آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

برعنا في ثلاث وبرع الغرب في ثلاث

أكتب هذه المقالة من لندن في جولة دعوية مع دعاة سعوديين بالمساجد والأندية والمراكز والجامعات بعد زيارة لدول أوروبية أخرى وكل يوم تظهر لنا حقائق وأسرار، ومن التأملات بالاستقراء أننا في المشرق العربي ولا أقول (الشرق) لأنه صار حصرياً لهذه الجريدة الوافدة الواعدة.

نحن في المشرق برعنا في الفن وعلم الآثار وكرة القدم وأنا احترم هذه التوجهات وأصحابها ولكنها للإمتاع والذائقة الجمالية والترفيه ودغدغة المشاعر والترف الفكري ولها فوائد كثيرة لم نكتشفها إلى الآن، فالفن عندنا له ألف لون ولون ويُصرف عليه بسخاء وكل قبيلة يجيد أبناؤها السامري والخطوة والمنكوس والدبكة والعرضة والصفين والمدقال والزامل وطرق الجبل والرقص والزار والمربوع وغيرها وقد لا يجيدون صُنع علبة كبريت، وعلم الآثار مع شكري للقائمين عليه ولو هاجمونا بمقالات ولكن ضرب الحبيب كشرب الحليب وأكل الزبيب، فنحن مجتهدون في جمع الآثار: رحى آشورية من جيزان، وجفنة عثمانية من حائل وفخار يوناني مكسّر من دومة الجندل ومجرفة خشبية كسروية من الجوف ومسحاة فرعونية من عقلة الصقور وفأس إغريقي من الباحة ومكتل روماني من الزلفي وجفنة حجريّة من الأحساء وزنبيل كلداني من خيبر ومكنسة كنعانيّة من تبوك إلى آخر هذه الإبداعات والمخترعات ثم نجمعها ثم نحتفل بها ثم ندشنها ثم نحرسها ثم نحنطها، وكرة القدم صرفنا عليها آلاف الملايين ما لو صُرف على شبكة خطوط حديدية لصارت بلادنا مضرب المثل في المواصلات ولو صُرفت مليارات الرياضة مع الإبقاء على الرياضة وترشيدها لكانت هذه المليارات كفيلة بسكن كل مواطن ومواطنة، وهذه الفنون الثلاثة سهلة يسيرة لا تدخل في السباق العالمي.

أما الغرب فبرع في ثلاث وما أعظمها من ثلاث: برع في الصناعة والزراعة والتجارة فجلس على النجوم وملك مفاتيح القرار العالمي وتحكّم في سكان الكرة الأرضية وأصبح في صدارة الرقي الحضاري، فقد فتح معامله ومصانعه للعقول وأنفق بسخاء على مراكز البحوث وأطلق للعقل عنانه في الاكتشاف والابتكار وشجّع فن التخصص ورعى المواهب ورحّب بالقدرات فأنتج السيارة والطيارة والصاروخ والثلاجة والبرادة والديناميت والحزام الناسف والقنبلة النووية رضي من رضي وغضب من غضب مع آلاف المصنوعات الأخرى، وفي عالم الزراعة اكتشف الألمان أن البطن طريقٌ للعقل وأن الجائع لا تدبير له فزرعوا البطاطس للجيش النازي ثم تحولت أوروبا وأمريكا إلى مزرعة تنتج كل مأكول فصارت بلادهم سلة غذاء العالم، وهم في التجارة أساطينها وفي الثروة دهاقينها فبنوك العالم لديهم واقتصاد الدول مرهون بقرارهم والعملة العالمية تحت رحمة عملتهم وقائمة ما تنتجه إيطاليا من العطورات فقط يساوي ميزانية أربع دول عربية وميزانية أجبان الدنمارك تعادل ميزانية اليمن عشر مرات فصار الغرب بالصناعة والزراعة والتجارة هو بطل الميدان في حركة التنمية والازدهار المادي والرقي العمراني والسباق للمجد الدنيوي، وما زلنا نسمر ونسهر مذهولين ومندهشين ببلاغة هذا البيت لامرئ القيس:
قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ

