخلافات السياسية بين شريكي الحكم تفرض نفسها على شكل أزمات سياسية متلاحقة تؤثر سلبا في جميع الأوضاع وتحديدا الاقتصادية فسرعان ما أخذت العملة الوطنية تتراجع أمام بقية العملات مما اضطر رئيس الوزراء المنتمي للحزب الاشتراكي المهندس حيدر العطاس يضع في أواخر عام 1992م أول برنامج للإصلاحات الاقتصادية والمالية اقتضى البدء في رفع الدعم عن كثير من السلع الغذائية والمشتقات النفطية وغيرها كما أخذ يطالب في حوارات صحفية بضرورة تعديل الدستور لينص بوضوح على الأخذ باقتصاد السوق بدلا عن الاقتصاد الاشتراكي، وبالفعل جرت خطوات لرفع الدعم عن بعض السلع الغذائية غير الأساسية، إلا أن عمق الخلافات السياسية على صورة المستقبل بين شريكي الحكم لم تسمح بالمضي في تنفيذ برنامج العطاس.

خلال السنوات الأربع بين قيام الوحدة واندلاع حرب صيف 94 بدأت بعض المعالجات المحدودة لقضايا التأميم التي خلفها الحكم الاشتراكي في الجنوب، وفي الوقت ذاته قام الحزب الاشتراكي بتوزيع مئات من قطع الأرض لأنصاره وأعضائه في المحافظات الجنوبية التي ظلت قبضته الأمنية قوية عليها، ناهيك عن أن مماطلته في دمج وحدات الجيش التابعة له مع مثيلاتها التي كانت تابعة للشمال جعله محتفظا بقوة عسكرية وأمنية كبيرة يعوض بها النقص الذي حدث في عدد ممثليه في البرلمان المنتخب عام 1993م إذ تراجع العدد من نحو 120 نائبا إلى 68 نائبا جعلت نائب الرئيس علي سالم البيض يعلن رفضه استقواء حليفه عليه بالديمقراطية العددية وكان هذا الموقف إعلانا صريحا برفض الديمقراطية وإيذانا باندلاع الأزمة السياسية التي انتهت بالحرب وإعلان الانفصال الذي سقط بدعم شعبي من جميع اليمنيين شمالا وجنوبا، ومن ثم أدى إلى نزوح معظم قيادات الاشتراكي مدنيين وعسكريين خارج اليمن وانزواء بعضهم الآخر داخل البلاد فيما خرج الحزب الاشتراكي من منظومة الحكم نهائيا لينتقل إلى المعارضة منذ ذلك الحين.

ورث الرئيس علي عبد الله صالح عقب حرب صيف 1994م تركة ثقيلة خلفها الحزب الاشتراكي على صعيد قضايا ملكية الأرض والمساكن ومؤسسات القطاع العام الفاشلة ومئات الآلاف من موظفي الدولة الذين يعتبرون من الناحية الاقتصادية البحتة (بطالة مقنعة) وإلى ذلك أوضاع اقتصادية منهارة حيث لم يكن الاحتياطي العام في البنك المركزي يزيد على تسعين مليون دولار حينذاك وهو ما يعني أننا أمام دولة مفلسة بالكامل... وفور استكمال تصفية الآثار الأولى للحرب وإجراء بعض التعديلات الدستورية الضرورية تشكلت حكومة ائتلافية من حزبي المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح برئاسة اقتصادي خبير هو عبد العزيز عبد الغني بدأت بوضع برنامج إصلاحات اقتصادية ومالية وإدارية بغرض إنقاذ البلاد من الانهيار لم يخرج كثيرا في جوهره عن برنامج سلفه حيدر العطاس ليجد اليمن نفسه في أزمة من نوع آخر.

