[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

أحذية لها تاريخ

يقال إن أهمية أي شيء من أهمية ما يتصل به، فما الأهمية التي اكتسبها الحذاء حتى يحظى بهذا الاهتمام كله ويصبح من التاريخ؟ اشتهرت عبر الزمن أحذية كثيرة دخلت التاريخ وصارت أحاديث الأدباء والشعراء والساسة وستصبح فيما بعد أحاديث المؤرخين ونظريات الفلاسفة، وربما ربطوا بعض الأحداث اليوم بالحذاء فيقال حصل كذا في عام الحذاء وكانت وقعة كذا في شهر الحذاء..

إلى جانب حذاء موسى عليه السلام الشهير "النعل" الذي تحدثت عنه التوراة والقرآن الكريم وهو في جبل "حوريب" هناك الحذاء العجيب المنسوبة ملكيته لزرادشت وهو حذاء تتساوى فردتاه بحيث يمكن لك انتعال أي منها على أي من قدميك، وهناك أيضا في عالم الأساطير حذاء السندريلا الذي يعتبره البعض نجم الأحذية العالمية الشهيرة في الأسطورة القديمة.. يتحدث عنه النجوميون بترف زائد، مثلما هو الشأن مع حذاء الطنبوري الشهير في الأدب العربي الذي شقي به صاحبه طويلا، وإن كانت القصة إلى النسيج الخيالي أقرب منه إلى الحقيقة، بصرف النظر عن المتعة والطرافة في القصة وحبكتها الفنية؛ لكن ليقابله في الحقيقة حذاء أم الخليفة المعتضد إن لم تخني الذاكرة الذي صنعه لها الخليفة من المسك والعنبر وسائر أنواع الطيب، وفيه قال بشار ابن برد شعرا يصف حذاء أم الخليفة من جهة ويعرض به أمام العامة لفتا للانتباه لمدى الإسراف والتبذير كما هي عادة بشار في كثير من أشعاره لاسيما وقد كان من المعارضين للبلاط العباسي، يقول:

إذا وضعت في مجلس القوم حذاءها فاح مسكا ما أصاب وعنبرا

إلى جانب حذاء السندريلا وحذاءا لطنبوري وأم الخليفة، وأيضا أحذية الأديبة الجزائرية الشهيرة أحلام مستغانمي في روايتها الشهيرة "عابر سرير" هناك قباقب "شجرة الدر" والقباقب نوع من الأحذية الرخيصة لا تزال تقريبا تصنع إلى اليوم في مصر، وتوضع في كثير من حمامات المساجد هناك، ويبدو أنها اكتسبت التسمية من رجع صداها حين يسير بها الماشي على الأرض الصلبة، وقد تسببت هذه الأحذية في قتل الملكة الأثيرة "شجرة الدر" في مصر داخل قصرها وانتهاء حكمها؛ بل كانت نهاية عهد الأيوبيين في مصر، وتعتبر هذه الأحذية "القباقب" أول أحذية تسقط ملكة؛ بل عهدا سياسيا برمته، كما هو الشأن اليوم..

وتذهب بعض الروايات التاريخية أن أعتى طغاة الإنسانية قاطبة وهو النمرود الذي ادعى الألوهية والجبروت وكان أحد أربعة ملكوا المشرق والمغرب كانت نهايته بالحذاء، وقد سلط الله عليه البعوض ينخر في دماغه، فكان لا يهدأ له بال إلا إذا طرقت ناصيته بالنعال، ولما ضاق به ممرضه ومل من الطرق المتواصل ليلا ونهارا ضربه الضربة الأخيرة بالنعل الأكبر ففارق الحياة بضربة نعل واحدة، مثلما فارقها بضربات ورفسات متعددة آخر خليفة عباسي "المستعصم بالله" حين رفسه التتار بنعالهم على مرأى ومسمع من أعين "هولاكو" الذي أمره بأن يحضر كل مجوهراته فأحضَر الخليفة المستعصم بالله وهو يرتعد من الخوف صناديق المجوهرات والنفائس، فلم يلتفت إليها هولاكو، ومنحها للحاضرين وقال للخليفة: "إن الأموال التي تملكها على وجه الأرض ظاهرة، وهى ملك لعبيدنا؛ لكن أذكر ما تملكه من الدفائن. ما هي؟ وأين توجد ؟" فاعترف الخليفة بوجود حوض مملوء بالذهب في ساحة القصر، فحفروا الأرض حتى وجدوه، وكان مليئا بسبائك الذهب الأحمر تزن الواحدة مائة مثقال" وتعجب هولاكو كيف يكون للخليفة كل هذه الكنوز ثم يبخل على الجنود بأرزاقهم وهو في أشد الحاجة لهم؟! وتقول بعض الروايات إن جنوده كانوا يتسولون على أبواب المساجد وفي الأسواق، وقد أنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لبؤسهم. فأمر جنوده فرفسوه بنعالهم!!

