هذا فيلم سياسى أنتجته مصر وتم استنساخه في اليمن. وتناقلت الصحف ووكالات الأنباء أخباره في اليوم الأول من العام الحالى. قصته معروفة. الرئيس يتولى السلطة ويطلق وعودا تدغدغ مشاعر الناس وتستثير حماسهم. ويؤكد لهم التزامه بالديمقراطية واحترامه للدستور والقانون.
ثم ما أن يتمكن حتى ينشغل بتثبيت أقدامه وضمان احتكار السلطة لشخصه ولسلالته من بعده. وهو لا يعلن ذلك صراحة، ولكنه يستعين بمن يخرجون له المشهد، ويتقنون في ابتداع الأساليب التى تحقق له المراد من خلال هياكل الديمقراطية وأدواتها. والسيناريو في هذه الحالة محفوظ، ونقطة البداية والانطلاق فيه هى الجماهير التى تزور إرادتها ويتم العبث بأصواتها. فتشكل مجالس نيابية تدعى تمثيلها، وهذه المجالس تستخدم في إصدار القوانين والتشريعات التى تمهد الطريق لتعزيز التمكين وإدامة الاحتكار. وهذه القوانين التى يعدها من يسمونهم في مصر «ترزية» (الكلمة تركية الأصل) تتحول بمضى الوقت إلى الشرعية التى يتم الاهتداء بها والاحتكام إليها. هكذا، فإن تزييف إرادة الجماهير يؤدى إلى تزييف الديمقراطية، ثم تزييف الشرعية. الطريف أن ذلك يتم بحسبانه «إصلاحا دستوريا»، وكثيرا ما يجرى تزيينه ببعض اللمسات المغرية التى تخفى مقاصدها الحقيقية أو تخفف من وقعها.
يذكر كثيرون أن الرئيس أنور السادات حين أراد أن يلغى نص الدستور على تحديد مدة الرئاسة بولايتين فقط، ويطلقها لكى تصبح ست ولايات، فإنه مرر ذلك التعديل المهم إلى جانب تعديل آخر متواضع تحدث عن تطبيق الشريعة.
إذ كانت المادة الثانية من الدستور تتحدث عن أن مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر أساسى للدستور، فأضاف إليها «الترزية» حرفين بحيث أصبحت المصدر الأساسى، الأمر الذى أريد به الإيحاء بتعزيز دور الشريعة في المرجعية القانونية. ومشهورة قصة تعديل المادة 76 من الدستور التى تمت في عهد الرئيس مبارك. واعتبرت نقلة مهمة لأنها فتحت باب الترشيح لرئاسة الجمهورية لعدة متنافسين، بدلا من الاستفتاء على شخص واحد يرشحه مجلس الشعب. لكن ذلك «الفخ» قيد بعدة شروط تعجيزية حصرت العملية في يد الحزب الوطنى الذى لن يرشح أحدا غير الرئيس أو ابنه.
الذى حدث في اليمن أن ولاية الرئيس على عبدالله صالح أوشكت على الانتهاء. وفى ظل الدستور الح إلى فإنه لا يجوز له أن يترشح لولاية ثالثة. ولحل ذلك الإشكال لجأ «الترزية» إلى الحيلة التقليدية. فتقدم أعضاء الكتلة البرلمانية التابعة لحزب المؤتمر الحاكم (يمثلون الأغلبية في البرلمان) باقتراح لتعديل بعض مواد الدستور قضت بما يلى: خفض مدة ولاية الرئيس من سبع إلى خمس سنوات مع عدم تحديد عدد الولايات باثنتين. وإنشاء غرفتين للبرلمان (مجلس شورى ومجلس نواب) بدلا من غرفة واحدة، وتحديد حصة للمرأة (44 مقعدا) مع زيادة عدد النواب من 301 إلى 345.
لم يكن خافيا على أحد أن المقصود الحقيقى هو إتاحة الفرصة للرئيس الح إلى لأن يبقى في السلطة مدى الحياة. وهذا الهدف أحيط ببعض التعديلات التى تبدو إيجابية للإيحاء بأن حزمة التعديلات بمثابة خطوة إلى الأمام وليس انتكاسة إلى الوراء.
الطريف أن ممثلى الحزب الحاكم برروا التعديل الأهم والأخطر بقولهم مدة السنوات السبع المحددة حاليا تعتبر طويلة نسبيا قياسا على ما هو سائد في معظم البلدان الديمقراطية (كان في اليمن ديمقراطية حقيقية تحاول أن تلحق بنظيراتها في الغرب!). قالوا أيضا إن التعديل يحقق فرصة أوسع لتداول السلطة سلميا، واعتبروا أن تحديد دورات لتداول رئاسة الجمهورية في بلد نام مثل اليمن يعد قفزا على الواقع، في تبرير مضحك لا يخلو من مفارقة. لأنهم حين أقدموا على تخفيض مدة الولاية من سبع إلى خمس سنوات أرادوا أن يكونوا على قدم المساواة مع معظم الديمقراطيات الغربية. لكنهم حين أطلقوا مدة بقاء الرئيس في السلطة وانحازوا إلى تأييدها فإنهم برروا ذلك بأن اليمن بلد نام له وضعه الخاص الذى لا يبنغى القفز عليه.
ينتاب المرء خليط من مشاعر الحزن والخزى إزاء ما يحدث في صنعاء. الحزن لأن مساعى تأييد الحكم هناك تعيد اليمن إلى عصر الإمامة مرة أخرى، الذى دفع الوطنيون هناك ثمنا باهظا للخلاص منه. والخزى لأن مصر التى ساندت الثورة اليمنية ودفعت الكثير من دماء أبنائها لقاء ذلك، هى ذاتها التى أصبحت تصدر إليه خبرات احتكار السلطة وتوريثها وابتذال الشرعية والديمقراطية.