توزيع (الملازم) خدمة لمعرفة الحقيقة ولكن: في سياق الحديث عن موقف الحوثية من كبار الصحابة يلفت النظر ذلك الانشغال المتمثّل في قيام نشطاء الحوثية بعملية التوزيع المكثّف لملازم المؤسس الراحل حسين الحوثي، على أوسع نطاق، والتبشير بأفكاره من خلالها.
والواقع أنّ الحوثيين يكونون بهذا قد قدّموا خدمة مقدّرة لمعرفة الحقيقة حول فكر الرجل، وأسهموا في الإجابة على بعض تلك التساؤلات التي لطالما نفاها بعضهم بشدّة. ويبقى السؤال المحيّر حقّاً: هل يدرك الحوثيون أنهم بهذا يسهمون – من الجانب الآخر- في تأكيد بعض التهم التي كانت ترد من بعض خصومهم التقليديين، فيسارعون إلى نفيها واتهام غيرهم باختلاقها أو تحريفها أو...أو... إلخ،
بتعبير آخر: هل غاب عن بال الحوثيين عواقب ذلك التوزيع ومآلاته على حركتهم، قبل الآخرين، وذلك حين يطّلع من تصل يده إليها على إساءات بالجملة لعظماء هذه الأمة وأعلامها الكبار، وفي مقدّمتهم الخلفاء الراشدون الثلاثة؟! وليس أدل على ذلك من أنّ بعض الحوثيين يضطربون جدّاً أمام حقيقة تلك النصوص ودلالاتها، فعلى حين يجرؤ عدد محدود منهم بالمجاهرة أمام العامة بآرائهم المستفزة تلك المنسوبة إلى المؤسس الراحل؛ فإن أكثرهم متذبذبون إزاءها، إذ يردّ بعضهم بأنّها (مزوّرة محرّفة) -مثلاً- لا تثبت نسبتها إلى حسين الحوثي، فكأنهم يسعون لإيهامنا بأن تاريخ الحركة وزمن حديث المؤسس، ومرحلة كتابة الملازم يعود إلى قرون خلت، انطمست فيها معالم الحركة وتراثها، فتداخل السليم فيها بالدخيل، بسبب كتابة المنتصر لتاريخها!! وليس إلى بضع سنوات، أو أن حديث المؤسس الراحل لا يتجاوز العقد من الزمن على أبلغ تقدير..
وجميعنا شهد هذه المرحلة القريبة جدّاً وعايشها، والباحثون – قبل غيرهم- يدركون ملابساتها وبعض خفاياها، أو كأن الذي يعمل على توزيعها بتلك الكثافة والحماسة اليوم هم أعداء الحركة وخصومها (المذهبيون) أو السياسيون وليسوا ناشطين حوثيين من عمق الحركة، بعضهم معروف بغلوّه وشَغَبه على كل من يختلف مع الحركة في قليل أو كثير، وحين يصرخ بعضهم: إن ( السيّد حسين) لايريد تلك المعاني ( السيئة) التي فُهمت بها، فكأنّهم يخاطبون قوماً غير العرب..
أمّا – وهذا هو الأغرب- حين يرفعون عقيرتهم بأن خصومهم يسفّون في خلافهم مع الحركة ومؤسسها وبعض رموزها، حيث صار شغلهم الشاغل هو تتبع مزالقهم والرد عليهم وكشف أخطائهم الفكرية والسياسية العملية على أوسع نطاق، فهم بهذا ينسون أو يتناسون أنّه لولا غلوّهم ومبالغاتهم في (تقديس) مؤسس الحركة وأحاديثه، لما حدثت ردّة الفعل تلك، ومن هذا القبيل ذلك الاحتفاء بملازمه، وكأنها نصوص ( مقدّسة)، وعلى نحو لايقدم عليه إلا غلاة الأتباع والمريدين من أي طائفة في مختلف العصور والأقطار– بما فيها خصوم الحوثية التقليديون-، ولهذا نراهم يعمدون إلى توزيعها على ذلك النحو؛ مما أحدث ردود فعل متباينة، وكأنهم كانوا يتوقّعون أن يصفِّق لهم الجميع، أو أن ينضمّوا إلى (جوقة) المعجبين (المقدّسين)!