فنبكي ونهز رؤوسنا ونصيح: يا للروعة، انظر كيف نادى وبكى واستبكى ووقف واستوقف وذكر ديار المحبوب في نصف بيت وهو بيت بارد هزيل لا يستحق هذا العناء، وإذا أمدّ الله في العمر فسوف أقدّم دراسة نقديّة لهذه المعلقات التي أشغلتنا خمسة عشر قرناً وكأنها قانون النظرية النسبية لاينشتاين أو مقدمة ابن خلدون أو تبويب البخاري الرائع العبقري في صحيحه ولعلّي أعرض هذه الدراسة على أساتذة هذا الفن مستفيداً ومحاوراً ومجادلاً بالحسنى، وبعضنا عنده رسالة في الأزياء النجدية، وآخر في العرضة الجنوبية، وثالث كتب مجلدات في الأنساب فأخرج أُسراً من قبائل وضمها لقبائل أخرى فقامت عليه القيامة ورُفعت ضده شكاوٍ وهُدّد بالقتل ولكن ثمن العبقرية مكلف، وقبضوا على ساحر في قرية يكتب في قراطيس دجلاً وخرافات وقد بلغ الثمانين وأضل كثيراً من الناس، والواجب علينا أن ننظر إلى العلم الذي نحتاجه في الدنيا والآخرة كالعلم التجريدي الذي يشبه أساطير الأولين ك(الزير سالم) و(عجائب بني هلال) و(ألف ليلة وليلة) و(بدائع الزهور في وقائع الدهور) التي سمرنا عليها حتى مطلع الفجر بينما كان غيرنا في نفس الوقت يُصنِّع دبّابة ويُركّب سفينة وينتج مدمرة ويفتتح مصنعاً ويُنشئ معملاً، ولو كان لي رأي يُطاع لخففنا من الإسهاب الجغرافي في المقررات والسيلان التاريخي في المناهج فنحن أحوج إلى إنشاء مصحة وافتتاح معمل نسيج وورشة نجارة من معرفة عاصمة سيراليون وصادرات أوغندا ومناخ الكنغو الديمقراطية وتضاريس غانا، ولا أنسى أستاذاً لنا في الأدب وقف مشدوهاً مذهولاً عند السبورة في الفصل يشرح لنا بيت ابن دُريد في أول المقصورة حيث يقول:
يا ظبيةً أشبه شيء بالمها… ترعى الخزامى بين أشجار النقى

وأخذ هذا الأستاذ يخرج لنا كنوز هذا البيت وينثر علينا جواهره ويغوص على درره وهو بيت سخيف بارد سامج ومعناه باختصار يا أيتها الظبية التي تشبهين الغزال وأنتِ ترعين نبت الخزامى الذي ينبت بين أشجار النقى الطويلة، فبالله عليكم أي إبداع في هذا البيت؟ ومَثَل هذا البيت مثل أن أقول يا أيها الطالب الذي يشبه أستاذه ويأكل الساندويتش وهو جالس على الكرسي، ولكن التقليد وإلغاء الذائقة النقدية وإعمال الفكرة سبب لنا تحجُّراً في الفهم فصرنا نصفّق بأقوال باهتة لأن الأولين قالوها، وقد ذمّ الله تع إلى التقليد الأعمى وتعطيل التّدبُر فقال عن الجهلة الأغبياء: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ)، وطالب بالحجة والدليل ومناقشة البرهان وإعمال النظر فقال (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) وأنا أدعو إلى دورات علميّة تدريبيّة لقراءة النص تبدأ بتدبر القرآن الكريم والسنة المطهرة والتراث العربي شعراً ونثراً لنميّز ونفهم ونعي (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا).

زر الذهاب إلى الأعلى