أرشيف الرأي

اليمن.. الغنيمة والرهينة

قيل الكثير عن اليمن وكيف كانت غنيمة لعدد من النافذين خلال العقدين الماضيين، وكتب الكثير عن أوجه الفساد خلال فترة حكم النظام السابق الذي أباح أراضي وممتلكات الجنوب وتهامة وعدداً من المناطق اليمنية الأخرى لأصحاب النفوذ من دون وجه حق أو استحقاق، ووزع مناقصات الدولة والامتيازات النفطية للمقربين والأنصار الذين كونوا ثروات هائلة يعجز اليمنيون الشرفاء عن تصورها، فضلاً عن تملكها .

ولم يكن كل ذلك، وأكثر منه، سراً، حتى أثناء فترة حكم النظام السابق، فقد كان الحديث عن تقاسم الكعكة وتذمر البعض من عدم اكتفائهم بأنصبتهم منها، يتم في أعلى مستويات قيادة الدولة بصورة علنية وفي إعلامها الرسمي، وكاد يصدق عليهم القول إن الحلال في نظرهم ما قدروا عليه، والحرام ما تعذر وصولهم إليه.

لقد جاءت ثورة الشباب السلمية رفضاً للفساد والاستبداد وتوقاً إلى الإنصاف والمواطنة المتساوية، واستطاعت هذه الثورة بجرأتها وتنوع أطيافها وعدالة مطالبها وظروف انطلاقها كجزء من حركة الربيع العربي، أن تهز النظام السابق بل وتسقطه معنوياً في 18 مارس/ آذار 2011 يوم جمعة الكرامة عندما تعرض الشباب المعتصمون السلميون للقتل بصورة مباشرة لم تترك للنظام أي شرعية للبقاء.

ولكن ضعف الخبرة السياسية والتنظيمية للشباب وتردد أحزاب المعارضة التقليدية ودهشتها، إلى جانب استماتة النظام في جهوده للبقاء، أعاقت عملية التغيير المطلوب واستطاع النظام السابق بمناوراته التالية للحدث أن ينتقل باليمن إلى حالة جمود وانتظار وترقب هي أقرب إلى احتجاز اليمن واليمنيين رهينة للمساومات التي ابتدأت بطلب مبادرة خليجية تتضمن الحصانة والانتخابات المبكرة والانتقال السلمي للسلطة، إلى المساومة والمماطلة في التوقيع على المبادرة بعد أن أصبحت نصاً متفقاً عليه من الأطراف الداخلية والخارجية، إلى الانغماس الكامل في حيل ومكائد إعاقة التغيير في المؤسسات المدنية والعسكرية التي تطالها قرارات الرئيس الجديد.

وإذا كان من المحزن أن تصبح اليمن رهينة صراع وخلافات، وجشع وأطماع، ورعونة بعض أبنائها الذين لا يحملون لليمن مشروعاً عاماً ولا رؤية سياسية أو اجتماعية وإنما تحركهم المصالح المادية، والذين لا يأبهون أن يسوقوا اليمن إلى مصير مظلم ويجرعوا اليمنيين الذل والجوع والهوان من أجل مصالحهم الشخصية، فمن المؤسف أيضاً أن تكون اليمن رهينة موقف دولي لا ينظر إليها إلا من منظار مكافحة الإرهاب والمصالح الإقليمية والدولية.

هذا الوضع الذي تراوح فيه اليمن لأكثر من عام وحتى الآن في جو الاستقطابات المحمومة والاختلالات المصطنعة، خلق انقسامات عميقة تنذر بتشظٍ مجتمعي ونفسي خطر، وتكريس لحالة الارتهان وعدم الاستقرار لفترة قد تطول. ومما يرسخ هذه الحالة أولاً تشبث أنصار النظام السابق بمصالحهم، ومحاولاتهم إعادة اليمن إلى مربع الغنيمة من خلال التشبث بعناصر قوتهم العسكرية والأمنية، ونسج تحالفات قبلية جديدة للعودة إلى ما يتصورون أنه مازال ممكناً من إعادة الأمور إلى ما كانت عليه أو على الأقل الوصول إلى وضع يؤمن مصالحهم، ويتيح لهم المشاركة الفاعلة في السلطة والنفوذ بما يكفي للحفاظ على هذه المصالح.

وثاني عوامل ترسيخ هذه الحالة هو محاولات بعض أطراف القوى المتصارعة التي انضمت إلى ثورة الشباب دفع وتوجيه نتائج ومخرجات التغيير لمصلحتها، وتأمين مواقع أكثر تأثيراً ونفوذاً لها في خريطة الوضع الجديد وليس فقط الحفاظ على مصالحها السابقة المرتبطة بالنظام السابق.

والأمر الثالث هو عجز الأحزاب المشاركة في حكومة الوفاق الوطني عن الخروج من آليات ومهام وتوجهات حكومات النظام السابق، فبرنامجها المقدم إلى مجلس النواب لم يعكس طبيعة المرحلة الحرجة التي تمر بها البلاد، وإنجازاتها المزعومة لا تخرج عن الإنجازات الإعلامية المزعومة للحكومات السابقة، ونشاطاتها اليومية لا تلقي كثير بال إلى الأحداث التي تمر بها البلاد ولا تظهر فيها المهام الدقيقة والخطرة المنوطة بحكومة انتقالية ذات طابع سياسي ومهام استثنائية. ولم تتلمس أسباب التذمر والغضب، ولا تطرقت إلى قضايا الفساد والتهريب، ولا أقنعت المجتمع الدولي بشيء من الاهتمام باليمن وحقوق اليمنيين ومعيشتهم إلى جانب الاهتمام بمحاربة الإرهاب وتأمين الطاقة.

