تدخل الاحتجاجات المطالبة بالتغيير في اليمن شهرها السادس وسط إصرار الشباب على التغيير وتداخل الأجندة واختلاط الأوراق بين عدد من الأطراف في السلطة والمعارضة وأطراف خارجية لها مصالح في اليمن وحركات متشددة تريد استثمار الظرف لتحقيق أكبر قدر من المكاسب.
وقبل البدء في قراءة المشهد أود التوقف أمام حقيقة هامة تجلت في خضم الأحداث التي تشهدها اليمن وهي أن هناك عددا من الرهانات سقطت في مقدمتها رهان الحرب الأهلية وقلق كثير من الخيرين في العالم على مصير شعب يمتلك من الأسلحة بيد الأفراد ما يفوق عدد سكانه 3 أضعاف، ووجود القبيلة بكل عصبيتها لكن الحكمة اليمانية تجلت في هذا الموقف الصعب وكانت صمام أمان رغم كل الاستفزازات التي تهدف إلى جر الناس إلى حرب أهلية، وقد لا يكون هذا الموقف جديد ففي الستينيات من القرن الماضي أبان الحرب اليمنية بين الملكيين والجمهوريين وغياب شخصية الدولة الواحدة التي تحكم كامل الساحة والانقسام الذي وصل إلى انقسام القبيلة الواحدة بين ملكيين وجمهوريين متحاربين وليسوا مختلفين فقط يومها ولكي لا تتعطل مصالح الناس تم الاتفاق بين القبائل على وضع قواعد عرفية سميت بقواعد السبعين تم بموجبها الاتفاق على تحييد المصالح العامة، فلا يعتدى على مزارع في أرضه ولا يعتدى على الأسواق ولا على الطرقات وحصر الصراع في المواقع العسكرية، وهذه القواعد رغم قلة الوعي يومها مقارنة بواقع اليوم قد مثلت موقفاً متقدماً استحق أن يقدم عنه عدد من الرسائل العلمية من ماجستير ودكتوراه.
واليوم، ونحن نشاهد أبناء القبائل في طليعة المطالبين بالتغيير يمكن لنا القول إن مطلب بناء دولة في اليمن أصبح مطلب القبيلة أكثر من أي فئة، وأن الناس هناك ملت من الصراعات الجانبية، ولم تعد القبيلة حريصة على امتلاك القوة أو النفوذ بقدر حرصها على قيام دولة عصرية حديثة تنهض بالواقع اليمني المتعثر وتعيد لليمن دوره الفاعل.
لكن قواعد اللعبة بيد من ؟ ومن هو المؤثر في الساحة اليمنية اليوم؟ لا شك أن شباب التغيير هم القوة المؤثرة والكبيرة رغم عدم امتلاكهم للأدوات التنظيمية المعبرة عنهم؛ فأحزاب اللقاء المشترك الذين التحقوا بركب الثورة أو على الأقل واكبوها منذ البداية مرفوضون من قبل الشباب أن يكونوا معبرين عنهم لعدة أسباب، في مقدمتها أن غالبيتهم أن لم نقل جميعهم مجربون فهذه الأحزاب يغلب عليها 3 قوى أو تيارات: تيار الإخوان المسلمين والقبائل المتحالفة معهم والمنضوية في إطار التجمع اليمني للإصلاح والحزب الاشتراكي اليمني وجزء من التيار الناصري، وأحزاب صغيرة كان القاسم المشترك بين كل هذه الأحزاب هو العداء المشترك لشخص الرئيس علي عبدالله صالح، وينظر إليهم الشباب بل والكثيرون من المواطنين على أنهم ليسوا البديل المثالي للسلطة القائمة؛ فالحزب الاشتراكي مجرب سواء من خلال قيادته للنظام في الشطر الجنوبي من اليمن أو وجوده في الحكم بعد الوحدة حتى صيف 1994م، الذي شهد حرباً يمنية - يمنية أطاحت بالحزب الاشتراكي كشريك في الحكم وشهدت اليمن مشهداً سياسياً آخر هو ائتلاف المؤتمر الشعبي العام حزب الرئيس علي عبدالله صالح والتجمع اليمني للإصلاح في حكومة لم تقدم للواقع أي جديد سوى مزيد من تعزيز وتعميق الأزمات.
لكن يظل في الأول وفي الأخير أمر جوهري وهو أسلوب إدارة الرئيس علي عبدالله صالح لليمن طيلة الـ33 عاماً وصولاً إلى المأزق الذي تعيشه اليمن؛ فالرجل اتسم بقدرته على خلق التناقضات وإجادته لإدارة الأزمات وتذويب شخصية دولة المؤسسات لينفرد بكل شيء.
