تمر علينا اليوم الذكرى الأولى لرحيل الصحافية والإعلامية اليمنية الأبرز الدكتورة رؤوفه حسن، وهي كذلك إحدى أهم الأكاديميات اليمنيات على المستوى اليمني والعربي والدولي، فهي أسست أول قسم للإعلام في جامعة صنعاء وتخرج على يديها مئات من طلاب الصحافة والإذاعة والتلفزيون، وأسست أول مركز بذات الجامعة خاص بالدراسات النسوية، وتعرضت بسببه للتهديد من بعض العناصر المتشددة.
وإلى جانب إجادتها للغتين الإنجليزية والفرنسية، فهي كانت محاضرة دائمة في العديد من الجامعات الغربية، وحملت معها قضايا المرأة اليمنية في مختلف المحافل، وكان لها دور أساسي في التعريف بها..
لذلك عندما يسجل الباحثون والمهتمون تاريخ الحركة المعاصرة للمرأة اليمنية، سيجدون أن فقيدتنا الراحلة الدكتورة رؤوفه حسن، هي الشخصية الأكثر أهمية والأكثر تأثيراً والأكثر ديناميكية في مسيرة المرأة اليمنية المعاصرة، للتحرر من القيود المصطنعة في عهود التخلف، دون أن يعني ذلك الغض من شأن الأخريات اللائي بذلن جهوداً خارقة في الهدف نفسه.
ما يجعلني أميز دور الراحلة، هو بالتأكيد لتأهيلها الأكاديمي المميز وتعدد اللغات التي كانت تتحدث بها، وقوة شخصيتها، ووضوح الأهداف التي كانت تعمل من أجلها، وأخيراً سعة علاقاتها، ليس فقط على الصعيد المحلي، بل على الصعيدين العربي والدولي.
لذلك فإن غيابها يعد خسارة كبيرة بالفعل، ليس فقط للحركة النسائية المعاصرة، بل للمجتمع اليمني بأكمله، فهي لم تحصر نشاطها في قضايا المرأة، بل قفزت بدور المرأة مراحل كبيرة لتكون شريكة فعلية للرجل في الأدوار التي كان البعض يعتقد أنه لا يجيدها إلا الرجال.. ويكفي أنها ربما كانت أول صحافية وإعلامية في المنطقة العربية ترشح نفسها لمنصب نقيب الصحافيين، ونافست فيه بقوة ولم يفصلها عن الفوز به سوى تسعين صوتاً، ورغم ذلك تقبلت عدم نجاحها بروح ديمقراطية نادرة.
تعرفت على الدكتورة رؤوفه حسن بشكل وثيق لأول مرة في مايو 1990 في باريس، قبل أيام من إعلان استعادة الوحدة اليمنية.. كنت مع عدد من الأصدقاء عابرين ليومين في طريقنا إلى الجزائر لحضور مؤتمر دولي..
علمت الراحلة العزيزة بوجودنا فجاءت لزيارتنا، لكنني فوجئت بأنها كانت تتابع مقالاتي التي كنت أنشرها في صحيفة "الصحوة"، عن مخاضات ومتطلبات قيام الوحدة اليمنية، ومنها مقالات جريئة أخذت أصداء لا بأس بها في حينه، تتعلق برأيي حول بعض مواد دستور دولة الوحدة، وإذا بها تناقشني فيها وعنها مناقشات تدل على عمق وحسن قراءة ونقد حصيف.
شعرت لحظتها باعتزاز شديد، ليس فقط لأن مقالاتي عبرت البحار، لكن لأنها وقعت في يد هذه الشخصية الأكاديمية المميزة والمثيرة للجدل، والتي كانت شهرتها واسعة جداً بحكم عملها الصحافي والإعلامي.. ومنذ ذلك الحين ربطتني بها علاقة مميزة، لم تنقطع حتى وفاتها.
