افتخار بالنسب الهاشمي واحتقار لكبار الصحابة وذريّاتهم:
يذهب حسين الحوثي في زهوه بالانتساب إلى البطنين ( ذريّة الحسن والحسين) إلى أبعد مدى بما يجعله ينعكس استعلاء متطرّفاً على الآخرين، في مقابل احتقار مسرف في حق أبي بكر وعمر وذريّاتهما، ويخلط بينهما وبين من هو دونهما، ومن ذلك قوله في سياق تفسيره لدعاء ( وبارك على محمّد وعلى آل محمّد) :" تأتي الدولة العباسية وتسير على هذا النحو، تسير في محاربة آل محمّد، وتجد ماذا ؟ أليس الآن أصبح آل محمّد أكثر انتشاراً في الدنيا ؟ أين هم ذريّة عمر بن الخطّاب؟ أين ذريّة أبي بكر؟ أين ذريّة معاوية...؟" (1).
ولا يقف الأمر عن حدّ التفاخر بالانتماء إلى البطنين على من سواهم من خارج أهل البيت، بل يتجاوز ذلك إلى التفاخر حتى على بقية ذريّة الإمام علي – رضي الله عنه- من غير ابنته فاطمة الزهراء – رضي الله عنها- وهنا يقول:" بل تجد من العجيب أنّه حتى بقية أبناء الإمام عليّ من غير الزهراء، غير الحسن والحسين أيضاً ذريتهم قليلة جدّاً ونادرة جدّاً، ذريّة الحسن والحسين هم ملأوا الدنيا وأنسابهم معروفة مشهورة، يحفظها العلماء من شيعتهم ومن غير شيعتهم، في اليمن وفي إيران وفي العراق وفي الحجاز وفي مصر وفي أندنوسيا، وفي كل البلدان وبأعداد كبيرة" (2).
ومع اعتراف الحوثي بأن أغلبية الأمة تقدّر عمر بن الخطاب وتجلّه فإنّه يعود للتعريض به وبذريّته في تناقض لافت:" لماذا لم يتكاثر ذريّة عمر بن الخطاب لماذا؟ هل أنّ ذريّة عمر كان ممكن [ هكذا والصوب ممكناً] أن يتعرّضوا للقتل؟ لا بل كان ممكن [ هكذا والصوب ممكناً] أن يحظوا باحترام، لأن أكثر الأمة مرتبطة بعمر ، أليس كذلك؟ كان بالإمكان أن يحظى ابن بنت عمر باحترام كبير، لكن أين هم"؟(3)، ثمّ يمضي في استعراض ألقاب المنتسبين إلى البطنين في بعض البلدان الإسلامية، ما بين (سيّد) و(حبيب )و(شريف) عادّاً ذلك آية من الآيات الإلهية!!! مكرّراً تساؤله الاستنكاري المستخف بذريّة أبي بكر وعمر وعثمان؟ (4).
هل (البطنان) زيديون هادويون أو حوثيون (جاروديون) فقط؟
والسؤال الجوهري هنا: ألا يدرك حسين الحوثي ومن يتابعه في آرائه أن هذه الذريّة المنتمية إلى الحسن والحسين – عليهما رضوان الله ورحماته- ينتمي أكثرها إلى المذاهب السنيّة الشهيرة من شافعية وحنفية ومالكية وحنبلية، أي أنّهم من أتباع أبي بكر عمر وعثمان- رضي الله عنهم- الذين لايؤمنون بفلسفة الحكم العائلي على ذلك النحو الكسروي أو القيصري الذي يدعو إليه الحوثي ومن يشايع فكره، وإن تدثّر برداء إسلامي ( أهل البيت النبوي)؟ وبمعنى أكثر وضوحاً: هل يعترف الحوثي ومن يشايع فكرته هذه بأن حكماً إسلامياً سنيّاً يتولاه فرد من المنتسبين إلى السلالة الحسنية أو الحسينية يعدّ حكماً شرعياً كاملاً لا لبس فيه، ولا إشكال، بحيث يغدو واجب الطاعة عن رضى وقناعة، لا عن واقع مفروض، أو نظرية احتساب (مؤقتة)؟! أم أنّه يغدو اغتصاباً للحكم ما لم يؤمن بمنظومة الفكر السياسي الزيدي الهادوي (الجارودي)؟!!