* * *

بدأت حكومة ما بعد حرب صيف 1994م تنفذ برنامجا شاملا طويل الأمد للإصلاحات الاقتصادية والمالية والإدارية ابتداء من مارس 1995م هدفت منه لأمرين أساسيين الأول هو إنقاذ البلاد من انهيار اقتصادي محتم والثاني استعادة ثقة الدول والمؤسسات الدولية المانحة بغرض الحصول على ما يحتاجه هذا البرنامج من دعم لأنه لم يحظ بأي دعم منها في مرحلته الأولى لأنها كانت تريد التأكد من جدية الدولة اليمنية أولا في تنفيذ برنامج كهذا ولهذا بدأت في مساندة البرنامج منذ عام 1996م ليتوج بأول مؤتمر دولي للمانحين عقد في بلجيكا عام 1997م وليتم إعفاء اليمن في نفس العام من أكثر من 90% من مديونيته من خلال مؤتمر آخر في باريس...

وهكذا دخل اليمن في برنامج طويل لتنفيذ عدد من الإصلاحات الاقتصادية في قوانينه لتعزيز منهجية تطبيق اقتصاد السوق، وإصلاحات مالية تتضمن رفع الدعم عن السلع الغذائية والمشتقات النفطية وغير ذلك من السلع التي كانت مدعومة بالكامل في الجنوب وجزئيا في الشمال قبل الوحدة، وإصلاحات إدارية مصاحبة تتضمن وضع سياسة جديدة للأجور مصحوبة بتنفيذ برنامج معقد للتقاعد بغرض تخفيف العبء الوظيفي على الدولة مع إعادة هيكلة لمعظم وزارات وأجهزة الدولة، وعلى أن تستفيد الحكومة من المبالغ المخصصة للدعم في تحسين الأجور من ناحية وتنفيذ برامج مكثفة للتنمية من ناحية أخرى.

كان هناك إدراك لدى الحكومة منذ البداية أن عملية رفع الدعم عن السلع ستنعكس سلبا على المواطنين بمستويات مختلفة سواء الموظفين الحكوميين الذين يزيد عددهم على نصف مليون أو المزارعين وأصحاب المهن الحرة والبسيطة وهم الغالبية، لكن في الحقيقة لم يكن هناك إدراك أن الانعكاسات السلبية ستكون أعمق في المحافظات الجنوبية التي اعتادت على مدى ربع قرن على النمط الاشتراكي في العيش الذي يجعل الفرد عالة على الدولة ولا يسمح له بممارسة أي نشاط اقتصادي خاص... وفي انتخابات 1997م حصل حزب الرئيس علي عبد الله صالح على الأغلبية مما جعله يشكل الحكومة منفردا فيما قرر شريكه في الائتلاف حزب التجمع اليمني للإصلاح الخروج إلى صفوف المعارضة لينضم إلى الحزب الاشتراكي اليمني وأحزاب أخرى معارضة قومية وشيعية لتشكل مع مرور الوقت ائتلافا معارضا كان له تأثيره في إعاقة مسار عملية الإصلاحات الاقتصادية والمالية والإدارية بسبب ما كان يقوم به من تعبئة مضادة للبرنامج لدى المواطنين اليمنيين، وهكذا وجد حزب المؤتمر الحاكم نفسه منفردا في الوفاء بالتزامات برنامج الإصلاحات أمام معارضة قوية لا تحظى بتعاطف الشارع إلا عندما تتحدث عن برنامج الإصلاحات... ولذلك فكلما اقترب موسم لانتخابات محلية أو رئاسية أو نيابية تحجم حكومات الحزب الحاكم عن تنفيذ مرحلة جديدة من البرنامج مما أدى إلى طول مدة تنفيذه من ناحية وإلى أعباء جديدة على الموازنة العامة للدولة من ناحية أخرى بسبب حجم الدعم الكبير الذي تقدمه للمشتقات النفطية والذي يصل حاليا بحسب بعض التقديرات إلى ثلاثة مليارات دولار سنويا أي ما يقارب 40 % من الموازنة العامة للدولة التي تعتمد في مواردها على صادرات النفط بنسبة 85 % وهو ما يعتبره المانحون مشكلة كبيرة في الحالتين حالة الدعم وحالة الاعتماد شبه الكلي على النفط الذي يتراجع مخزونه باطراد كبير... وبحسب تقديرات خبراء اقتصاديين فإنه كان من المفروض الانتهاء من تنفيذ برنامج الإصلاحات كاملا قبل سبع أو ثماني سنوات لكن المماحكات السياسية والحسابات الانتخابية أدت إلى تأجيل وراء آخر سواء على صعيد الإصلاحات السعرية أو الإصلاحات الإدارية أو الاقتصادية... واليوم وبعد التحركات الغاضبة في الجنوب تجد الحكومة نفسها أكثر حذرا في تنفيذ المرحلة الجديدة من الإصلاحات خشية تفاقم الأزمة، إذ يقول بعض خبراء الاقتصاد إنه ما لم يكن هناك رؤى واضحة بالنسبة للاتجاهات الذي ستذهب إليها المبالغ المخصصة للدعم في حال رفعها فإن المشكلات ستزداد تعقيدا ليس في المحافظات الجنوبية فحسب بل في المحافظات الشمالية الأكثر سكانا وحيث ارتفع خط الفقر ليشمل أكثر من 35 % من السكان في سائر أنحاء البلاد!