فعند توليه سدة الحكم عام 78م، كان اليمن يقف على أعتاب بداية بناء الدولة اليمنية لكن علي عبدالله صالح جعل من بقائه في الحكم غاية شخصية وليس وسيلة لتحقيق أي إنجاز للشعب. فعمد إلى تعزيز نفوذ القبيلة والتحالف مع شيوخ القبائل وإهمال القاعدة العريضة من الشعب إلى جانب ضرب القبائل ببضعها وإشغال الناس ببعضهم؛ فقد كان يختار وزيراً ثم يختار خصمه اللدود مساعداً له، وأهدر كل الفرص التي تهيأت له لبناء دولة حديثة في اليمن، بل عمد إلى تصفية كثير من المؤسسات ذات الدور التحديثي والتنموي مثل: البنك الصناعي وبنك الإسكان والمؤسسة العامة للحبوب والتي كانت قد قدمت دعماً لافتاً للإنتاج الزراعي من الحبوب، كذلك تحويل المؤسسة الاقتصادية العسكرية من مؤسسة تعاونية يمتلك رأس مالها كل أفراد الجيش الذي استقطع من مرتباتهم إلى إدارة لتلقى المساعدات والهدايا العينية التي تقدم للشعب اليمني وبيعها لصالح الرئيس والمتنفذين بجانبه.
عندما قامت الوحدة اليمنية سلم علي عبدالله صالح كثيرا من المواقع الهامة في السلطة لشركائه الجنوبيين، وكان يعد نفسه لدور على المستوى القومي -حسب ما أوهمه صدام حسين- فأراد أن يترك أمر الشأن الداخلي اليمني لشركائه أو جزءا كبيرا منه، غير أن دخول صدام الكويت والتداعيات التي تلتها جعلت علي عبدالله صالح يتراجع إلى الداخل ويدخل في خلافات مع الاشتراكيين الذين لم يكونوا مثاليين أيضاً؛ فبحكم تكوينهم الشمولي لم يكونوا مقتنعين بنصف السلطة الذي حصلوا عليه بموجب اتفاق الوحدة وتخيلوا أن بمقدورهم كحزب يتمتع بدرجة عالية من التنظيم أن يبتعلوا المؤتمر الشعبي العام الذي هو علي النقيض هش في بنائه التنظيمي، لكن الرئيس صالح حول مجرى الصراع في اتجاه آخر فسمح للتيار الإسلامي المتحالف مع القبيلة أن يظهر إلى العلن بعد أن كان قد وقف حائلاً أمام هذا التيار نفسه عندما أعلن الشيخ عبدالله الأحمر قيام التجمع الجمهوري بعد يوم واحد من توقيع اتفاقية الوحدة في 30 نوفمبر عام 1989م.
وحورب هذا التجمع من قبل الرئيس صالح حتى استحال قيامه وحين بدأ الصراع مع الاشتراكي في شهر أغسطس من العام 90 نفسه، وهو نفس الشهر الذي شهد غزو الكويت من قبل صدام حسين أوعز الرئيس صالح للشيخ الأحمر بإمكانية إقامة كيان سياسي بالتحالف بين جماعات إسلامية سياسية أبرزهم الإخوان المسلمين والقبائل التي تقع تحت مظلة الشيخ الأحمر نفسه فقام التجمع اليمني للإصلاح ليتحول الصراع بين الاشتراكي والإصلاح، ويتحول الرئيس وحزبه إلى طرف خارج هذا الصراع على الأقل في العلن.
بالمقابل كانت توازنات يحاول الرئيس صالح أن يديرها من وجهة معينة يراها هو وليس وفق إدارة التوازنات لمصلحة الواقع، فقد تبنى تنظيم الشباب المؤمن (الحوثيين فيما بعد) والذي تشكل لحماية المذهب الزيدي من التيار الوهابي الذي يمثله الشيخ مقبل الوادعي ومن معه -حسب زعمهم-، بل وطلب من إيران رسميا دعم الحوثيين بمنح دراسية وغيرها، وهو ما برز أخيرا أبان الصراع مع الحوثيين وطرح اليمن مسألة التدخل الإيراني على استحياء لان إيران كشفت أنها لم تدعم الحوثيين الا بطلب رسمي من السلطة اليمنية، ولم تستطع اليمن أن تشكو إيران أمام أي من المؤسسات الدولية، وكان ما كان من أمر الحوثيين ورأى فيهم علي عبدالله صالح في بداية أمرهم الشيء الذي يبحث عنه وهو ظهوره بمظهر المدافع عن الثورة في مواجهة فلول الإمامية والملكية كعادته في البحث عن أزمة يتنصل بموجبها من مواجهة أي استحقاق شعبي في بناء دولة أو تحقيق حالة من التنمية.
وكان علي عبدالله صالح أيضا بحاجة إلى أزمة أخرى وهي أزمة الخطر على الثورة فعمد إلى إهمال المطالب الخاصة بالجنوبيين الذين تمت مصادرة وظائفهم المدنية والعسكرية واستبدالهم بآخرين دون حتى رواتب تقاعدية للسواد الأعظم منهم، وتم تجاهل هذه المطالب والتعامل معها بعدم جدية إلى جانب إتاحة الفرصة إلى المتنفذين من القادة العسكريين وأقارب الرئيس بالاستيلاء على أراض في الجنوب حتى وصل الأمر بأبناء المحافظات الجنوبية إلى تنظيم أنفسهم بشكل حراك بدلاً من أن يطالب بحقوق الأفراد أصبح يطالب بالانفصال عن الشمال والعودة إلى دولة الجنوب السابقة.
