في منتصف عام 2008 كتبت تحليلاً لصحيفة (المصدر) المستقلة عن حروب صعدة تحت عنوان “حرب ممنوع الانتصار فيها” بدأته بالتساؤل التالي: “هل تشهد اليمن اشتباكات بين المدرعات الحاكمة يتغلب فيها اللواء على المشير”؟.
استغرب البعض من هذا التساؤل بل واستهجنه البعض الآخر. وأذكر أن أشد من انتقدني حينها كان الكاتب والمحلل اليمني جمال جبران، حيث اعتبر في رسالة إلكترونية إليّ أني أبني تحليلاتي على تنجيم وافتراضات لا أساس لها من الصحة. وعندما كنت أطرح الرأي ذاته في ندوات ومناقشات داخل واشنطن وجدت أن بعض المحللين الأمريكيين أكثر تصلباً من جبران في استهجان الآراء الثاقبة، لكنهم بعد سنوات اعترفوا أني سبقت ويكيليكس في كشف سر غائر من أسرار حرب صعدة.
ولا أدري هل يشاهد حالياً الزميل جمال المتاريس في شارع هائل سعيد والزراعة والزبيري أم أنه عازل نفسه في ذمار ولا يرى ما أراه عبر اليوتيوب والفيس بوك يومياً.
لقد كانت فكرة المقال قائمة على أن الحرب الدائرة في صعدة لم تعد بين الحوثي والنظام الحاكم في صنعاء، وإنما أصبحت تدور بين اللواء علي محسن والمشير علي عبدالله صالح بواسطة الحوثيين.
وهذه الفكرة لم تراودني أو تراود مصادري الليلة الفارطة وإنما وثقتها قبل ما يقارب الأربع سنوات، وقد كان أهم سؤال يوجه لي دوماً في واشنطن عن حرب صعدة هو الذي يتعلق بتصوري للوسيلة التي تصل فيها الأسلحة من إيران للحوثيين، وكان معظم السائلين يصعقون بردي أني لا أعتقد أن الحوثيين بحاجة لأسلحة من إيران؛ لأن مخازن الحرس الجمهوري مفتوحة لهم. وبسبب هذا الرد سرعان ما يوضع رأيي في خانة التحامل على نجل الرئيس أو انحياز أعمى بصيرتي عن الفهم السليم للأمور.
وأذكر أن قناة (العربية) استضافتني للحديث عن حرب العصابات التي يقودها الحوثي في صعدة ضد القوات المسلحة اليمنية، فعلقت على ذلك بقولي: إنها في الواقع حرب بين عصابات في صعدة وعصابات في صنعاء، فتوقفت القناة بعد ذلك عن استضافتي حول هذا الموضوع.
وعندما وصفت الرئيس صالح بأنه أكبر خطر يهدد وحدة واستقرار اليمن، استاء البعض من هذا التصريح، لدرجة أن قيادي إصلاحي كبير اتهمني بالإدمان على انتقاد الرئيس. واستخدم القيادي الإصلاحي كلمة “ولعة” كناية عن الإدمان للتشهير بي، ولكن بعد بضع سنين وإذا برئيس الحكومة اليمنية نفسه العم محمد باسندوة يكاد يتفق معي حرفياً بصورة علنية على ما ذهبت إليه في وقت مبكر جداً على ثورات الربيع العربي.
وقبل أسابيع قليلة، استعادت ذاكرتي ما كنت أطرحه سابقاً عن حروب صعدة عندما تحدثت هاتفياً مع شاهد تاريخي معاصر هو فضيلة القاضي حمود الهتار الذي استقال من منصبه الوزاري احتجاجاً على قتل المحتجين في الثورة الشبابية، ويقيم حالياً خارج اليمن، فاجأني القاضي الهتار بقوله: إن الجولة الأولى من حروب صعدة هي وحدها التي كانت حرباً حقيقية، أما ما بعدها فقد تحولت إلى حروب عبثية.
وهذا استنتاج تاريخي مهم ليس لأنه غريب، ولكن لأن قائله هو القاضي حمود الهتار الذي استشهد شقيقه في الحرب، وكان الدكتور ياسين سعيد نعمان - أمين عام الحزب الاشتراكي اليمني - هو أول من استخدم هذا الوصف الدقيق ولحقنا به جميعاً في استخدام عبارة “الحروب العبثية” حتى نهاية الحرب السادسة. ومن المفارقات أني كثيراً ما كنت أجادل القاضي الهتار عبر محطات إذاعية مختلفة حول الحرب، حيث كان الرجل وقتها إلى جانب السلطة، وكنت من جانبي أهاجم عبثية الحرب بشدة.
وفي فبراير 2009 تحولت الأنظار باتجاه المحافظات الجنوبية عندما انشق طارق الفضلي عن السلطة في صنعاء فكتبت مقالاً تحليلياً عنوانه: “صحوة الفضلي.. مكسب للحراك أم وبال عليه”؟! استنتجت فيه أن انشقاق الفضلي قد يكون له صلة بما يجري في صعدة، أي في إطار الصراع المكتوم بين المشير واللواء.