هذا مع أن صاحب هذه الدراسة يزعم بأن بعض تلك الردود ليست جميعاً من قبيل ردّة فعل التي قد تأتي جامحة منافية للموضوعية أحياناً، أو منفعلة سلباً بعامل ردّ الفعل وحده حيناً آخر، بل بعضها تفاعل علمي موضوعي منضبط بمنهج البحث العلمي وأسسه وأخلاقه، ولذلك فقد تفاعل معها من عُرِف لدى المنصفين منهم – قبل غيرهم- باعتداله ومنهجيته القويمة وحرصه القولي والعملي على وحدة الأمة بمختلف أطيافها الفكرية والسياسية، ومواجهته للمسلك الطائفي الذي انزلق إليه بعض خصوم الحوثيين المسكونين بالطائفية و(فوبيا) الآخر (الشيعي)..
ويجاهد صاحب هذه الدراسة نفسه ليظل واحداً من هؤلاء، ولعلّ من دلائل ذلك الأساسية المبكّرة رفضه– بعد بحث متأنٍ- في بعض ما كتب أو تحدّث قبل هذه الدراسة( ولا سيما في كتابه الظاهرة الحوثية: الحوثيون...) مجاراة القول بتحوّل المؤسس الراحل حسين بدر الدين الحوثي من الزيدية نحو اعتناق منظومة المذهب الاثني عشري الجعفري الإمامي، مع تأكيده أن التقاء الرجل معهم في مسألتين كليتين هما النيل من كبار الصحابة ورفض خلافة الراشدين قبل علي بن أبي طالب –رضي الله عنهم أجمعين- لا يؤذن بذلك الاستنتاج، حيث إن ذلك القول معروف لدى فرقة تاريخية تمثِّل واحدة من فِرق المذهب الزيدي، وتقترب في جوهرها من الفكر السياسي الاثني عشري، من حيث الموقف السلبي من الصحابة وفي مقدّمتهم الخلفاء الراشدون الثلاثة، وتلكم هي فرقة الجارودية (نسبة إلى أبي الجارود زياد بن أبي زياد، وقال بعضهم: إنه زياد بن المنذر العبدي، ت:150ه، وقيل 160ه)، وترى "أن النبي-r- نصّ على علي بن أبي طالب بالوصف لا بالتسمية، فكان هو الإمام من بعده، وأن الناس ضلّوا وكفروا بتركهم الاقتداء به بعد الرسول-r- ثم الحسن من بعد علي هو الإمام، ثم الحسين هو الإمام من بعد الحسن"(1).
والحق أن هذا الموقف يكاد يتطابق – كما سترى- مع موقف الحركة الحوثية من الصحابة، وفي مقدّمتهم مؤسس الحركة الراحل، بوصفهم جميعاً ينتمون إلى الإطار الكليّ لهذه الفرقة (الجارودية)، وإن نفوا ذلك عن أنفسهم، أو آثروا عدم الانجرار إلى النقاش في ذلك، فالعبرة بالمسلك العملي لا بالنفي النظري، كما وأن ذلك لاينفي عدم قيام جماعة من الزيدية الجارودية أو غير الجارودية نحو التحوّل إلى الإمامية الجعفرية لدوافع مختلفة، ربما كان من بينها – بالنسبة للجارودية- سهولة ذلك التحوّل على خلفية ذلك التقارب الفكري في المسالتين الكليتين المشار إليهما آنفاً.
وتؤكّد بعض المعطيات أن أولى حركة هذا التحوّل بدأت في حياة المؤسس الراحل حسين بدر الدّين الحوثي، حيث كان الرجل من أوائل المحذّرين من هذا المسلك، كما في درسه عن الزيدية والإمامية(2) – على سبيل المثال-، هذا مع التأكيد بأن الحسابات السياسية تفوق أحياناً في تأثيرها الأيديولوجيا التربوية، وأن أمر ذلك التحوّل والمجاهرة به أحياناً ظهر بعد أن قضى مؤسس الحركة في نهاية الجولة الأولى (سبتمبر/ أيلول 2004م)، على نحو فاق ماكان قبل ذلك بكثير(3).
ومن جانب آخر فإن ممارسات الحوثيين العنيفة على الأرض، سواء في (محافظة) صعدة، تلك التي باتوا يسيطرون عليها اليوم سيطرة مغلقة شبه كاملة، بعيداً عن سياسة الدولة المركزية وتوجّهاتها في ظل القيادة الجديدة برئاسة الرئيس عبد ربّه منصور هادي وحكومة الوفاق الوطني برئاسة الأستاذ محمّد سالم باسندوة، أم في المناطق الأخرى التي توسّعوا إليها، بعد أن كانوا يردّدون في الجولات الأولى من الحرب بأنهم مجرّد جماعة ذات مطالب حقوقية تدافع عن نفسها في وجه من يبغي محوها والقضاء عليها؛ يدفع كثيرين للتصدّي لها كل بأسلوبه، بل خسر الحوثيون كثيراً ممن كان يتعاطف معهم في السابق، أو أنّه كان يأخذ على الحكومة السابقة عنفها المفرط تجاههم، والاقتصار على معالجتها للمشكلة عسكرياً وأمنياً.
