1
ما كنتُ أراهُ في هذا الرَّجُل إلا أنَّهُ جُزء مِنَ النظام قبل الثورة . وبعدَ أنْ قامتِ الثورة ، ظل الرَّجُلُ صامتاً ، كما هي عادته ؛ لا يحبُ الأضواء . وذاك طبعُ العسكري الأصيل والمحترف .
فلا غرابة إذن .
إلا أنَّ صمته كانَ صمتُ المُقَلِّبِ للأمور أخماساً ، وأسداساً . فالرَّجُل يكيِّفُ تفكيرَه فكرٌ عسكرى صرفٌ ، وإستراتيجي بحت ؛ يعرفُ من خلاله كيفَ يأخذُ الأمورَ ، ولا تأخذه الأمور ؛ ويدركُ ، من ميادين المعركة ، متى تنتهي المعركة ، وكيفَ تنتهي ، ومدى إمكانيات الخصم في الإستمرار ، أو الإستسلام ؛ ومتى تكون اللحظةُ الحاسمة التي يباغتُها ، ولا تباغته ؛ حتى يخرجَ منها منتصراً للحظة ؛ أو بأَقَلِّ خسارة في اللحظة !..
2
وقد عهدته في ثلاثين عاماً ، رجلاً عسكرياً من الطراز الأوَّل . ومهما حُمِّلَ الرَّجُلُ من أخطاء النظام ؛ أو حَمَلَ منها ؛ أو تحمَّلَ من تلك الأخطاء ؛ فإنَّ قراراً ما - لرَجُلٍ مثله له عقل راجح - كان سيتَّخِذُهُ الرَّجُل في لحظةٍ تاريخيةٍ ، حاسمةٍ ، قاتلةٍ ، وباعثةٍ في آنٍ واحد ، تُحسَبُ له رَصِيدَاً ؛ ولا تُحسَبُ للتاريخ ، أو على التاريخ تقصيراً ممجوجاً..
3
وتصوُّري أنَّهُ حتى لو لم تكن جمعةُ الكرامة قد شاء اللهُ لها أنْ تكون ، وبها أنْ يُستَهَدفَ فيها المناضلون ، والثوار في الساحات ؛ فمنهم مَنْ قضى نَحْبَه شهيداً ؛ أو جريحاً قد يُشفى ، أو يشقى معاقاً بقية حياته ؛ .. أقول .. حتى لو لم تكن تلك الجمعة قد حدثت ؛ فإنَّ الجنرالَ كان سيقدم على قراره الذي صممه له القَدَرُ ، وأستوعد القَدَرَ إيفَاءَه ؛ فكان له ما شاء وَوُعِدَ به . ففكرهُ يرغمه على فعل ذلك !
4
.. وإنَّي حين أَقولُ ذلك لا أتَعَسَّفُهُ ؛ أو يستعصي عليَّ ، أو على أي مُتابع لأراء الجنرال ، وتصريحاته ، وأقواله ، في مناسبات ما . وهو لا يخشى التقاعد بل بسعى إليه '.. ليعيش هادئاً في مدينته أو في قريته ' ؛ وكان قد وافقَ يوماً أنْ يخرجَ حتى من بلده التي يحبها ، مع علي الذي لا يحبها .
5
كانتْ الأحداث ترغمه ، أحياناً ، على إمكانية فعلٍ عسكري ، جراحي ما ، ولكنه كانَ متمترساً خلفَ سلامِ الروحِ ، وثقة النَّفس ، وذكاء القلب ، وسلامة السريرة ؛ التي حافظت على موازنات ساحات الثورة السلمية ، بأخلاقيات الثورة ، وبأخلاقيات المقاتل ؛ أمام نزق الديكتاتور ، وانهيار أخلاق النظام السابق - إنْ كان على خُلُق ؛ لئلا تذهب البلاد إلى هاوية حربٍ لا تبقي ، ولا تذر . كان إنساناً صبوراً ، واستراتيجياً من العيار الفريد .
