من المعروف أن الموقف السياسي للقوى السياسية اليمنية والمعارضة منها على وجه الخصوص ينطلق من حقيقة أن المبادرة الخليجية لم تكن خيارا ترفيا فضله الساسة اليمنيون من بين عدة خيارات ممتعة وباذخة بل لقد كان خطا اجباريا كان البديل الآخر له هو الانزلاق نحو المجاهيل التي لا يعلم عواقبها إلا علام الغيوب وحده، وأقلها هونا هي الحرب التي حاول النظام تفجيرها في أكثر من مكان وأخفق بفضل تمسك خصومه بالخيار السلمي.
كان كاتب هذه السطور قد ساهم في إطار المشترك وشركائه في مناقشة مضامين المبادرة في مراحلها الأولى، وكانت الكثير من الملاحظات قد طرحت عليها من أجل جعلها أكثر استجابة لمتطلبات الثورة الشعبية العارمة التي اجتاحت كل اليمن، وكانت المبادرة بعد كل مناقشة تتمخض عن مجموعة من التعديلات لكننا كنت نكتشف أن النص الجديد يأتي بتعديلات غير تلكم التي تقدم بها المشترك وشركاؤه باعتبارهم الأقرب إلى الثورة، بل تلك التي تقدم بها الطرف الآخر وعندما كان المشترك وشركاؤه يوافقون عليها كان الطرف الذي تقدم بها يرفضها سعيا نحو تعديلات جديدة وهكذا حتى خرجت على الطريقة التي أقرت بها.
كان الإغراء الوحيد الذي أقنع أنصار الثورة بمحتويات المبادرة الخليجية هو تنحي رأس النظام ومغادرة السلطة وكان الرهان أن هذا سيؤدي إلى غيابه عن مسرح السياسة، واعتزال القتلة واللصوص مواقعهموإعادة المؤسسات الأمنية والعسكرية والمالية المخطوفة إلى الدولة، ويبدو أن الشركاء الإقليميين والدوليين قد اكتفوا بموضوع التنحي (الشكلي) والمجيء بنائب الرئيس إلى كرسي الرئاسة، وحكاية حكومة الوفاق التي لم تعرف الوفاق منذ تأسيسها، وأبقوا على الأوضاع كما كانت عليه يوم 21 فبراير إن لم تكن قد ذهبت إلى الأسوأ بالنسبة للسواد الأعظم من السكان الذين يعانون من عبث عصابة الرئيس السابق بالحياة الأمنية والخدمات وعجز أجهزة السلطة عن القيام بوظائفها بسبب الانشطار الذي تعيشه.
وهكذا تحولت المبادرة الخليجية إلى مشكلة تتطلب هي إلى مبادرة أخرى من أجل تنفيذها.
لقد تحولت الكثير من بنود المبادرة إلى سلاح بيد العصابة المحصنة تستخدمه ضد إرادة الشعب وفي سبيل تعطيل مصالح الناس ناهيك عن الاستمرار في ممارسة كل السياسات التي أتت الثورة من أجل إزالتها، فلا القتل توقف ولا الخدمات الضرورية تحسنت ولا الأموال العامة أستعيدت أو توقف العبث بها، ولا الموارد الوطنية يجرى استخدامها حيث يجب أن تستخدم، بينما تفرغ من ظفروا بالحصانة لتعطيل كل عمل يحاول بعض الوزراء الصادقون العمل به، وبالتالي تحول الموضوع من نقل السلطة على طريق بناء الدولة إلى البحث عن وسائل لتحقيق نقل السلطة فقط، وهو ما لم يتحقق حتى اللحظة.
