حكاية يوم الغدير التي يرويها الشيعة (بمختلف فرقهم) منذ القدم وحتى اليوم, تحاول اجتزاء الإسلام والإفتئات عليه, وانتزاعه من سياقه الطبيعي الذي أراده الله له, كرسالة ودين عالمي لكل الأمم, يتخطى حدود الزمان والمكان والجنس واللغة واللون والعرق, لتضعه من ثَم في سياق مختلف تماماً, بوصفه دين عائلي أسري مقصور على آل بيت النبي, على اعتبار أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم ورّث هذا الدين لعائلته حصرياً, وخصهم بالإمامة, فصاروا أوصياء عليه, وغدوا المعنيون به دون سواهم, والأحق بتفسيره وتقديمه للناس بالطريقة التي تحلوا لهم, وهي الطريقة التي تضعهم فوق البشر, وتُنصّبهم سادة عليهم, وتجعل من الدين نفسه مطيّة لهم لتحقيق مصالحهم.
وإذا كان من حق الناس إبتداءً, الاحتفال بما يعتقدونه مقدساً عندهم, على اعتبار أن الاسلام لم يحظر عليهم, من حيث المبدأ, حرية الاعتقاد والتفكير, كونهم مختارين ومسائلين عن اختيارهم (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره), إلاّ أن الاسلام حرص مع ذلك على عدم إنحراف الناس صوب تقديس الأشخاص والمناسبات حتى لا تغدوا مع الوقت دين يُعبد من دون الله. ومنذ بزوغه, تحاشى الاسلام محورة الدين والرسالة الخالدة حول الأشخاص, وإن كان شخص النبي نفسه (قل إنما أنا بشر مثلكم)... (وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل). وقد حدد القرآن الكريم بدقة الدور المناط بالرسول العظيم محمد صلى الله عليه وسلم فقال (ما كان محمدُ أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين). وتأسيساً عليه, فوظيفة النبي هنا منوطة فقط بتبليغ الرسالة وختم النبؤة, وماعدا ذلك مما يتعلق بالذرية والنسل ووراثة النسب لا شأن له به , فكيف تسنى للبعض أن ينسبوا أنفسهم للنبي, ويدّعوا بأنهم بنوه وورثته, وقد قرر القرآن الكريم بالنص القطعي أن النبي العظيم ما كان أباً لأحد؟! والأولى لهؤلاء, الذين يزعمون صلتهم برسول الله كأبناء له- مع علمهم بأن النبي لا ذرية له- أن ينسبوا أنفسهم لآبائهم الحقيقيين كما أمرهم الله تع إلى بذلك في كتابه الكريم, فقال عز وجل (أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله). وبالتالي, ليس من حق أحد, لا شرعاً ولا عرفاً, الانتساب إلى خارج دائرته الأسرية, وإلاّ كان زيد أبن محمد, وسلمان من آل البيت, وهو مالم يقل به أحد إلاّ من قبيل المجاز, ومن قبيل التبجيل والاحترام, وإعلاء شأن هذا أو ذاك لا غير.
يؤمن جمهور أهل السنة, وهم غالبية المسلمين اليوم, بما يفوق المليار مسلم, بالإضافة إلى المنصفين من المستشرقين الغربيين وغيرهم, أن الإسلام رسالة عالمية لا عائلية. جاء إلى البشر كافة, ولم يأت لطائفة من الناس. كما لم يخص الله تع إلى سلالة بشرية بعينها بوراثة هذا الدين والتحدث باسمه والوصاية عليه, لا في عهد النبؤة ولا بعدها. وحتى المسيحية, وهي الديانة المؤسَسَة على مجموعة كتب مقدسة تحمل أسماء كاتبيها, مُرقس وبولس ويوحنا ولوقا وبرنابا, لم تتمحور, فيما بعد, حول تلك الشخصيات التي صاغت فكرة الدين المسيحي بتحريفاته, على الرغم من هالة القداسة التي أحاطت بهم باعتبارهم رسل السيد المسيح. ولم تحمل تلك الأناجيل المقدسة إرثاً عائلياً لأحد, أو تمييزاً لجماعة عن غيرها بما يكسبها أحقية إدعاء تمثيل المسيحية أو وراثتها كحق مكتسب, وهو الدين المحصور أصلاً في بني إسرائيل, فالمسيح عليه السلام اُرسل بالأساس إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل كما