ورابع عوامل تكريس حالة الارتهان هو المعارضة خارج إطار أحزاب اللقاء المشترك مثل الحراك الجنوبي والحوثيين الذين وإن كان ظلم وفساد النظام السابق أهم أسباب ظهورهم، إلاّ أنهم قد حصروا أنفسهم في أطر ماضوية ولم تخرج طروحاتهم للمستقبل عن قوالب الماضي ومُثُله ومبادئه حتى البغيض منها مثل الانفصال ودعاوى التميز العرقي والحق الإلهي في الحكم، فزادوا من حالة الانقسام المجتمعي من ناحية وقزّموا إمكانات وآمال وبدائل المستقبل من ناحية ثانية واستفزوا مخالفيهم ممن لا يشاركونهم رؤاهم الماضوية من ناحية ثالثة.

وليس القصد من هذا التوصيف لحالة الارتهان التي تعيشها اليمن اليوم إلاّ محاولة الوصول إلى مبادئ أساسية للخروج من هذا الوضع واستشراف المستقبل بصورة أكثر تفاؤلاً.

والمبدأ الأول هو التسامح والتصالح على مبادئ العدالة الانتقالية المشار إليها في إطار قانون الحصانة المنبثق عن المبادرة الخليجية، وقرار مجلس الأمن 2014 الداعم لها. والمقصود من إعمال هذه المبادئ في اليمن كما غيرها من الدول التي عانت التجاوزات، هو المساعدة والمعاونة على مغادرة الماضي والانتقال إلى المستقبل بحد أدنى من الخسائر وفرصة أوسع وأعلى لإعادة اللحمة المجتمعية والكيان المؤسسي والنسيج الوطني، وتجنب ممارسات الملاحقة والانتقام، وليس المقصود بهذه المبادئ أو بقانون الحصانة مسح التجاوزات السابقة للمشمولين بها وتمكينهم من صفحة بيضاء جديدة لبدء الشوط من جديد! وإلاّ كنا نسخر من هذا الشعب وحقوقه وآماله وآلامه ومعاناته.

والمبدأ الثاني أن اليمن وبناء على تجربته الماضية وتأسيساً على طابع تكوين مجتمعه وما يتصف به من ولاءات وعصبيات، يجب ألا يُحكم إلا بحكم توافقي جماعي بمشاركة واسعة ومراعاة مصالح مختلف المناطق والفئات وبعيداً عن الاستحواذ والإقصاء الذي شاب مرحلة النظام السابق.

أما المبدأ الثالث والأهم فهو إعادة الاعتبار إلى قيم النزاهة والواجب والخدمة العامة، وتجريم ثقافة الاستفادة والاغتنام والأنانية التي سادت الطبقة المتنفذة في أروقة الحكم خلال العقود القليلة الماضية التي انغمس فيها الكثير من قادة أطراف الصراع في اليمن اليوم. وأهمية هذا المبدأ تنبع من الحقيقة المؤسفة والمخجلة التي بات يعرفها كل مواطن يمني، والتي تتلخص في أن معاناته وعذاباته اليوم ما هي إلا نتيجة لطمع وجشع بعض بنيه، وأن لا خلاص له من هذا الوضع إلا بنبذ هذه الثقافة المشوهة والخروج من براثنها، وهو الأمر الذي لا يتم إلا بإعادة الاعتبار إلى قاعدة "من أين لك هذا؟" وتطبيقها بالضرورة على كل من يتسنّم المناصب العليا في الدولة مدنياً كان أو عسكرياً، وأن تُكشَف بيانات الممتلكات ومصادرها قبل وبعد تسلم بعض المناصب مثل الوزارات وما هو أعلى منها، وإذا صلح الرأس.. صلح الجسد كله. هذا إلى جانب ما يجب أن يترافق مع تطبيق قيم النزاهة من فصل كامل بين العمل العام والخاص وتحريم الجمع بينهما، والإعلاء من شأن القضاء وسيادة القانون.

وإذا كنا هنا لم نتعرض لتفاصيل ومحددات العمل السياسي، فذلك أن التشوهات القيمية جعلت من الصعب الحكم على العمل السياسي بمنأى عن هذه التشوهات، ويقيننا أن إخراج اليمن من الأزمة التي يعيشها وإصلاح منظومة القيم الحاكمة للمجتمع سيهيّئ الأجواء المناسبة لجميع أنشطة المجتمع السياسية والثقافية وغيرها بصورة أكثر شفافية وأصدق تعبيراً عن المجتمع اليمني الطيب ذي الحضارة الزراعية والتجارية العظيمة التي مازال معظم أفراده يعتمدون خطاها حتى اليوم، والذي يكفيه فخراً أن المولى عز وجل ذكرها في كتابه الكريم، وكذا التاريخ العريق المليء بالمفاخر والمآثر في نصرة الإسلام وتثبيت قواعد دولته والوصول بها إلى مشارق الأرض ومغاربها.

- وزير السياحة والبيئة اليمني السابق.

زر الذهاب إلى الأعلى