لا يمكن التقليل من الجهود التي يبذلها الرئيس الانتقالي والعديد من الوزراء في حكومة الوفاق الوطني وبعض القادة العسكريين، كما لا يمكن تجاهل الجهد الذي يبذله مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة السيد جمال بن عمر، من أجل تنفيذ نص المبادرة لكن كما يعلم الجميع أن خطوة صغيرة مثل استبدال قائد لواء من المتورطين بجرائم القتل والنهب والسلب قد استدعى أسابيع ولم ينفذ إلا بعد مجيء مندوب الأمم المتحدة، وهذا التنفيذ ما يزال جزئيا، فما بالنا ونحن نتحدث عن بناء منظومة الدولة وعقد مؤتمر للحوار الوطني لحل قضايا كل واحدة منها تمثل معضلة كبرى بدئا بالوضع في الجنوب، وليس انتهاءً بإعادة صياغة دستور يكفل قيام دولة المواطنة، بدلا من دولة الأسرة والعائلة والعشيرة والعصابة، التي عطلت ثلث قرن من حياة اليمنيين.
لقد اعتقد رعاة المبادرة والمبادرون، بأن البلد ستنتقل إلى الحالة الطبيعية بمجرد انتخاب الرئيس الجديد، ولم يكونوا يعلمون أن من قيل أن اليمنيين قد خلعوه، يتهيأ لخلع كل اليمنيين ليبقى هو وأفراد أسرته يستمتعون بخيرات المستقبل بعد أن شفطوا كل ما كان لدى اليمن من خيرات في الماضي.
لكي لا تتحول المبادرة الخليجية إلى وبال على اليمنيين، إن لم تكن قد أصبحت كذلك، ينبغي التشديد على إزاحة المحصنين من أي موقع لصناهة القرار السياسي، أو العسكري، أو الأمني أو الاقتصادي لأنه لا يمكن لفرد ما يقر بأنه قد أجرم وحصل على حصانة من المساءلة على جرائمه، أن يستمر في الإمساك بالأدوات التي استخدمها في ارتكاب الجريمة، لمواصلة ارتكاب جرائم جديدة يأتي بعد سنوات ليطلب حصانة جديدة عليها.
على المبادرين الإقليميين والرعاة الدوليين، والمنظمة الأممية الذين صاروا جميعا اليوم شركاء لليمنيين في عملية الانتقال، عليهم أن يكشفوا الحقائق عمن يتسبب في تعطيل تنفيذ بنود المبادرة، وإعداد حزمة من الإجراءات لعل في مقدمتها إلغاء قانون الحصانة، والإ فإن المبادرة ستتحول من وسيلة لوقف الاندفاع نحو الحرب إلى أداة تفجير قد ينجم عنها دمارا هائلا لا يمكن السيطرة على عواقبه.
والله من وراء القصد.
برقيات:
* إصرار د عبد الوهاب الديلمي على أن الجنوبيين كانوا عبيدا قبل الحرب، وأنهم لم يصيروا أحرارا إلا بعدها يؤكد إصراره على إن الحرب كانت فتحا إسلاميا، لتحرير عبيد الجنوب، وهذا الحديث هو أسوأ من الفتوى بعد 18 عاما على الحرب الظالمة.
* كنا نعتقد ان زملاء د الديلمي في التجمع قد أقنعوه بأن الحرب كانت خطيئة، لكن يبدو أن 18 سنة من آلام الجنوبيين لم تقنع الشيخ الدكتور بخطأ ووحشية وإجرامية الحرب،. . . .كان صمتك أفضل من حديثك أيها الشيخ الفاضل.
* قال الشاعر العربي عمر أبو ريشة:
أمَّتي هل لك بين الأممِ منبرٌ للسيف أو للقلمِ
أتلقاك وطرفي مطرقٌ خجلاً من أمسك المنصرمِ
ويكاد الدمع يهمي عابثاً ببقايا كبرياء الألمِ
أين دنياك التي أوحت إلى وتري كل يتيم النغمِ؟
كم تخطَّيتُ على أصدائهِ ملعب العزِّ ومغنى الشممِ
وتهاديت كأنِّي ساحبٌ مئزري فوق جباه الأنجمِ