إن من يستمع إلى حديث حسين الحوثي أو سواه ممن يؤمن بنظرية (البطنين) هذه يخيّل إليه أن جميع المنتمين إلى ذريتهما محصورون في الزيدية الهادوية أو الحوثية (الجارودية) فقط، لكن هاهوذا حسين – ويا للمفارقة- يقرّ ببدهية أنهم منتشرون في كل البلدان، وينتمون إلى كل المذاهب، وهذا ما يعني أنهم يخالفون فكره السياسي في الحكم بداهة، فما موقفه وشيعته منهم حال حكمهم؟ أم أنّهم – حسين وأتباعه- يجرّدون كل من خالفهم من النسب (الشريف) ويعدّونهم مجرّد منتحلين لذلك؟ المثير أن حسين يفترض في كل من ينتمي إلى البطنين من أهل السنّة – قبل غيرهم- أنّه إذا أراد أن يثبت أنّه مؤهل للانخراط في مشروع الحكم (السلالي) الذي يصفه بأنّه مذهب أهل البيت؛ فإن عليه أن يتخلّى عن سنيّته تحت أيّ عنوان، ليذوب في روح أهل البيت، وفق مذهب حسين وفهمه الذي يرفعه إلى مقام فهم رسول الله – ناهيك عن الإمام زيد وسواه- . ولأن حسين الحوثي يختلف مع الجميع بدءاً من الزيدية مروراً بالاثني عشرية والباطنية وانتهاء بالسنيّة و(الوهابية) فإنه يطالب هؤلاء جميعا: كل زيدي وجعفري وباطني وسنّي أن يتخلّوا عن رؤاهم وقناعاتهم ليتابعوا مذهب أهل البيت الذي تجلّى لحسين وحده، بما لامزيد عليه ولا تعقيب. كما أنّ على كل واحد من أهل السنّة - بوجه أخص- – شافعياً كان أم حنفياً أم مالكياً أم حنبلياً أم غير ذلك أن يثبت تخليّه عن مذهبه الخاص، بوصف ذلك شرط إثبات محبته وولائه الصادق لأهل البيت. أليس هذا خلاصة قوله التالي:" السنيّة ( يقصد أهل السنّة) أنفسهم هم يؤمنون بمحبة أهل البيت، ومن عقائدهم وجوب محبّة أهل البيت، لكن ماذا يقولون [ لكن من كان منهم متبعاً للسنّة] لاحظ كيف، فالشافعي منهم يريد من كان من أهل البيت على مذهبه، والحنفي منهم يريد من كان من أهل البيت على الذي يرى بأنّه صالح، أي من كان على ما هو عليه من المذهب، أليس كذلك؟ والمالكي كذلك والحنبلي كذلك والزيدي كذلك، والجعفري كذلك، والباطني كذلك، وكل طائفة على هذا التصنيف. التصنيف هذا هو ملغي أساساً لا قيمة له داخل تشريعات الإسلام بكلّها، هذه الروحية ملغية من أيام آدم، الروحية هذه ألغيت من أيام آدم، من أوّل أمر إلهي توجّه إلى آدم، أن أقول: لا بأس الذي يظهر لي منهم أنّه مؤمن سأحبّه، لكن انظر كيف ستطلع الفوارق، الذي يظهر للشافعي من هناك أليس هو غير الذي سيظهر لي؟ ألسنا في الأخير سنختلف؟ والمسألة هي أنّه يريد أن يربط الأمّة بكلّها بأهل البيت، فليؤمنوا بأن هناك وراثة للكتاب، بأن هنا العترة التي أمر بالتمسّك بهم مع القرآن، ودعُوا التصنيفات، فباقي المسألة هي على مَنْ؟ على الله، أليست على الله؟ مثلما فهمها الإمام الهادي، مثلما فهمها الإمام زيد، مثلما فهمها الرسول ( صلوات الله عليه وعلى آله)، الأمر الذي يجب أن نفهمه نحن أيضاً، وإلا فمعنى ذلك أننا لسنا واثقين بالله، عندما تقول كيف يأمر بمحبتهم، وفيهم كذا، فيهم كذا، ما أنت تستنكر على الله[ أي ألستَ تستنكر على الله]، الله أسجد الملائكة لآدم عندما قالوا {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}( البقرة من الآية: 30)، ألم يقل الملائكة هكذا؟ ليس كلامهم هذا بشيء عند الذي يصدر منا من الكلام" (5). أي أن أيّ مخالفة لهذا التوجّه في فهم المحبة لأهل البيت يعني وقوعاً في المخالفة والاعتراض على الله وحكمته وإرادته ومشيئته، كما وقعت الملائكة – حسب فهمه- في الاعتراض على الله. واستنكار الملائكة – حسب زعمه- إذا قورن باستنكارنا على حكم بشر يدّعي اصطفاء الله له من بيننا ليحكمنا لا لسبب إلا انّه ينتمي إلى (البطنين) ليس بشيء، بوصف ذلك اغتصاباً للحكم، واعتراضاً على حكم الله ورسوله القاضيين بأن يكون الحكم في أهل البيت بدءاً من علي بن أبي طالب مروراً بذريته من الحسن والحسين فقط إلى أن تقوم الساعة، ولو أن الخلفاء الثلاثة خضعوا لإرادة الله فتنازلوا لعليّ لما حدث شيء من ذلك البلاء والفتن. أليس هذا حاصل قوله:" إذا قد صح لي فقط بأن الله يريد مني أن أتبع أهل البيت، ويريد من الأمة جميعاً أن تتمسك بأهل البيت، إذاً فلنتمسّك بأهل البيت، ولو حصل التمسك بأهل البيت من أول يوم من بعدما مات الرسول ( صلوات الله عليه وعلى آله) لما تفرّقت الأمة أبداً، ولما اختلفت في الدّين أبداً، فما نشأت هذه التساؤلات إلا من بعد"(6).
وإذا كان من أبجديات التربية الإسلامية التي يسعى قادة الإصلاح الاجتماعي وروّاد التغيير الشامل لتنشئة الجيل عليها تحقيق مبادئ المساواة والعدالة والحرية وتكافؤ الفرص بين جميع أفراد الأمة، وقد تجسّدت في حياة النبي – صلى الله عليه وآله وسلّم- بما لا مزيد عليه من خلال تعامله مع أصحابه ومؤاخاته بين أعراقهم وأجناسهم المتنوعة ( أبو بكر سيّدنا؛ فإن حديثاً تمييزياً كهذا الذي يسعى الحوثي إلى تكريسه بين أفراد المجتمع اليمني اليوم يتعارض مع هذه المبادئ تماماً، ويعود بنا إلى ما قبل بزوغ عهد (إقرأ)، وتقاليد الجاهلية الأولى، تلك التي جاء الإسلام فقضى عليها، إلا من بقايا رواسب لاتزال عالقة في ذهنيات بعض المنتمين إلى هذا الدّين ونفسياتهم، وهو مصداق حديث النبي – صلى الله عليه وآله وسلّم- :" إن الله- عزّ وجل- قد أذهب عنكم عُبِيّة الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي أنتم بنوا آدم وآدم من تراب"(7) ...." وقوله- عليه الصلاة والسلام-:" أربع في أمتي من أمر الجاهلية لايتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة "(8).
وإذا قدّر لفكر كهذا أن ينتشر فإن معنى ذلك الاستمرار في وضع التخلف الاجتماعي، حيث تقسيم المجتمع إلى طبقات عليا متفوقة ودونية مسحوقة، وذلك على أساس عرقي سلالي، وادعاء باجتباء إلهي لعائلة بعينها، وليس على أساس سلوكي أو خلقي، أو تأهيل معرفي ونحو ذلك! وفي هذه الحال- لاقدّر الله- ستتحول كل جهود المدرسة والجامعة وما في حكمهما من مؤسسات التربية الهادفة إلى إذابة الفوارق وإلغاء التمايز بين الناشئة إلى ضرب من العبث، وستظل – من ثمّ- حالة الاحتراب الداخلي، وإدامة وضع الاحتقان والتربص بين أفراد المجتمع، وبدلاً من البناء والتقدّم والإنجاز إذا بما نستمر في مواجهة حالة التردي الشامل، كحلقة مفرغة!