الحوثي لا يحابي في موقفه ولكن:
سيكتشف القارئ الكريم من خلال نصوص حسين الحوثي أقوالاً غاية في العنف والغلظة وسوء العبارة تجاه رموز الأمة وأعلامها الكبار، أعني الخلفاء الراشدين الثلاثة ( أبو بكر الصدّيق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان) –رضي الله عنهم- وبالأخص الأولين منهم، وهو ما يجيب على ذلك التساؤل عن مدى حقيقة صلة ذلك بحسين الحوثي من جانب، ومدى سلامة مثل هذا المسلك من حيث استفزاز أغلبية الأمة من السنّة وجلب سخطهم على من يسيء إليهم من جانب آخر.
وإذا تأكّدنا بما لا مجال فيه للشك أو التشكيك من نسبة هذه الأقوال إلى حسين الحوثي، بوصف ذلك مقتبساً بمنهجية علمية، وموضوعية صارمة، من نصوصه الموسومة ب( ملازم السيّد حسين بدر الدِّين الحوثي)، مع إضافة نص من خطبة الغدير الذي يمثّل محل اتفاق وقبول لدى كل قيادات وأفراد الحوثية، وذلك بعيداً عن الاجتزاء المخل، أو الاختزال غير الأمين، أو التصرّف المشبوه، إذا تأكّدنا من ذلك فإن حسين الحوثي يقطع كل نزاع في ذلك، ويرد على هؤلاء وأولئك، فلا يتردّد في أن يعلن ما يعتقده الحق في أولئك الأعلام بما فيها من إساءة واضحة، وموقف عدائي سافر، دونما مواربة أو مجاملة، وحجته في ذلك أنّه لا ينطلق في موقفه من منطلق مذهبي أو طائفي، بل من حرص على وحدة الأمة وجمع صفوفها، بعيداً عن المجاملة والنفاق، ولهذا نراه يناقش الأمر بجرأة متناهية تصل إلى حد التصريح بأن أبا بكر وعمر – ناهيك عن من جاء بعدهم- ضربوا الأمة كلها وضربوا الدين فكيف يجاملهم؟
وفي هذا يقول: " ...وعندما نقول للآخرين أبو بكر وعمر، سيأتي من داخلنا من يقول: هذا منطق مثير متعصّب، قد يثير الآخرين علينا، قد، قد، إلخ. نقول الذي يثيرنا الآن ويجب أن يثيرنا هو أمريكا وإسرائيل أليس كذلك ...أو ليس الدّين ضائعاً في الواقع، ضائع في الدول العربية والإسلامية بكلّها، فعندما نتحدث عن أبي بكر وعمر، عندما نتحدث عن عقائد الآخرين، نتحدث عن الإمام علي من جديد...لأن الوضعية هذه أصبحت وضعية خطيرة لم يعد مقبولاً أن تجامل أحداً فيها...أمّا أن يقول لي: أنت لماذا تتحدث هكذا؟ قد يقول الآخرون كذا، أو قد يزعلوا، أو قد يتألموا، أو أو ...الخ نقول هذه لم يعد وقتها الآن، لم يعد وقتها أبداً، كلنا سنة وشيعة أصبحنا مستضعفين، فلماذا تقول لي لا أتحدث في أبي بكر وعمر، من أجل لا يزعل السنّي الآخر؟ أنا لا أريد ان أزعله، أنا لا أريد أن أغضبه، من منطلق أنني ابن مذهب آخر، وهو ابن مذهب آخر، ليس لهذا، نعالج القضية باعتبارنا جميعاً مسلمين، أن هذه هي مشكلة من مشاكلنا، أنا لا أهاجم الآخر باعتباره سنياً وأنني زيدي. أقول هكذا قُدِّم الإسلام على أيدي بني أمية، وعلى أيدي أبي بكر وعمر، ومن بعدهم، قُدِّم على هذا النحو، الذي ضرب الأمة كلّها، هل أجامل؟ هل أجامل من كان وراء ضرب الأمة كلها، وضرب الدين وغيابه[ هكذا] من الساحة؟"(4).