6
وما زالَ ، للحظة ، يحسَبُ له النظام المحروق ، وما بقيَ من النظامِ المحروق ، ألفَ حسابٍ ، ورصيدٍ ، ووصيدٍ . هو يدرك - كما يدركُ المتمعنُ المتنعمُ بالبصيرةِ والكياسةِ والنظر - أنَّهُ ثِقَلُ الميزان الذي حافظَ - وما زال يحافظ - على موازين القوى في ساحات الثوار ، وساحات السَّاسة . هو يشعرُ فيدرك ذلك ؛ والجميع يستشعره .
7
.. وبغضِّ النظر عن حساباتِ اللحظةِ التاريخيةِ الحاسمة ، التي قد يجتهدُ المتأملُ المتفحصُ في تحليلها ، واستخلاص الأسبابِ التي بنى عليها الجنرالُ إقدامَهُ على ذلك القرار التاريخي ، بالإنحياز للحقِّ ، والناسِ ، والثوارِ ، وساحاتِ السلام ، التي أسقطت أعتى ، وأطولَ ، وأفسدَ ، وأرذلَ ، وأسوأَ ، وأقسى ، وأجهلَ ، وأفضعَ ، وأنذلَ ، وأسرقَ ، وأظلمَ ، وأغبى ، وأزْنَمَ نظامٍ عرفهُ اليمنيون في تاريخهم منذُ الفأر الأوَّل ؛ فإنَّ قرارهُ كانَ مُصَمَّمَاً تصميماً محكماً بِقَدَرٍ وأتى على قَدْرِ اللحظة ، بعنايةٍ إلهيةٍ أُعْطِينَاهَا بكرمٍ ، لإسقاطِ الفأر الثاني ، قبلَ انهيار السَّدِّ مرَّةً أخرى !..
8
ويكفيه ذاك ؛ بَلْ ويعفِيهِ مؤنةَ البقاءِ في موضعٍ يفاوضُ النظامُ المحروقُ على المحاصصةِ به ، والمُقَايضةِ عليه ؛ في الوقتِ الذي يُقَدِّرُ هو وحده ، ويقرر هو وحده ، اللحظةَ التي يرتاح لها ، وفيها ، وبها ؛ ليعلنَ خروجَهُ هادئاً ، قريرَ الروح ، مستقرَّ النفس ، واثقَاً ، مستبشراً بما أعطى ؛ ليستريحَ إلى قريته الهادئة ، المُتَّكِأة على وشوشة الوآدي الممطر، والمستريحة على سفحِ جبلٍ عظيم ، مثله !
كانَ للثورةِ سَنَدَاً ، وعَمدَاً ، وانتصاراً ، وكانت برداً وسلاماً عليه ، حين يتقاعد غيرَ محروق .
وأَثِقُ تماماً أنَّهُ لنْ يَذْرِفَ دمعةً واحدة !
وكفى به ذاك رجلاً .
عرفته رجلاً..
وعرفه الناس
ورأيته رجلاً...
ورءآهُ الناسُ رجلاً
فسيلقى اللهَ رجلاً !
موافقات :
لَكَ السَّلَاْمُ يَاحَبِيبَنَا بِرَوْعَةِ الهِلَالْ
لكَ الحَمَامُ مِنْ عِيونِنَا لِزَوْرَةِ الوِصَالْ
لَكَ السِّيُوْفُِ كُلُّهَا دُمُوعُهَا قِتَالْ
وَبَسْمَةُ السَّنَا
وَلَمْعَةُ الرَّنَاْ
وَضِحْكَةُ العِيَالْ
وَرَقْصَةُ الرُّمُوشِ بِالضَّنَى
لكَ الوُرُوْدِ وَالزُّهُوْرُ فِيْ التِّلْاْلْ
لكَ الصَّبَاحُ والنَّخِيلُ والظِّلال
لكَ القَصِيدُ والمَقَالْ
ومُنتَهَى الحَنِينِ للسُّؤآلْ
لكَ السِّيُوْلُ وَالْأَقَاْحْ
لك الْخِيُوْلُ وَالرِّمَاْحْ
وَآخِرَ النِّبَاْلْ
طَاْؤُوْسُنَاْ الَّذِيْ مَشَى يُنَاهِزُ الجِبَالْ
يَاْ نَخْلَنَاْ الطِّوَاْلْ
وَمَعَبْدَ الضُّحَى
وَآخِرَ الرِّجَالْ .
وسامحونا !
عبدالكريم عبدالله عبدالوهاب نعمان