أرشيف الرأي

التصورات الخاطئة عن الثورة

آفة الأفكار والأحداث التاريخية العظيمة في التصورات الخاطئة عنها..
مكمن السؤ أن تلك "التصورات" تقدم على أنها حقيقة تلك "الأفكار"، و الأسوأ أنها مع الوقت تحتل مكانتها وقداستها أيضا، فلا تقبل النقاش والمحاججة..الأمر ينطبق على كل الأفكار والأحداث المهمة في حياة البشرية، بدءا من "الأديان" أو الأفكار الفلسفية الكبيرة، وإنتهاء بالثورات المهمة في التاريخ.

لن أطيل كثيرا حول هذه الفكرة، فهي ليست مجال مقالي "في نقد الثورة اليمنية الراهنة"، غير أني أجد الإستهلال بها أمرا مهما للتمييز بين أمرين، "حقيقة الثورة" و "التصورات الخاطئة عن الثورة"، فالأخيرة هي محل نقدي وليس "حقيقة الثورة".

لكن كيف لي إبتداء إثبات وتقديم ما أمتلكه من تصور عن "الثورة اليمنية" على أنه "حقيقة الثورة" وأن ما أنتقده هو "التصورات الخاطئة عنها"، الأمر نسبي، فلا أحد يمكنه إمتلاك الحقيقة المطلقة، غير ما يقدمه من منطق ومحاججة للإقتراب منها.

حتى "القرآن" كلام الله لم يقل لرسوله أنه يقدم له "الحقيقة المطلقة" وإنما خاطبه في سورة الكهف "وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا"، .. فلم يقدم الله تع إلى لرسوله محمد (ص) في مهمته لإثبات التصور الحق وإبطال التصورات الخاطئة للمشركين ولأهل الكتاب السابقين، أكثر من المحاججات الرائعة التي نجدها في "القرآن".

قد يبدو هذا الكلام فلسفيا، و لا يقبل التسليم أيضا. ربما، فالأمر برمته بحاجة للكثير من البحث والدراسة في التراث الديني للتمييز بين ما هو "دين" الله، وما هو "تراث ديني" من تصورات تاريخية للبشر عنه، في إطار مشروع حضاري تحديثي كبير للأمة المسلمة لم يحدث بعد.

...

ما يهمني الآن أن ثمة مقولات وتصورات ثورية خاطئة تقدم على أنها حقيقة "الثورة اليمنية"، لا تقل خطورة على الثورة من المخاطر التي تواجهها من الخارج، حيث يعتبر أصحابها أي نقاش ونقد لها خيانة "للثورة" خيانة لدماء الشهداء، من يفعل ذلك هو خائن بالضرورة.

في إعتقادي أن مشكلة تلك "التصورات" بداية في سوء التصور ذاته للحدث "الثورة" من مثل "أن الثورة حدث عنيف بالضرورة، لا يعرف التفاوض والتسويات السياسية"، " أن الثورة غاية في حد ذاتها"، أن "الثورة شبابية والأحزاب خطفتها"، بعض تلك المقولات ليست برئية بالطبع ولا تخل من خبث.

ببساطة يمكن الرد على تلك المقولات بأن الثورات ليست حدثا متكرر في التاريخ، لكل ثورة طبيعتها التي تكتسبها من بيئتها المحلية المحيطة من مقومات نجاح وصعاب معيقة ومخاطر قائمة قد يخلقها الحدث، يشبه الأمر مجرى المياه في الأنهار والأودية، حيث يولد المطر وذوبان الجليد قوة دفع فيما تمثل الجبال والصخور قوة ممانعة، غير أن الأنهار والأودية تسلك طرقها في النهاية.

قد تكون الثورات موجة بالطبع إلا أن كل ثورة تظل محكومة ببيئتها المحلية من مقومات ومعيقات ومخاطر، وإدارة لكل تلك العناصر للخروج بثورة ناجحة في المحصلة النهائية للثورة، وفقا للأهداف العميقة والرئيسية التي خرجت الثورة لتحقيقها وليس للمطالب الناشئة معها.

