القيادة ظاهرة إنسانية مهمة في حياة الأمم والشعوب.. وهي برغم ذلك ما زال يحيط بها قدر كبير الغموض والتعقيد، وقد حاول علماء السياسة والاجتماع والإدارة من خلال مئات الدراسات والأبحاث العلمية أن يفكوا شفرتها ويفهموا أسرارها، إلا أن كل تلك الجهود لم تستطع أن تقدم تفسيراً شاملاً لهذه الظاهرة الإنسانية المحببة بما فيه الكفاية.
والقيادة في أي جماعة أو منظمة أو دولة أو مجتمع هي بمثابة عمود الخيمة فيها، فإذا ما كانت ذات قوة وحضور وتأثير، فان ذلك ينعكس على المنظمة أو الدولة أو المجتمع في مستوى من المنعة والعزة والتلاحم والنهوض الشامل، وإذا ما كانت القيادة على درجة كبيرة من الهزال والفساد وعدم الكفاءة فأنها بلا شك تصيب المجتمع بحالة شديدة من الوهن والتخلف في كل مناحي الحياة. ولا أعتقد أن هنالك مثال للتأكيد على أهمية القيادة أبلغ من المقولة المنسوبة إلى القائد نابليون: جيش من الأرانب يقوده أسد, خير من جيش من الأسود يقوده أرنب. دلالة ذلك انه لا جدوى من توافر كافة الإمكانيات والكوادر البشرية طالما والقيادة ضعيفة وخالية من أي طموح أو رؤية أو مشروع مستقبلي، ولكن على العكس من ذلك، فإذا ما توفر للمجتمع قيادة طموحة وحالمة وقادرة فان ذلك كفيل بتدبير كل مقومات النهوض الحضاري.
ومن يتتبع أسباب قيام الحضارات والمآثر العظيمة في شتى بقاع الأرض سيجد في نهاية الأمر أن السر وراء كل عمل عظيم هو وجود قادة عظام. وفي المقابل من يتأمل في الانكسارات والهزائم وحالات الانحطاط التي مرت بها كثير من الدول والمجتمعات سيستنتج أن السبب وراء ذلك يتمثل في إسناد الأمور إلى قيادات ضعيفة أو مأفونة أو غير مؤهلة فأصابت شعوبها في مقتل وزجت بهم إلى الوراء عشرات السنين. القيادة يا سادة شيء مهم.. فهي ضابط إيقاع حركة المجتمع وهي التي تضع الرؤية لكيفية انتقال الأمم من وضع إلى آخر، والتي ترسم الخطط والمسارات للوصول إلى الأهداف المنشودة، وهي التي تحشد الجهود البشرية لدعم عملية الانطلاق وتستثير الهمم وتبعث الأمل وتشجع المترددين وتقنع المقاومين لعملية التغيير وتدير التوازنات وتوفق بين المصالح المتناقضة وتوزع القيم والموارد بين الأطراف المختلفة.
القيادة بمثابة الروح من الجسد وبدونها يظل المجتمع عبارة عن إمكانيات مادية وبشرية متناثرة ومتعارضة وغير موجهة نحو هدف معين. وقد حاول عدد كبير من العلماء والباحثين وعبر المراحل الزمنية السابقة إعطاء تفسيرات مختلفة لماهية العوامل التي تقف وراء ظهور القيادات إلى مسرح الحياة وما الذي يميز القادة عن غيرهم من البشر. فمنهم من أعزى ذلك إلى القدرة الإلهية التي تقرر من يكون قائداً وتمنحه كل مقومات القيادة، ومنهم من رأى أن هناك مجموعة من السمات والخصائص (مثل رجاحة العقل والشجاعة والجسامة والوسامة) متى ما توفرت في الفرد أصبح في مصاف وعداد القادة، إلا أن من أتى بعد هؤلاء تحفظ على ذلك وأكد أن الموقف (الظرف) هو العامل الحاسم في إبراز القائد وبدونه لن يظهر مهما كان لديه من الخصائص والسمات، ثم أتى آخرون ليقرروا أن ذلك لا يكفي ولابد من توفر القائد بسماته المتفردة والموقف بشروطه المواتية والأتباع بخصائصهم المناسبة.. ثم بقيام حالة من التفاعل والتناغم بين هذه العوامل الثلاثة يمكن أن يتمخض عنها حالة قيادية فاعلة. ثم تواترت الدراسات والأبحاث في هذا المجال حتى اللحظة بهدف استكناه ظاهرة القيادة، فمنهم من ارجع ظهور القيادة للاهتمام بالإتباع، ومنهم من أرجعها للاهتمام بالمهام والأعمال، وثالث فسرها بوجود رؤية واضحة، وخامس نظر لها من منظور أخلاقي، وسادس أشار إلى دور الثقافة الاجتماعية في صنع القائد وهكذا... بمعنى أن الثقافة الاجتماعية هي التي تفرز القائد وما قد ينظر له على انه قائد في ثقافة أو حضارة معينة قد لا ينظر له كذلك في حضارة أخرى.