في عالم الدبلوماسية والمراسيم الحديثة دخل الحذاء التاريخ لأول مرة عام 1960م حين قام رئيس الاتحاد السوفيتي سابقا خروتشوف بوضع حذائه على المنصة وفي اجتماع موسع للجمعية العامة للأمم المتحدة أمام الحاضرين وكاميرات التصوير في إشارة منه إلى رفضه مشروع القرار الأمريكي ضد كوبا إحدى دول حلف وارسو التابع للاتحاد السوفيتي، ولأهمية المناضل السلمي الشهير المهاتما غاندي كانت تلك الإشارات التي وردت لدى كثير حول حذائه الذي أفلت منه وهو صاعد القطار ليضع الآخر قائلا لعل أن يأتي ذو حاجة فيأخذه، خلافا للديكتاتور الأناني في رومانيا "تشاوشيسكو" الذي كان يلبس كل يوم نعلا جديدا ويحرقه آخر النهار لئلا يلبسه أحد بعده!! أو لعاشقة الأحذية "أمليدا ماركوس" الأرجنتينية التي امتلكت ثلاثة آلاف حذاء هي أغلى أحذية في البلاد في الوقت الذي يسير فيه الكثير من الفقراء بلا أحذية!!

وفي العصر الحديث أيضا حذاء الصحفي العراقي منتظر الزيدي الذي قذف به الرئيس الأمريكي بوش الابن أثناء خطاب له في العراق في صالة مغلقة وتناولته مختلف وسائل الإعلام العالمية ونظمت فيه القصائد وكتبت حوله المقالات، وقد تمت محاكمة الحذاء والحكم عليه بالإعدام حرقا!!

ومثله أيضا حذاء الكاتبة الصحفية المعروفة رشيدة القيلي الذي رشقت به صحفيا آخر قبل سنوات قليلة، أساء لصحفية أخرى صار حديث النخبة حينها.

آخر هذه الأحذية حذاء الشهيد الرعيني الذي تفطرت قدماه في مسيرة الحياة من تعز إلى صنعاء ثاني أكبر مسيرة ثورية بعد مسيرة الملح التاريخية في تقديري التي قادها غاندي ضد الاحتلال البريطاني في فبراير/ شباط 1930م من مدينة أحمد آباد وسط الهند إلى داندي في الساحل الغربي منه، وقد كان للنائب البرلماني محمد مقبل الحميري شرف الإعلان عن شرائه لأول مرة بمبلغ مائة ألف ريال ليصل بالمزاد العلني إلى ثلاثة مليون ريال دفعتها امرأة يمنية.

أخيرا: لا أظن أحدا يجهل خفي حنين "حذائيه" اللذين يتردد ذكرهما بصورة دائمة لمن خرج من مهمة ما خالي الوفاض أو صفر اليدين، ولا أحد أيضا يجهل أن هذين الخفين أيضا هما ما خرج به الحكام الطغاة عبر التاريخ على الرغم من احتذائهم لشعوبهم سنين وعقودا، ولو نطقت تلك الأحذية لقالت لكل منهم: ارحل وبلا حذاء أيضا!!

قوم إذا صفع الحذاء قفاهم صاح الحذاء بأي ذنب أضرب

زر الذهاب إلى الأعلى