ابتداءً أنا متعصب ل «الجزيرة»، وقد سرت وراءها زمناً طويلاً أصدّق كل ما تبثه وتقوله وتشير إليه، ولم تهتز في رأسي شعرة واحدة حين هاجمها الآخرون لسبب أو لآخر، صرت أنظر إليها كأن الباطل لا يأتيها لا من بين أيديها ولا من خلفها!! وفيما فعلته فقد بالغت.
في لحظة ما هللت صحف كثيرة، لأن هيكل، القامة الصحفية السامقة، توقع أن لا يفوز أوباما بالرئاسة في أمريكا، وعلى كلٍّ أين أوباما الذي جعل العالم يحلم وتبين أن أمريكا لا تزال عن الحق والعدل بعيدة!! هلَّلوا لخطأ هيكل، بينما خطأه أكد القاعدة، فقد أثبت أنه بشر يخطئ ويصيب، يبالغ ويرفع إنساناً ما إلى م صاف الملائكة!!
يدرك العاقل في هذا العالم وَمَنْ له علاقة بالمهنية أن لا إعلام محايداً وبالمطلق، ولا يمكن أن يكون كذلك لسبب بسيط ومهم، هو أنك لا يمكن أن تعمل إعلاماً محايداً، وإلا فمعنى ذلك أنك وصلت إلى الحقيقة المطلقة وعلى الجميع لحظتها إغلاق دكاكينهم ويروّحوا.
في هذا السياق يفترض، وبعيداً عن «تعصّبي»، وهو خطأ على أية حال، وبالضرورة أن يتعامل المرء والمهني بالذات خارج السياق مع «الجزيرة» أو غيرها.
لا أحد ينكر حرفية القائمين على القناة مستوى ما يبث، الأداء المتميز، والإمكانات التي تصل بها إلى تلك الصورة، وهي الطريق الوحيد إذا كنت تريد إعلاماً حقيقياً مش إعلام يتبع وزارة المالية والخدمة!!
إذا تتبعت «الجزيرة» طوال ساعات البث، ومعنى ذلك ألا تنام، فأنت تنهل من معين لا ينضب، وإن كان عليك الآن وبعد تجربة طويلة أن تكون حذراً مع أحمد منصور، وإن كنت لا تشكك في حرفيته العالية، وتأخذ ما تريد من برنامج المحترف الآخر فيصل القاسم.
لا شك - إِذَاً - في الحرفية العالية للقناة، معدّون ومقدّمون، وَمَنْ هم في المطبخ يزودون الواجهة بما يفترض أن تتزود به.
بصدق أقول، إن «الجزيرة» ليلتها «فجعتني»، فمن اللحظة التي بدأت تذيع المارشات التي يتخللها إعلان عن 23 يناير و«الوثائق السرية البالغة الأهمية»، فقد تسمرت أمام الشاشة حتى ظهرت الكتيبة، وعلى الفور بعد أن تابعت معظم تلك الحلقة التي جاءت على حساب نشرة المغرب، قلت «الجزيرة ودَّفت»، فهل هي كذلك؟
تبادر إلى ذهني لحظتها الويكليكس، الذي حسبت «الجزيرة» ربما أنه سحب منها جزءاً من المساحة، فكان لا بد من التفكير بويكليكس عربي، هي حمّى التسريبات إِذَاً، لكن شتَّان بين هذا وذاك، فالتهيئة المرعبة لم يكن لها داع، وحماس عبدالباري لم يكن في محله لأول مرة!! وخديجة بن قنة ظهرت مرتبكة، وجمال ريان بدا كما لو أنه يذيع البلاغ رقم (1)، وإن كان في الليلة التالية ظهر هادئاً.
الآن، ليسمح لي مَنْ يؤمن ب «الجزيرة» بالمطلق أقول إن «التوديفة» جاءت بما يتعلق بما كان وجهاً مخفياً وراء الستار، لا يتعلق الأمر باسم وضّاح خنفر ولا بالتنظيم الدولي ولا بالشريعة والحياة، لقد أظهرت حمَّى الوثائق وجهاً آخر ظل مخفياً طوال الوقت بفضل الحرفية المتميزة، وإن كان أحمد منصور قد كشف جانباً منه لاحظه المتابع الذكي مع حلقات جمال حمَّاد، الذي افترسه منصور وفي حلقة حسين الشافعي الذي افترس منصور!!
هذه الوثائق، وإن ثبتت صحتها، وأنا أشك في ذلك، أظهرت «الجزيرة» كأنها تصفّي حساباً طال أمد الانتظار له، وإن بداعي البحث عن تميز مهني، بدأ يهن في برنامج «الاتجاه المعاكس»، خاصةً في حلقة «توزيع الثروة العربية»، حيث ظهرت المادة ضعيفة بفعل ضعف أداء الضيفين، طرف كطالب مشاكس وطرف مُتكلّس، وكأن «الجزيرة» أفرغت ما في جعبتها!! ولم يُرضني كمتابع الطلب إلى المتابعين اقتراح ما يريدون مناقشته، وكأن الاتجاه المعاكس تحول إلى برنامج تفاعلي، حتى وإن كان كذلك، فقد أرسل رسالة خاطئة تقول بالوهن!!
برغم أن «الجزيرة» قدمت رسالة إعلامية منذ منتصف التسعينات وحتى اللحظة متميزة، وتكاد تكون أحدثت ثورة في وعي الشارع العربي، لا أحد ينكر ذلك، لكن حمّى ويكليكس يبدو أنها ستظهر وجهاً ليس بالضرورة أن نراه ونحن نحمد له إخراجه «الجزيرة» إلى العلن!! أظهرت الطريقة التي تم بها الإعلان عن اكتشاف «الوثائق»، كأن «الجزيرة» تصفّي حسابات قديمة - كما قلت - لكنه أظهرها أمام متابعيها والمتعصبين لها، وأنا أولهم، أنها تشكو من عارض لا وجود له بالأصل!!
الآن، إذا أردنا أن نشير إلى الوثائق يكون السؤال : مَنْ له مصلحة في تسريبها؟ ولماذا؟ ولماذا الآن؟
وسؤال بريء ليس بالضرورة أن يصب في خانة السلطة: إذا كان بالفعل قد تنازل المفاوض الفلسطيني كل تلك التنازلات، لماذا لم تقبل بها إسرائيل؟ وبقي أن أقول: لا يمكن لأي مفاوض فلسطيني أن يقدم على تنازلات قاتلة، هذا لكي نكون عقلاء ومعقولين.
السؤال الآخر: هل «ودَّفت» الجزيرة؟ لأن سؤالاً أهم يفرض نفسه: لصالح مَنْ تم التسريب؟ أما إذا كان الأمر عبارة عن رسالة سياسية، فتلك مسألة أخرى، ونحن بانتظار ما سيتبين من صورة حقيقية، ولماذا؟ ما يهمنا هو مصداقية «الجزيرة»، لأنه لو تبين غير ذلك فهي المصيبة.