[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

سبيكةُ الذهَّب.. الدكتور الإرياني!

1
".. وعجباً لأُمَّةٍ لها تاريخٌ عريقٌ مشرفٌ تخاصمهُ، ولا تستفيد منه؛ وتعتبرهُ ماضيًا زالَ وتراثًا باليًا"
"إنَّ الذين يقرأون التاريخَ، ولا يتعلمونَ منهُ هم أناسٌ فقدوا الإحساسَ بالحياة، وإنهم اختاروا الموتَ هربًا من محاسبةِ النفسِ؛ أو صحوةِ الضميرِ والحس "..
أرنولد توينبي

2
عرفتهُ أيامَ كنتُ طالباً في الكويت. وكنتُ احياناً أتناولُ وجبةَ الغداء لديه؛ إذا ما ناداني هوَ لذلك، أو ناداني الطَّفَر!.. فتعرفتُ عليه عن قُرْب. ومُذْ ذاك؛ وأنا أبحثُ عن نفسي فيه، أو عنه في نفسي.

3
إذا قلتَ عنه أنهُ الأكاديمي المتمكن؛ فهو ذاك؛ بل فوقَ ذاك. كان عالماً بالحياة في أغلب وجوهها. وإذا تحدثتَ معه في الدِّين فهو عالم دين كأعظم ما يكون اعتدال العالِم. وإذا تحدَّثَ في مسائله تجدهُ بعقلية أبي حنيفةَ في عدم استسلامه للموروث بسهولة؛ بل يذهب بعيدا بقوةٍ يبحثُ عن حقيقة الإنسان في التاريخ ايختارَ لنفسه اجتهادا يميزهُ كإنسان وكعالِم. كما أنهُ كان يمَدِّدُ رجليه؛ إذا ما رأى ما رآهُ أبو حنيفة. وهو صاحب نكتة نادرة مُخترَعة وبديعة؛ وبذلك.. ما زال يذكرني بشريحٍ القاضي في طرافةِ وجرأةِ وعقلِ أحكامه وفتاويه واجتهاده.
وَمَنْ بعد أبي حنيفة النعمان، والقاضي شريح إلا القليل!

4
ثمَّ ماذا!
لا - بل قُلْ ' ثُمَّ ماذات '!
السياسي البارع الذي يفهم كل السياسة. والفيلسوف المراهن على انتصار الحقيقة أينما كانت؛ ورجل الدَّولة الذي حمل وجهَ اليمن المشرق أينما دخلَ وخرج وذهب ورحل وحل - بكل معنى الكلمة. يمتلك ضحكةً فريدة فذَّةً في رنينها ورتبتها؛ كأنها الأجراس التي توعد بالصلاة، أو تتوعد الضلال. احترف كل الفنون والثقافات على أروع ثمارهما في الصدق والجرأة والصراحة والعقل المتفتح لكل حركة الحياة وضروراتها. بلغ أموراً كثيرةً وما بَلَغَتهُ مسافةً وشأوى؛ فكان صادقاً لِحَدِّ البكاء؛ وصريحاً لِحَدِّ الضحك؛ وجادَّاً بلغ من جدِّهِ الهزلَ الساخر بالأشياء حوله؛ وهازلاً تفانى في هزله حتى بلغَ من الجدِّ جدَّه الذَّاخر بالحقيقة المؤلمة.

5
يختلفُ النَّاسُ حوله وفيه ومنه.. وما حمل لأحدٍ منهم حقداً ولا غِلاً - وليس سَيِّدُ القومِ مَنْ يحملُ الحقدا. حملَ اليمن هماً بين جوانحه؛ ويفهم خباياها؛ كما لم، ولن، يفهمها أحد؛ وطرح في حناياها، قدر جهدهِ وأقصى استطاعتهِ إذا وازن أثقالها، وموازناتها العَصِيَّة؛ حتى على علي ومعاوية!

6
فهم اليمن ؛ ولم تفهمه؛ وعرف تضاريسها الجغرافية وغير الجغرافية ولم تعرفه؛ كلما قرب ابتعدتْ؛ وكلما جَدَّ هزلتْ؛ وكلما صدق كذب الناس. وكان كلما تعب خيله؛ تَرَّجَلَ ثم ابتسم بكل روعة المنتصر؛ الذي يخبئُ انتصاره للنخلة، والطير، والسوسنة، في غدِ بلده، وأرضه، وناسه. بلغ من العمر الكثير. وكلما زاد عمره، زاد عطاؤه. شغلَ الناسَ، وهو يشتغلُ للناس؛ وملأ الدنيا؛ فما مَلَّته؛ وعرك الليلَ؛ فهزمه مرات، وهزمه مرات؛ ودالت بينهما صراعات ضخمة؛ فكان كلما انتصر؛ خرج مبتسماً، وإذا انهزم، خرج، أيضاً، مبتسماً؛ وكأنما خلق الابتسام له، وخُلِقَ له...
عجباً لهذا الرَّجل الذي أتعب الدنيا في كل مدارجها؛ والخيل في إسطبله أو معاركه؛ والسياسة جدها وهزلها؛ وفي قلبه تلك الرائعة؛ وفي عينيهِ عيناها : اليمن!..

7
ومهما قلتُ؛ ستتعبُ كلماتي، وينتحي اليراع، ركناً خائباً باكي. وما زالَ - وربما تكون محطتنا الأخيرة والفرصة الممكنة - إلى اللحظة، وهو يعاركُ المتناقضات؛ ليخرج لنا بالتناسق الممكن؛ وهو يبتسم - وسيبقى مبتسماً حتى لو أسلم خيله وسيفه للهزيمة - سيظل كذلك كما عهدته منذ سني شبابي تشرق له ابتسامةٌ ثرية بها بريقُ سبيكةِ الذَّهب؛ كما عرفته سبيكة الذهب الخالص : الدكتور عبدالكريم الإرياني!
الرَّجَلُ..
والعملاقُ..
والإنسانُ..
والقلبُ اليماني الرقيق!
فارفعوا اليمنَ فوق رؤوسكم، كما رفعها؛ وضموها في حناياكم، كما ضمَّها؛ واحفظوها تحفظكم؛ واخفضوا لها جناحَ الذلِ من الرحمة؛ ترحمكم وتعزكم؛ فما ذلَّ مَنْ أعَزَّ بلادَهُ، وأرضَهُ، وناسه!

وسامحونا.

زر الذهاب إلى الأعلى