أخبرتني رحمها الله أنها ترغب في الترشح لمنصب نقيب الصحافيين عقب استقالة النقيب محبوب علي عام 2006، في حال عدم ترشحي، فأخبرتها بأني لا أرغب في ذلك لكن الزملاء يضغطون علي، وبالذات أعضاء مجلس النقابة بمختلف اتجاهاتهم السياسية، فشجعتني ودعمتني.
وكان أن ترشحت بالفعل، وترأست هي المؤتمر الاستثنائي الذي فزت فيه نقيباً للصحافيين يوم 12 يوليو 2006. وقبل المؤتمر العام الرابع عام 2009، تحدثنا سوياً فأكدت لي رغبتها في الترشح مجدداً في حال عدم ترشحي، لأنها لا ترغب في منافستي لأنها تجدني في وجهة نظرها مؤهلاً لشغل الموقع فأكدت لها قطعياً أني لن أترشح مجدداً، وأعلنت ذلك في حوار صحافي قبل المؤتمر الرابع بعام كامل تقريباً، وكنت أؤكد ذلك في كل مناسبة تتاح لي.
لكني فوجئت أن معظم الزملاء والزميلات لم يأخذوا تأكيداتي على محمل الجد، بمن فيهم الفقيدة الراحلة.. كانوا يظنون أني أناور من أجل الحصول على تعاطف ودعم الزملاء والزميلات مسبقاً، وأني سأرشح نفسي في آخر لحظة من لحظات الأيام العشرة الخاصة بالتقدم للترشيح..
ورغم ترشح الزميل ياسين المسعودي نائب رئيس تحرير صحيفة "الثورة" للمنصب، إلا أن الكثيرين ظلوا يترقبون إعلاني، حتى فوجئت باتصال من الدكتورة رؤوفه رحمها الله في الساعات الأخيرة لفتح باب الترشيح بمدير مكتبي في النقابة، لتتأكد منه حول مدى جديتي في الترشح من عدمه، فأكد لها أني لن أترشح، ثم تحدثت معها هاتفياً وكانت مسافرة حينها، فأكدت لها ذلك وهي مندهشة، فأعلنت حينها ترشحها للمنصب في سباق غريب مع الزمن ومفاجأة كبيرة للوسط الصحافي، وإعلان أننا سنكون على موعد مع موسم انتخابي ساخن وتنافس حاد بين الزميلين ياسين ورؤوفه، اللذين يحظيان بشعبية حقيقية في الوسط الصحافي.
محطات عدة ومواقف متعددة جمعتني بالدكتورة الراحلة، لكنها كلها اتسمت بالود والاحترام والجدية في القضايا التي عملنا فيها سوياً.. حتى جاء مرضها المفاجئ الذي كنت واحداً من عدد محدود جداً من أصدقائها الذين أحاطتهم علماً به وبمتطلباته..
كانت صدمة بالنسبة لي، لكني رأيت في عينيها شكيمة وقوة تمكنها من قهر هذا المرض، وهكذا دخل أصدقاؤها في سباق مع الزمن لاستخراج مخصصات العلاج، التي كان الروتين وعدم الإحساس بقيمة حياة الإنسان اليمني عموماً، سبباً في تأخيرها، فيما كان الوهن يستنفد طاقة الجسد العليل النحيل. ورغم إجرائها عملية زراعة الكبد في النهاية، لكن أقدار الله عز وجل كانت قد سبقت واختارتها إلى جواره.. رحلت هي وارتاحت، لكننا خسرناها وافتقدناها..
وداعاً يا سيدتي العزيزة.. وداعاً يا صاحبة القلم الجميل وربة الحس الإنساني المرهف.. وداعاً يا صاحبة الأفكار الخلاقة والمشروعات المتميزة والبرامج الناجحة.. وداعاً فها نحن بعد عام من غيابك لا نجد من يسد فراغك، ولا أظن أننا سنجده في القريب العاجل..