ومن التوجهات الحديثة على صعيد القيادة السياسية والإدارية ما يعرف بالقيادة التحويلية (قيادة التغيير والتحولات الكبرى) وكان أول من أبرز فكرة وأهمية القيادة التحويلية هو عالم السياسة الأمريكي جيمس بيرنز James Burns عام (1978) وذلك بعد أن تيقن أن العالم يشهد متغيرات تتسارع بشكل مذهل، ولم تعد الأشكال القيادية الموجودة حينها قادرة على الاستجابة لها والسيطرة عليها.. ثم أثرى وطور الفكرة من بعده ثلة من المفكرين والكتاب أبرزهم برنارد باسBernard M. Bass.. ولعل السؤال الذي يمكن أن يساعد على التمييز بين القادة التحويليين وغيرهم من القادة هو: ما هي خصائص وسلوكيات القادة التحويليين؟ وللإجابة على هذا السؤال من واقع الدراسات التي أجريت على مجموعة كبيرة من القادة الإداريين والسياسيين والاجتماعيين، وجد أن القيادة التحويلية تتكون وفق المنطق الأكاديمي من أربعة أبعاد وهي: (1) التأثير المثالي (الجاذبية الشخصية أو الكاريزما) و(2) التحفيز الإلهامي و(3) الاستثارة الفكرية و(4) الاهتمام الفائق بالتابعين. ولكن بلغة مبسطة للقارئ نستطيع القول أن القائد التحويلي هو من يمتلك قدراً كبيراً من السحر والجاذبية الشخصية (الكاريزما) مما يجعله قدوة للآخرين ينجذبون نحوه بسهولة ويثقون به بقوة وينقادون له طواعية ويعملون على محاكاة سلوكياته لكونها تتسم بالنزاهة والاستقامة والإيثار وعدم استخدام السلطة في خدمة المصالح الخاصة.. كما أن لديه رؤية واضحة وأهداف محددة ويسعى جاهداً إلى نشرها بين الناس وحشد التأييد لها لتصبح رؤية مشتركة يؤمن بها ويسعى لتحقيقها الجميع بحماس وتفاني. والقائد التحويلي هو من ينظر دائما خارج صندوق واقعه ليتحسس ما يدور حوله بهدف توظيف الفرص المتاحة والاستعداد لمواجهة المخاطر والتحديات اللائحة.. وهو غالباً ما يتمتع بمستوى عالي من الطاقة والحيوية وبصورة ايجابية عن الذات، ويعيش حالة من التوازن والاستقرار النفسي والذكاء الاجتماعي ويمتلك مهارات التواصل والتأثير والإقناع للآخرين.