نعم كان حسين الحوثي صريحاً بما لا مزيد عليه، ولكنها صراحة إلى الفجاجة أقرب، إذ رغم ما فيها من إجابة شافية على كل من لايزال يتردّد في نسبة تلك الأقوال إلى مؤسس الحركة الحوثية؛ فإنها تكشف عن فكر الرجل (الطائفي) الضيّق، وتتعارض مع دعوته للوحدة الإسلامية، بل هي على النقيض من ذلك، إذ تعمل على طعن الوحدة الإسلامية في مقتل، خاصة وأن الرجل يقدّم نفسه ناطقاً باسمه الأمة، وداعية مؤسّساً - من وجهة نظره – إلى بناء أسسها (السليمة)، على حين أنّه يثلب كبار رموز أغلبيتها على ذلك النحو.
تُرى ما الذي سيتركه ذلك من أثر سلبي في نفوس الناشئة الذين يطّلعون على مثل هذا الهراء، وهم لطالما تعلّموا في مناهج التربية الإسلامية العامة وعبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية العديدة وجوب توقير كبار الصحابة وضرورة محبتهم وموالاتهم، كما وأنّهم قد تعلّموا كذلك أنهم معدودون ضمن العشرة المبشرين بالجنة، ولا بد أن شعوراً بالفخر والاعتزاز بمناقب أولئك الراشدين، وعمر بن الخطاب في مقدّمتهم، قد ساور وجدانهم، أوليس قد تعلّموا في مقرّرات السيرة والتاريخ وعبر خطب المساجد والمواعظ وما يبث أو ينشر في وسائل الإعلام أن عمر هو الخليفة الموصوف بالفاروق، ذاك الذي فرض الولاء الصادق لحكمه بمسلكه الفذ بين رعيته، كما أخرس في الوقت ذاته بعدله وحزمه وتواضعه خصومه المتربصين بحكمه، ولم يجد بعض كبار المستشرقين المشتهرين بتنقيبهم عن الأخطاء والمزالق – أو هكذا يظنون- لأعلام الإسلام الكبار، كما بعض الطاعنين في مسيرة التاريخ الإسلامي من غير المسلمين غير الانحناء أمام شخصية عمر إكباراً، لا سيما حين وصلوا إلى محطة الحكم في تاريخه، وحين لم يجدوا إمكاناً للتشكيك في مسلكه الفذ العادل قالوا: "تلك فلتة من فلتات التاريخ لن تتكرر ثانية في حاضر المسلمين ولا مستقبلهم"!!
أليس حاصل مسلك الحوثي هذا حيال شخصية نادرة فذّة كعمر درج المسلمون– في عمومهم- كباراً وصغاراً، عبر تاريخهم الطويل على تقديرها حق قدرها، والاعتزاز بها أيّما اعتزاز، والمفاخرة بسيرتها على العالمين؛ أن يخلق مزيداً من الاضطراب في تفكير الناشئة واتجاهاتهم المعرفية والوجدانية والسلوكية، حيث قد يقود مسلك كهذا إلى إخراج جيل يعاني من وضع انشطار نفسي داخلي عميق، مهما أظهر بعضهم قناعة جديدة منفصلة عن الماضي تماماً، أو تحوّلاً (معرفياً) كليّاً قائماً على رؤية أو استبصار، لكن بعضهم - في حقيقة الأمر-يعانون من حقيقة ذلك الانشطار، إذ كيف كانوا ينظرون إلى – عَلَم- بحجم عمر بن الخطاب بتلك النظرة التي تواضع على تشكيلها في وعيهم ووجدانهم أغلبية الأمة قديماً وحديثاً، غير أنّه غدا – أو هكذا يُراد له- ذا شخصية أخرى، تنسف كل ما تعلّمته عن إدراك ووعي عبر ماضيها في التعلّم، كي تثبت ولاءها الجديد لمنظومة من المعرفة الغازية الجديدة، أو ليس ذلك هو الانشطار النفسي بعينه؟ (يتبع حلقات قادمة).
(1) أبو الحسن علي ابن إسماعيل الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج1، ص133 (تحقيق: محي الدين عبد الحميد)،1405ه-1985م،الطبعة الثانية،د،م:د.ن، وانظر: الشهرستاني، ج1، ص157-158، مصدر سابق.
(2) راجع: حسين الحوثي، شريط مسجّل( كاسيت)، الزيدية والإمامية (1).
(3) راجع: موقع مركز الأبحاث العقائدية التابع لآية الله علي السيستاني http://www.aqaed.info/mostabser/media. نافذة (المستبصرون) .
(4) ملزمة الوحدة الإيمانية،ص 4-5، د.ت، أخرجها يحيى قاسم أبو عواضة .