آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

الربيع العربي والصيغة الجديدة للمقاومة

أرادت إسرائيل أن تختبر الثورة المصرية وتحضر للانتخابات على جثث الفلسطينيين في وقت واحد، فكانت الصدمة أن المقامة الفلسطينية أصبح لديها ربيع عربي تستند إليه ومحور جديد قيد التشكل من القاهرة وتونس إلى تركيا، وبانتظار اكتمال قوس الكرامة العربية بانتصار الثورة السورية التي تقترب من انتصارها المحتوم وللمرة الأولى في تاريخ العرب المعاصر تلوح في الأفق تجربة فريدة تتوحد فيها الكرامة والتحرر من المستبد الداخلي بالكرامة الوطنية والتحرر من المحتل الخارجي.

لا مقايضة هنا بين مقاومة العدو الصهيوني والرضوخ لمسوخ الديكتاتورية والاستبداد ولم يعد للمناورات القديمة متسعاً، تلك المعزوفات التي أتقنها حكام المرحلة الثقيلة في الأربعين عاماً الماضية، حيث كان الضجيج صاخباً عن العدو الصهيوني فيما تباع الأرض العربية والمواقف في الغرف المغلقة، وفي نهاية المطاف هزم الطغاة شعوبهم بالاستبداد والفساد وتعثر التنمية، والهزيمة أمام العدو الصهيوني، واستواء المنطقة العربية كمنطقة فراغ يتهافت عليها الاحتلال المعلن والمضمر والمشاريع التوسعية والمصالح المرتبطة بها لأميركا وإيران وإسرائيل.

وحدها تركيا طرقت أبواب المنطقة العربية من زاوية المصالح المشتركة، وتقاطعت سياستها مع تطلعات العرب للحرية والاستقلال من طغاة الداخل وهي مهمة تاريخية كفيلة بتغيير معادلة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي والهيمنة الأميركية في المديين المتوسط والبعيد.

كانت ثورات الربيع العربي موجهة أساساً ضد المستبد الداخلي، ولا يعني ذلك أنها بلا موقف من الخارج الإقليمي والدولي ومن الصراع العربي الصهيوني، ولكنها لم تجعله بديلاً للموقف من طغاة الداخل، وقد وجدت هذه الثورات أساساً لإزاحة هذه المقايضة التي رسخت مفهومها أنظمة وحركات تدعي مقاومة العدو الخارجي فيما تتواطئ مع الديكتاتوريات المستبدة التي دمرت بلدانها وشعوبها وتتخذ من مقاومة العدو الصهيوني عنواناً خادعاً.

كانت صيغة المقاومة السائدة تقدم البلدان العربية باعتبارها دولاً لها خارج وليس لها داخل، وهي صيغة وظفت فيها القضية المركزية للعرب مع إسرائيل إعلامياً وسياسياً دون أن تحمل موقفاً حقيقياً من الاحتلال والهيمنة الأميركية الداعمة له.

والاهم من ذلك أن شروط النصر على العدو قد تم إهدارها على المستويين الداخلي والخارجي.

فالأنظمة المستبدة فشلت في أحداث تنمية بشرية واقتصادية ووظفت جلّ موارد العرب للسيطرة على السلطة وشهدت البلدان العربية أكبر عمليات نهب للثروة والاستيلاء على المال العام ودمرت البنية التنموية والاقتصادية التي ورثتها الديكتاتوريات عن الأنظمة السابقة لها ووصلت التشظيات التي أصيبت بها المجتمعات في ظل الحكام المؤبدين الذين حكموها بالقوة الغاشمة والتحالف مع الخارج والتوريث والفساد إلى فقدان تلاحمها واندماجها مفسحة الطريق للصراعات المذهبية والطائفية في ظل مجتمعات ضعفت روابطهم الوطنية وهويتها الجامعة.

والمتوقع والمأمول الآن أن تمضي ثورات الربيع العربي في اتجاه معاكس لهذه الأساليب المدمرة التي ارتبطت بالأنظمة الديكتاتورية، فمقاومة العدو تبدأ أيضاً من بناء البلدان العربية في الداخل والتمكن من مقومات الانتصار الحقيقي في ميادين الحريات وتلاحم النخبة الحاكمة مع الشعب وبناء الاقتصاد وأنظمة التعليم الحديثة والبحث العلمي وتوفير فرص العمل والارتفاع بمستوى المعيشة وغيرها من مفردات بناء البلدان.

كل ذلك يجعل من تغيير موازين القوى ممكناً في المديين المتوسط والاستراتيجي.
وحتى في ظل المرحلة الانتقالية للأنظمة الجديدة في مصر وتونس جاءت مؤشرات العدوان الصهيوني على غزة لتؤكد أن الواقع قد تغير حتى في المدى القريب التالي لثورات الربيع العربي في ظل الاختبار الذي فرضته إسرائيل واختارت توقيته في محاولة تستعجل معرفة الموقف الجديد في غير أوانه وبالتوقيت الذي تحدده إسرائيل لارباك الأنظمة الجديدة التي لم تتجاوز مرحلة تأسيس الدساتير الجديدة والاستراتيجيات الوطنية.

لقد أهدرت أربعة عقود من الديكتاتوريات فرص المجتمعات العربية في الوصول إلى مستوى المجتمعات المعاصرة، وكان من ضمن هذه الكوابح انفصال مقاومة العدو عن مقاومة الاستبداد الداخلي والمقايضة بينهما في أغلب الأحيان، ولن يكون السماح لإيران والحركات السياسية الدائرة في فلكها باختطاف القضية المركزية للعرب واستثمارها إعلامياً وسياسياً سوى لدغة أخرى في جسد العرب وفلسطين معاً، اللدغة التي يقال إنها لا تتكرر مرتين من نفس الموضع.

والبديل الذي يحقق الكرامتين معاً على المستوى الداخلي والخارجي هو ثورات الربيع العربي في مصر وتونس واليمن وسوريا ووصولها إلى الانتصار النهائي في كامل الفضاء العربي، وحينها ستبدو إسرائيل نمراً من ورق ودولة عدوانية معزولة في محيط جديد يفرض عليها وعلى الهيمنة الداعمة لها ميزان قوة جديد لا مجال فيه لاستمرار الاحتلال والعربدة في فلسطين العربية الحرة بإذن الله وإرادة الثوار العرب.

زر الذهاب إلى الأعلى