والقائد التحويلي في تعامله مع أتباعه ومع الآخرين يتبع أسلوب إنساني وأخلاقي راقي، فهو يسعى لأن يأخذ بأيدي مرؤوسيه ليحلق معهم في فضاءٍ خالٍ من الحقد والأنانية لينطلقوا نحو ما هو أبعد من تلبية الحاجات الأساسية والمصالح الشخصية الضيقة.. مما يجعلهم يرهنون كل إمكانياتهم ويضعونها تحت تصرفه فيحققون بذلك انجاز أكثر مما هو متوقع منهم.. بل ومن شدة تأثيره عليهم وانجذابهم له يتحول معه العمل إلى متعة مما يساعد على إطلاق المبادرات الإبداعية والانعتاق من فوبيا الفشل، لأنه بذلك يمنحهم مستوى عالي من التشجيع والتمكين والحرية والاستقلالية والمهام ذات الطبيعة المتحدية من اجل الإبداع والتميز ويعترف بقدراتهم وما يحققونه من انجازات ومخرجات، وهو كذلك لا يتردد عن الاعتراف بأخطائه متى ما حدثت ويتحمل نتائج الإخفاق معتبراً ذلك فرصاً للتعلم والتدريب. والقائد التحويلي ليس أناني بطبعه فهو يسعى لأن يصبح كل أتباعه قادة مثله وذلك من خلال تشكيل البيئة التي تفرز القادة الفاعلين. وأخيراً هو من يستطيع النهوض بشعور التابعين من خلال الاحتكام إلى أفكار وقيم أخلاقية سامية مثل الحرية والعدالة والمساواة والشفافية والسلام والتضحية وكذلك العمل على اتخاذ القرارات السليمة وعمل الأشياء الصحيحة بطريقة صحيحة وكسر القواعد واللوائح القانونية عند الضرورة من اجل المصلحة العامة. صفوة القول أن القائد التحويلي هو من يستطيع نقل الناس من وضع إلى وضع أفضل وتغيير وجه المجتمع من خلال نقلة حضارية واسعة وعميقة في كل مجالات الحياة.
وهناك قيادات كثيرة أحدثت ذلك التحول الجذري النوعي لبلدانها في شتى مناحي الحياة، منهم السلطان قابوس (عمان) ومهاتير محمد (ماليزيا) ونيلسون مانديلا (جنوب إفريقيا) ومحمد بن راشد آل مكتوم (إمارة دبي) وأخيراً رجب طيب اردوغان (تركيا) الذي سوف نفرد له حيزاً أوسع في هذه المقالة.
لقد ولد رجب طيب اردوغان عام 1954 م في حي من أفقر أحياء اسطنبول (حي قاسم باشا)، لأسرة فقيرة يعمل عائلها في خفر السواحل.. ونظراً لضعف دخل أسرته اضطر للعمل وهو في سن مبكرة في بيع البطيخ وكعك السمسم.. درس رجب اردوغان في مدارس التربية الإسلامية، ولعب كرة القدم على سبيل الاحتراف.. ثم ألتحق بعد ذلك بكلية الاقتصاد في جامعة مرمرة.. وبدأ اهتماماته السياسية منذ العام 1969م وهو في الخامسة عشرة من عمره، من خلال انضمامه للجناح الشبابي لحزب السلامة الذي أسسه المهندس نجم الدين أربكان، والذي تم حضره مع بقية الأحزاب عام 1980 إثر انقلاب عسكري.. ثم انضم إلى حزب الرفاه عام 1984م، وسطع نجمه في الحزب حتى أصبح رئيس فرعه في اسطنبول عام 1985م، ثم عضوا في اللجنة المركزية للحزب وهو الحزب الذي تغير في ما بعد إلى حزب العدالة والتنمية.. ثم في عام 1994م أصبح إردوجان عمدة لمدينة اسطنبول.. حيث استطاع انتشالها من مشكلاتها وديونها التي بلغت ملياري دولار وحولها إلى جهة رابحة وذات استثمارات.. جاعلاً منها مكاناً أنظف وأكثر اخضراراً. ثم في عام 1998م أدين إردوجان بتهمة التحريض ضد المبادئ العلمانية.. لأنه استشهد في مناسبة حزبية بأبيات لشاعر تركي كبير ومنها: المساجد ثكناتنا، والقباب خوذنا، والمآذن حرابنا والمؤمنون جنودنا. وحُكِم عليه جراء ذلك بالسجن لمدة عشرة أشهر، وبسبب ذلك حُظر عليه الترشح في الانتخابات وتولي المناصب السياسية.. وأثناء ذهابه إلى السجن ودعته الجماهير إلى بوابة السجن فخطب فيهم: وداعاً سأقضي كل وقتي في السجن لدراسة المشاريع التي توصل بلدي إلى أعوام الألفية الثالثة، والتي ستكون إن شاء الله أعواماً جميلة، سأعمل بجد داخل السجن وأنتم اعملوا خارج السجن كل ما تستطيعونه، ابذلوا جهودكم لتكونوا معماريين جيدين وأطباء جيدين وحقوقيين متميزين، أنا ذاهب لتأدية واجبي واذهبوا أنتم أيضاً لأداء واجبكم .. كما أرجو أن لا يصدر منكم أي احتجاج أمام الآخرين، وبدلاً من أصوات الاحتجاج وصيحات الاستنكار المعبرة عن ألمكم، أظهروا رغبتكم في صناديق الاقتراع القادمة.