الحوثي ونظرية ( الأنا):
وبدلاً من أن يتعمّق الحوثي في فهم الآية الكريمة التي أوردها في قصة آدم مع الملائكة ودلالاتها التربوية البعيدة؛ راح يقتصر قي حديثه على ما يظنه يلبّي حاجته في أن أي اعتراض على حكم بشر يدّعون الاصطفاء الإلهي لهم بسبب عنصرهم وسلالتهم يعني اعتراضاً على حكم الله وإرادته، وجَهِل أو تجاهل بأن سياق الآية ذاتها يتحدث عن أمر أكثر دلالة ومغزى، وهو أن ربّ العزة والجلال قد أمر الملائكة بالسجود لآدم فاعترض إبليس اعتراض رفض واستكبار، وامتنع امتناع استعلاء وتأبٍَ فكفر{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} ( البقرة: 34)، أي من منطلق عنصري سلالي، عبّر عنه الله تع إلى في آية أخرى على لسان إبليس بقوله:{ أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} ( ص: 76)، ولا مقارنة بين هذا الموقف وموقف تساؤل الملائكة عن سرّ خلق الله لكائن سواهم أناط به الاستخلاف في الأرض، على حين أنّهم على ذلك النحو من الامتثال والتعبّد والطهر، وهو تساؤل المستفهم الباحث عن الحق، حيث لم يستوجب الأمر أكثر من توجيههم عبر أمر الله –تعالى- لآدم بإخبارهم بأسمائهم، وبذلك تبيّن لهم سر ذلك الاستخلاف، فأذعنوا واستغفروا وأنابوا من فورهم{ قالوا سبحانك لاعلم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} (البقرة:32)، على خلاف اعتراض إبليس الذي استوجب سخط الله عليه ولعنته الأبدية الخالدة إلى يوم الدين، وبذلك بدأت الخطيئة، وكانت الفتنة والابتلاء في الخليقة جميعاً إلى يوم يبعثون{ قال فاخرج منها فإنك رجيم. وإن عليك لعنتي إلى يوم الدّين. قال ربّ فأنظرني إلى يوم يبعثون. قال فإنك من المنظرين. إلى يوم الوقت المعلوم. قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين. قال فالحقُّ والحقَّ أقول . لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} ( ص : 77-85) .
الحق أن أيّ محاولة للتخلّص من لوازم القول بالاصطفاء الإلهي بسبب العنصر السلالي الذي يتضمن الإساءة لكبار رموز الأمة- وفي مقدّمتهم الخلفاء الثلاثة- كونهم – عند القائلين بذلك- أول من لم يراع ذلك الاصطفاء؛ ليس بأكثر من تلبيس إبليسي جرّ القائلين به إليه الزهو في الانتساب إلى (البطنين)، مع أن أساسه قائم على منطق شيطاني ( أنا خير منه)، ومن ثمّ فقد أنساهم ذلك التفاخر بالأصل النسبي لوازمه وتبعاته، ونحن هنا نذكّرهم بأن أي محاولة (استهلاكية) للتخلّص من تبعات ذلك غير مقنعة ولا مفيدة، إذ إننا لا نزال نتذكّر واقعهم في السياق نفسه منذ التاريخ البعيد والمتوسّط والقريب، وهو أقوى جواب على ذلك!! مالم يراجعوا ذلك بمواقف نظرية علمية صريحة منضبطة، مشفوعة بمواقف عملية متواترة رافضة لأيّ اعتقاد بتميّز أو اصطفاء لسلالتهم على بقية الخلق وجميع أبناء آدم، وذلك هو وحده هو منطق الإسلام الصحيح، ولغة العقل، وواقع العصر.
ولنا الآن أن نتصور جيلاً ينشأ على مبادئ كهذه تقوم على فكرة التمايز والاصطفاء وإعلاء الذات إلى الحدّ الذي يلغي الآخر: كيف سيبني واقعه – ناهيك عن مستقبله- مادام مسكوناً بالتعالي بنسبه، مفتخراً بعائلته وقبيلته، متكئاً على مجده الغابر، وأسطورة (الحق الإلهي) الموهوم، ولذلك سيتكرّس واقع التخلف أكثر، وتمتد حالة الفساد السياسي والاجتماعي إلى كل مفاصل الحياة، وعلى حين يتقدم الآخر خطوات كل يوم، نتأخر أمتاراً كل ساعة، إذا ما ساد نمط في التفكير كهذا ! (يتبع).
(1) ملزمة معنى الصلاة على محمّد وآله ، ص 6، د.ت، أخرجها يحيى قاسم أبو عواضة.
(2) المرجع السابق، ص 6.
(3) المرجع نفسه، ص 7.
(4)نفسه، ص 7.
(5) نفسه، ص 11.
(6) نفسه، ص 11
(7)أخرجه أبو داوود والترمذي عن أبي هريرة.
(8) أخرجه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري.
- أستاذ أصول التربية الإسلامية وفلسفتها
كليّة التربية- جامعة صنعاء