وفور التحسن النسبي للأوضاع الاقتصادية منتصف التسعينيات قرر الرئيس علي عبد الله صالح توجيه معظم مخصصات التنمية للمحافظات الجنوبية التي كان يدرك ويدرك جميع اليمنيين مستوى الحرمان الذي كانت تعانيه في العهد الاشتراكي في جانب الخدمات من حيث شح المدارس والمستشفيات والكهرباء والاتصالات والطرق والجامعات وغير ذلك، ولهذا يمكن القول إن هذه المحافظات شهدت نهضة غير مسبوقة في كل تلك المجالات وغيرها وبلغت نسبة المخصص لها حوالي 60 % رغم أن نسبة سكانها لا تزيد على 20 % من إجمالي سكان اليمن حتى قيل إن محافظة حضرموت هي أول محافظة تكتمل بها شبكة الطرق... وإلى جانب ذلك فقد اندفع كبار رجال الأعمال من أبناء المحافظات الشمالية للاستثمار في هذه المحافظات فأقيمت عشرات المصانع كما اندفع صغار المستثمرين منهم كذلك لفتح مشروعات صغيرة فيما كان الإعمار يتوسع بشكل ملحوظ... واحتشد عشرات الآلاف من أبناء المحافظات الشمالية ذات الكثافة السكانية للبحث عن فرص عمل في المشروعات الجديدة والبحث عن أبواب للرزق، وحدث اندماج اجتماعي وتشابك غير مسبوق في المصالح الاقتصادية لم يعرفه اليمنيون من قبل.

رغم كل ذلك لم ينتبه أحد لعمق الأزمة الاجتماعية التي كانت تعتمل في المحافظات الجنوبية، فمعظم أبنائها اعتادوا العمل مع الدولة التي توفر لهم الوظائف فيما لم تتمكن أجهزتها من استيعاب كثير من الخريجين الجدد، كما أن ارتفاع الأسعار صنع مشكلة أخرى لدى طبقة الموظفين (مدنيين وعسكريين) وخاصة من خرج منهم للتقاعد، كما أن عمليات الخصخصة التي تمت لعديد من مصانع القطاع العام أحدثت مشكلة أخرى عبر رفض الذين اشتروها استيعاب آلاف الأيدي العاملة التي كانت تعمل فيها، وتوالت المشكلات حتى وصلت ذروتها في عام 2005م عند تنفيذ مرحلة جديدة من الإصلاحات السعرية وتنفيذ الإستراتيجية الجديدة للأجور.

زر الذهاب إلى الأعلى