وعندما طرحت هذا الرأي في إحدى الندوات بالعاصمة الأميركية اتهمتني سفيرة أميركية سابقة في اليمن بأني أهرف بما لا أعرف، لكني أصبتها بالصدمة والذهول عندما بينت لها بالدليل القاطع أني كيمني أعرف ما لا يمكنها أن تعرفه لو عاشت في اليمن أربعين سنة وليس أربع سنوات فقط.
ففي الوقت الذي كانت تظن فيه أن اللواء علي محسن هو شقيق المشير صالح، وأنهما لا يمكن أن يختلفا، قلت لها: إن اللواء هو شقيق طارق الفضلي من النسب وليس شقيق صالح، ولم أجد في الإنجليزية أي مفردة تسعفني على ترجمة كلمة صهر أو صهير سوى “شقيق بالنسب”، ومع ذلك لم تفهم السفيرة مغزى ما أقول إلا بعد انشقاق اللواء علي محسن ذاته عن سلطة صالح، وانتهاء الدور المناط بطارق الفضلي تبعاً لذلك.
والغريب في الأمر أن السفيرة الأميركية السابقة في اليمن ليست وحدها التي تجهل اليمن بل يشاركها في هذا الجهل عميد من أعمدة اليمن هو المناضل علي السعدي الذي هاجمني بشدة على ما طرحته في مقالي المشار إليه بشأن الفضلي، رغم أني لم أسيء للفضلي ولا لغيره، بل حاولت تبيان أطراف الصراع الحقيقية وفقاً للمؤشرات المتاحة حينها.
ومازلت حتى الآن أقول: إن هناك أطرافاً سياسية في صنعاء تتصارع فيما بينها عن طريق واجهات جنوبية، وأن الحل الأمثل لهذا الصراع هو تحويل هذه الواجهات إلى أصحاب سلطة حقيقيين، وستنتهي كل الخلافات فيما بينهم.
ولكن المشكلة في آرائي المتعلقة بالحراك الجنوبي وحركة الحوثي بالذات أني لا أسمع من هذين الطرفين أبداً إلا عندما يختلف رأيي عن رأيهم.
لم يحاول الحراكيون ولا الحوثيون تزويدي بأقل معلومة تساعدني في الدفاع عن القضايا التي أتفق فيها معهم، ولكن عندما أعلن عن رأي يختلف عن قناعاتهم سرعان ما تنهمر تعليقاتهم وكأني أعلنت انشقاقي عن حركاتهم، متناسين أني لم ولن أنضم إليهم يوماً، وأن رأيي هو ملكي الشخصي، وليس من حق أي فصيل سياسي أن يصادره لصالحه أبداً.
الشيء الوحيد الذي يختلف بين الحوثيين والحراكيين فيما يتعلق بشخصي المتواضع، هو أن الحوثيين أكثر أخلاقاً في انتقادهم للرأي الآخر بالمقارنة مع بعض ناشطي الحراك الذين فقدوا آداب الاختلاف فيما بينهم، فكيف لهم أن يحترموا حق التعبير لمن هو خارج فصائلهم أصلاً، ولا أستطيع أن أورد أمثلة لما تنشره بعض مواقع الحراك من بيانات تكفيرية ضدي بسبب خروجها عن النطاق المتعارف عليه في الاختلاف.
ولكن بما أن هذه المساحة في صحيفة (الجمهورية) منحت لي كرماً، ولم أبسط عليها عنوة، فيمكن أن تتحمل الصحيفة نشر أي تعليق أو رد ضد آرائي المنشورة هنا مهما كان الاختلاف أو الاحتجاج قوياً، وعلى سبيل المثال فقد كتب النائب البرلماني يحيى بدر الدين الحوثي رداً على ما طرحته سابقاً تحت عنوان “ما لا يدركه الحوثيون” ولكنه لم يرسل الرد ل(الجمهورية) عملاً بحقه في الرد، وإنما بعث رده إلى مواقع أخرى، ومع ذلك سأورد تعليقه كاملاً؛ لأن هذا حق له ولغيره يجب أن نعوّد أنفسنا على عدم التنازل عنه.