ومنذ أن وصل إردوجان إلى رئاسة وزراء تركيا عام 2002م عن حزب العدالة والتنمية شهدت تركيا – كما تفيد التقارير والإحصاءات- نقلة حضارية لم تشهدها منذ تأسيسها. لقد تسلم اردوجان زمام القيادة هو ورجاله وبأيديهم مشروع للنهوض اقتصاديا وسياسيا وعلميا وتكنولوجيا يقوم على رؤية واضحة وهي (أن يصبح الاقتصاد التركي في عام 2023م عاشر اقتصاد في العالم) بعدما كان لا يتعدى الترتيب (27) عالميا، وقد حقق اقتصاد تركيا اليوم الترتيب (16) عالميا و(6) أوروبياً، بنسبة نمو وصلت إلى (8,9%) سنويا وهي نسبة لم تتوفر لأي اقتصاد أوروبي، هذا علماً بأن نسبة النمو قبل ذلك التاريخ كانت تساوي (-9.4%) تحت الصفر. وكان الدولار الواحد يساوي مليوناً ونصف مليون ليرة تركية، ليصبح ليساوي اليوم (1.6) ليرات تركية (بعد اختزال الأصفار وتثبيت سعر الليرة)، وذلك بخفض معدل التضخم من (150%) إلى (6,4%). كذلك ارتفع نصيب المواطن التركي من الناتج المحلي الإجمالي من (3492) دولار ليصبح (1097) دولار في عام 2011م. أما على المستوى الاجتماعي فقد تحقق الكثير من المكاسب منها على سبيل المثال إنشاء (39) جامعة جديدة وفتح أبواب المستشفيات العامة للمواطنين وتقديم تسهيلات العلاج للفقراء في المستشفيات الخاصة؛ بل وتوزيع الفحم خلال فصل الشتاء والثلاجات والغسالات على الفقراء. أما على المستوى السياسي فقد استعادت تركيا حضورها الإقليمي وأصبحت قوة مؤثرة في صنع القرارات والمبادرات التي تتصل بمستقبل الشرق الأوسط.
ختاما، ألا تعتقدون معي أن نوع القيادة كان هو السبب المباشر وراء كل ما تحقق في تركيا؟ ألا يمكن وصف طيب اردوغان بالقائد التحويلي؟. نأمل أن تحظى الدول العربية بقيادات من هذه الشاكلة لتأخذ مكانتها الاقتصادية والسياسية اللائقة بين الأمم، لكونها تمتلك كل مقومات النهوض الحضاري باستثناء تمكين القيادات الفاعلة، وما أكثرها بين ظهرانينا؛ ولكن يبدو أن السبب يكمن في البيئة السائدة التي تقمع كل مشروع قيادي صاعد وواعد. لذلك قيل أن القيادة التحويلية لا تصنع القادة بشكل مباشر وإنما تسعى إلى تغيير طبيعة وأدوات البيئة المحيطة لتصبح بيئة ولادة ومنتجة للقادة المتميزين.. ونحن في اليمن ما أحوجنا إلى تغيير الواقع الحالي ليتيح للقيادات المقتدرة أن تمارس دورها وان تطلق طاقاتها بحرية في خدمة الناس. وفي الختام أتمنى أن يقرأ هذه المقالة المتواضعة قادتنا (سلطة ومعارضة) لعلهم يدركون الفرق بين ما يمارسونه من أساليب قيادية عفا عليها الزمن وبين ما يقتضيه منهم الواقع المتغير والمستقبل المنشود، راجياً ألا يُحبط أحدٌ عند اكتشاف الفارق المهول بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.