قال. وإذا كان اليهود سبقو العالم إلى نظرية الإصطفاء, وترويج دعوى شعب الله المختار, فإن المسيحية تنزهت من مثل تلك الأقاويل, فيما كان الإسلام أكثر تنزهاً وتطهراً من دعاوى الجاهلية الأولى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)... (لافضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى). لكن المثير للدهشة, أن رسالة الإسلام العالمية, التي تخطت قيم الأرض لتعلي من قيم السماء, يأتي اليوم من يحاول تكييفها وتفصيلها على مقاسه, مدعياً أخذ تفويض إلهي بذلك!! وأن الرسالة السماوية ميزته وفضلته, لقربه من صاحب الرسالة. تلك فقط هي مؤهلات التكريم الرباني التي حظي بها هؤلاء عن غيرهم, ورفعتهم مكاناً عليا فوق البشر, إنه النسب ولا شيء غيره. أي أن الله عز وجل تقدست أسماؤه وتنزهت صفاته يحابي بعض البشر على حساب البعض الآخر, ويتخذ ميزان النسب والحسب معياراً لتقديم الناس أو تأخيرهم!! تع إلى الله عن ذلك علواً كبيرا. ببساطة شديدة, يحاول هؤلاء بسذاجة إقناعنا بأن الله تع إلى إنما أرسل رسوله(محمد) وأنزل كتابه العزيز لغاية واحدة فقط هي إعلاء شأن بني هاشم, وتسييدهم على الناس, وحكمهم بالحق الإلهي إلى أبد الآبدين. تلك فقط رسالة الإسلام التي جاء بها محمد أبن عبدالله. وكأنه جاء ليؤسس ملك أسري عائلي, ويجعل من بني هاشم بوابة عبور لفهم هذا الدين (أنا مدينة العلم وعلّي بابها), وسفينة نجاة للمسلمين كما يزعمون (مثل أهل بيتي كسفينة نوح...), بل ويجعلهم أوصياء على الدين والأمة ( إن لكل نبي وصي, ووصيي علّي أبن أبي طالب). إنه باختصار دين عائلي جاء لأجل بني هاشم وتمكينهم في الأرض, ولم يأتِ رحمة للعالمين كما قال تعالى( وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين).
إن نظرية الولاية التي صدع بها هؤلاء مؤخراً في احتفالهم بما أسموه عيد الغدير, ومحاولتهم إكسابها حقاً (إلهياً) خاصاً بهم, بوصفهم من سلالة الإمام علي صاحب الحق الشرعي بالإمامة والحكم, هذه النظرية عينها أسقطها علماء الزيدية أنفسهم غداة إعلان الوحدة اليمنية مطلع التسعينيات, حيث أصدروا بياناً موقع بأسماء كبار علمائهم قالوا فيه بسقوط شرط البطنين كأحد شروط تولي الحكم, مؤكدين في الوقت ذاته أن هذا الشرط لم يعد صالحاً للعصر الراهن, عصر الديمقراطية والتعددية السياسية والحزبية. كما أنهم لم يكتفوا بذلك, بل أصدورا بياناً آخر وضحوا فيه موقفهم بجلاء من أفكار مؤسس الحركة الحوثية حسين بدر الدين الحوثي, وحذروا فيه من ضلالات المذكور وأتباعه, وعدم الاغترار بأقواله وأفعاله التي لا تمت إلى أهل البيت والمذهب الزيدي بصلة, حد وصفهم.( أنظر كتاب الزهر والحجر/ عادل الأحمدي/ وثائق). وبالتالي, فنظرية الولاية والحق الإلهي للبيت الهاشمي سقطت في عقر دارها, ولم يعد لها أساس تتكئ عليه في أوساط المذهب الذي يزعم هؤلاء تمثيله, إلاّ إذا كانوا قد تخلوا عن مذهبهم واعتنقوا مذهباً غيره فهذا أمر آخر. وخلاصة القول, أن هؤلاء يُصّرون على تقديم رسالة الإسلام العالمية بوصفها دين عائلي يختص به بنو هاشم وحدهم, فلا مكان عندهم للشورى وحق الأمة في إختيار حكامها وعزلهم, ولا مكان عندهم للتداول السلمي للسلطة عبر العملية الديمقراطية, فهذا يناقض جوهر نظرية الولاية التي تجعل الناس عبيداً لأدعياء آل البيت, فيما آل البيت فكرة مُدّعاة أصلاً, لم يُشر إليها القرآن الكريم مطلقاً, ولا توجد آية واحدة في كتاب الله بلفظ آل البيت, ناهيك عن حق إلهي مزعوم لهؤلاء في حكم المسلمين, بل والعالم كله.