يقول النائب الحوثي في رده:
إلى منير الماوري ... من يحيى بدر الدين الحوثي
هذا هو السر الذي يدّعي منير الماوري أن الحوثيين لم يدركوه، ولكن بمجرد رؤية بسيطة إلى العراق والصومال وأفغانستان وفلسطين يعلم الحوثي وغير الحوثي أن أمريكا هي من يجلب الدمار إلى بلداننا تأملوا كلامه المعسول: هناك سر وراء مطالبة أوروبا وأميركا لنا بإقامة حكم رشيد في بلادنا، ومحاولاتهم الحثيثة صبحاً ومساء أن يساعدونا على تحقيق الأمن والاستقرار في جميع محافظاتنا، وإعادة ترميم ما خربته حماقاتنا وثأراتنا، وتحقيق العدل في محاكمنا والنزاهة بين قضاتنا، وأن نحترم حقوق نسائنا وشبابنا، ونروّض كلاب حراساتنا، ونحارب المنتحرين من أبناء قبائلنا، ونضمن عودة مهجرّينا إلى جعاشننا وصعدتنا وسفياننا، بل إنهم يتمنون عودة حاملات الشريم إلى مزارعنا، وفواكه يريم إلى محاجشنا، وعنب صعدة إلى أسواقنا وأغاني أيوب إلى منصّاتنا ومسامعنا. كل هذا ليس من أجل سواد أعيننا أو بسبب نقاء سرائرنا ولا من أجل ناطحات سحائبنا أو ثروات لحجنا وبترول ضالعنا أو غاز ردفاننا، وعنب صعدتنا، لا والله ولا من أجل نهب قاتنا وسرقة دكاكيننا أو قتل أبناء حاشدنا وبكيلنا ولا اختراق جوفنا أو استكشاف مأربنا وقصف صرواحنا ومعاقبة عبيدتنا وجهمنا وعوالقنا أو فك ارتباطنا ببعضنا، ولكن هؤلاء النصارى يسعون لنصرتنا ويتمنون الخير لنا ويأملون بعودة السواح لزيارتنا في عقر دارنا، وإنعاش اقتصادنا، وذلك كله لسبب واحد وحيد وهو حماية جيراننا ومن وراءهم من شرورنا وإرهابنا الناجم عن عوزنا وفقرنا وبطالة أبنائنا وفساد وجشع وأنانية مسئولينا.
الفقرة الثانية: ثقة الماوري بإدارة بلده الثاني “أمريكا” جعلته يجهل الحوثيين بتكرار في مقالته التي نشرها تحت عنوان “مالا يدركه الحوثيون”، ولا أدري إن كان مطاوعة الإصلاح قد أعدوه بمرضهم “العداوة للحوثيين” مع أنهم لم يشركوه في غنيمتهم، الغريب أن الماوري قد بشرنا أن إرادة الله متطابقة مع إرادة إدارة بلده الثاني، وأن الحوثيين يجهلون أن الدول العظمى مصرة على تنفيذ المبادرة شئنا أم أبينا، ولا أدري كيف عرف جهلنا بهذا الموقف وهو في أمريكا وجماعتنا في اليمن يسمعون تهديدات أمريكا ويرون طائراتها بدون طيار تجوب الأجواء ويسمعون تحريض السفير الأمريكي.
ولي أن أرد على تجهيلات الماوري بالقول بأنه لا يدرك بأن اليمنيين يرفضون المبادرة وليس الحوثيون لوحدهم، وأن أمريكا وغيرها لن تستطيع فرض ذلك بالقوة، وأنه لابد من وضع حل منصف يرضي الجميع.
تعليق:
يستحق النائب البرلماني يحيى الحوثي الشكر على متابعته لما ينشر، ومن حقه أن يخالفني في رأيي، ولكني أحب التأكيد له أني لا أنتظر المشاركة في أية غنيمة؛ لأن غنيمتي الكبرى هي نجاح الثورة اليمنية وحدوث التغيير المنشود ورجوعه هو نفسه من منفاه الإجباري في ألمانيا إلى بلده وأهله مثلما أتوق أنا للرجوع من منفاي الاختياري إلى قريتي وأهلي.
وأظن أنه لن يتنكر لألمانيا البلد الذي حماه من طغيان النظام، ولا يجب أن يتوقع مني أن أتنكر لأمريكا التي آوتني، مع العلم أن أمريكا ربما تكون البلاد الوحيدة في العالم التي لا تشكر من يدافع عنها، ولا تنظر بعين الارتياب لمن ينتقد سياساتها.
ولو عدنا للوراء قليلاً فإن الملكيين في صعدة ومن بينهم آل الحوثي تحالفوا مع أمريكا والسعودية علناً ضد ثورة بلدهم وجمهوريتهم طوال الفترة بين1962 و1970، بل وتشير وثائق أمريكية تاريخية أن مرتزقة إسرائيليين تمركزوا في صعدة أثناء الحرب ضد “القوات المصرية آنذاك”.
ولهذا فإني أعتبر شعار:”الموت لأمريكا وإسرائيل” مجرد مزايدة سياسية لا معنى لها إلا إذا كان الهدف هو إخفاء علاقات تاريخية مصيرية مشتركة.
أما الطائرات الأمريكية فلم يعد الأمر سراً أنها تجوب أجواء مختلف البلدان الإسلامية، ولكني لم أرسل هذه الطائرات ولست مسؤولاً عنها، وأعتقد أن الطيران الحوثي لن يكتفي بالتحليق في أجواء أمريكا لو أن أمريكا رفعت شعار “الموت للحوثي”، ولكن من حسن حظنا أن من يرفع شعار الموت للآخر لا يملك طائرات دون طيار ولا يملك أسلحة نووية، وإلا لكان قد دمر البشر عن بكرة أبيهم من دماج إلى واشنطن مروراً بلندن وباريس وبرلين، وصدق المثل القائل: “ما يقيد الله إلا وحوش”.
الجزء الاول :
https://nashwannews.com/news.php?action=view&id=15333