وبجانب هاتين الحالتين نشأت حالة ثالثة وهي تنظيم القاعدة ليعمل علي عبدالله صالح على تضخيمه إعلاميا، واكتملت بذلك عوامل اللعب على الداخل والخارج؛ فالداخل لا يستطيع مطالبة الرئيس بتحقيق أي منجز لأنه مشغول بالدفاع عن الثورة في مواجهة الحوثيين والوحدة في مواجهة الانفصال والخارج يقدم له المساعدات لمواجهة التطرف الإرهابي والمد الشيعي المدعوم من قبل إيران.
ونتيجة لكل هذه العوامل بدا المشهد العام في اليمن مزيداً من الفقر سنوياً ومزيداً من المطالبة وانعدام الأمل في أي تحسن يذكر ومزيداً من الفساد في السلطة ووجود ديمقراطية شكلية هزلية يستحيل أن تفرز برلمانا أسوأ من سابقه ووصل اليأس بالناس مداه، وليس أدل على ذلك من التعليقات الساخرة على برنامج الرئيس صالح الانتخابي عام 2006م، والذي أصبح محل تندر الشعب لعلمه بعدم جدية الوعود الواردة فيه.
والآن، وبعد أن هبت رياح الثورة والتغيير في عدد من البلدان العربية وخروج الملايين من اليمنيين إلى الساحات مطالبين برحيل الرئيس ونظامه وصولاً إلى آخر حلقة وهي إصابة الرئيس وأركان دولته في حادثة قصف مسجد الرئاسة المشهورة ما الذي يؤخر التغيير في اليمن..؟!
في اعتقادي يعود الأمر إلى بعدين: بعد داخلي ويتمثل في بقية مؤسسة الحكم وفي مقدمتهم أولاد الرئيس وأبناء أخيه ومن معهم والذين تضخمت مصالحهم إلى درجة يرون الموت أهون عليهم من التفريط بمكاسب السلطة، وأيضاً الخوف من شبح الحساب وهم يعرفون إذا فتحت الملفات سيكون أشياء كثيرة إلى جانب عدد من المواطنين الذي لا يؤيدون صالح حباً فيه ولكن خوفاً من البديل الذي يرونه بين إفراط وتفريط؛ فهم يرون في الاشتراكي تفريطا بكل ثوابت الشعب الدينية والاجتماعية، ويرون في الإصلاح إفراطا في التشدد في الاتجاه المعاكس للاشتراكي، يرون في الشباب عدم امتلاك آلية واضحة لإدارة شؤون البلد ولما علق في أذهانهم من صراع بين الأحزاب في السلطة والمعارضة على كرسي السلطة وليس على وظائف هذا الكرسي، فهم طيلة السنوات الواحدة العشرين التي أعقبت قيام الأحزاب لم يروا يوما برنامجا سياسيا واضح المعالم لحزب يمكن الركون إليه، وإنما كانوا يرون صراخاً وغوغائية ومعارضة تشتم السلطة وسلطة تتهم المعارضة وهكذا.
تبقى مسألة الأطراف الخارجية وهم ما بين أطراف إقليمية يهمها استقرار اليمن ومصلحته وعدم الزج به في المجهول، وفي مقدمة هذه الأطراف دول الخليج الذين تجلى حرصهم في المبادرة الخليجية والولايات المتحدة وأوروبا الذي تنطلي عليهم حيل النظام في تهويل دور القاعدة وأن البديل عن النظام هو القاعدة وتحويل اليمن إلى وكر للإرهاب ربما يتجاوز خطره كل النماذج التي رأيناها، وبذلك فهذه الأطراف تسعى إلى إخراج الأزمة في اتجاه انتقال السلطة من الرئيس إلى نائبه مع استيعاب أحزاب المعارضة ممثلين في المشترك في إطار حكمة انتقالية تمهد لانتخابات رئاسية، وهو أمر يرفضه شباب التغيير ومبررهم في ذلك أن أي انتخابات دون دستور جديد لن تؤسس لأي دولة حديثة، وأن أحزاب المعارضة هي الوجه الآخر للسلطة في فسادها وان دخولهم في الحكومة مجرد فرصة ينالون فيها نصيبهم من كعكة السلطة.
وفي اعتقادي أن البديل هو تشكيل مجلس انتقالي عريض يمثل فيه شباب التغيير وكل الفئات خارج الصراع وتنبثق منه الحكومة، ويتم تعديل الدستور أو صياغة دستور جديد ينزع فتيل الأزمات ويؤسس لاستقرار باتت اليمن في أمس الحاجة إليه.
وبقي شيء لا يمكن القفز عليه في الأزمة اليمنية وهو المسألة الجنوبية، لكن بعد الحديث عن رحيل صالح أصبح الجنوبيون أكثر انفتاحا على مناقشة الوضع في إطار الوحدة بعيداً عن الانفصال، وهو أمر يجب استيعابه من كل الأطراف الفاعلة والعاقلة لترتيب البيت اليمني بما يحقق العدل لكل أبناء اليمن.