أما بالنسبة للقول أن الثورات لا تعرف التفاوض والتسويات السياسية، فهو قول غير صائب، الصحيح أن ثورات قديمة حدثت على ذلك النحو "الثورات الأيدولوجية منتصف القرن الماضي مثلا" غير أن بعضها إنتهى بالتفاوض والتسويات، ولم يكن استخدام العنف من قبل الثوار إلا لإجبار من يثورون عليه للجلوس معهم للتفاوض.

كما أن الصحيح أيضا أن موجة أخرى من الثورات نهاية القرن الماضي في أمريكا اللاتينية لم تكن عنيفة وكانت ثورات تحول ديمقراطي، تم رسم ملامحها من خلال التفاوض والاتفاقات بين الأنظمة المستبدة غير الديمقراطية والقوى المعارضة التي تطالب بالإصلاح والتغيير.

غير أنه يمكن القول أن في الثورات الأيدلوجية القديمة العنيفة التي كانت "موجة" لم تكن كل ثورة فيها تشبه الأخرى كان لكل ثورة خصائصها المحلية، ذات الأمر في ثورات التحول الديمقراطي في أمريكا اللاتينية، فلم تكن الثورة في البرازيل تشبه الثورة في تشيلي غير أنهما مع ثورات في بلادان أخرى شكلوا موجة تاريخية.

ذات الأمر شاهدناه في إختلاف الطرائق التي جرت بها الثورات العربية من "تونس" إلى "مصر" إلى "ليبيا" التي كانت أقرب للثورات القديمة منها إلى الثورات الجديدة كتونس ومصر، والثورة في "اليمن" التي سلكت طريقا ثالثا لا يشبه الطريقين السابقين، ولا الطريق الرابع المتوقع في "سوريا".

من الموسف فعلا أن نخوض في تعريف الثورة بعد عشرة أشهر على إنطلاق الثورة في اليمن وقد حققت انجازات مهمة على صعيد أهدافها الكبيرة بعد توقيع "صالح" على الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية والشروع عمليا في إجراءات نقل السلطة والمرحلة الإنتقالية من النظام الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي، في عملية كبيرة للتحول الديمقراطي.

أذكر أني في يناير 2010 قبل إنطلاق الثورة الشعبية في اليمن، وفيما كانت تحدث في "تونس ومصر" ناقشت مثل هذه القضايا حول تعريف الثورة اليمنية كثورة تحول ديمقراطي في مقال بعنوان " تسونامي التحول الديمقراطي كيف له أن يكون ممكنا في اليمن ونجنبه مخاطر الفوضى والإنتكاس".

عمليا كان المقال المنشور في صحيفة المصدر وموقع الاصلاح نت وبعض المواقع الإلكترونية يستشرف الطرائق الممكنة لإنجاز ثورة التحول الديمقراطي في اليمن وفق الإمكانات المتوافرة والصعاب والمخاطر المتوقعة، وكان قريبا مما جرى لا حقا في التوصل لإتفاق نقل السلطة من خلال المبادرة الخليجية وقرار مجلس الأمن، بعد جهود وتضحيات جبارة في الخصوص.

تكرار الحديث عن إنجاز ثوري من خلال طريق أخرى غير الطريقة السياسية التي تجري الآن عبر الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية لنقل السلطة كحدث فرض نفسه لعدة إعتبارات ليس إلا عبث أو "بلادة سياسية" غير واعية لما يجري من حولها.

أظن أن مقولات تحريضية على الإنجاز الثوري السياسي بحاجة للمراجعة والمسؤولية الوطنية الراهنة لأجل البلد ومستقبله ومستقبل الثورة كأهم منجز يمني يمهد لعملية كبيرة من التغيير والتحولات الديمقراطية والإقتصادية والفكرية والإجتماعية الشاملة.

زر الذهاب إلى الأعلى