آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

الهادي يحيى بن الحسين: مؤسس الدولة والمذهب

(1)

حينما دخلت الدولة العباسية طور الضعف السياسي بعيد مقتل الخليفة المتوكل 247ه وجد العديد من المعارضين لسلطة العباسيين أن الوقت قد حان للانقضاض عليها. ولما كان حكام بغداد قد نجحوا في قمع عدد كبير من الثورات ضدهم ؛خاصة تلك التي قادها عدد من رجال البيت العلوي في المناطق القريبة من العاصمة؛ فقد اتجهت الثورات إلى مناطق بعيدة عن بغداد وتتسم بشدة وعورتها ممايوفر للثائرين حصونا منيعة طبيعية، تجعل مقاومتهم ووصول جيوش الدولة إليهم أمرا مرهقا وباهظ التكاليف.

وخلال سنوات الضعف هذه؛ نشأت دولتان تنتسبان للإمام/ زيد بن علي بن الحسين؛ الأولى أسسها محمد بن زيد الداعي وظهرت في طبرستان (250ه) وفيها ظهر فيما بعد الإمام/ الحسن بن علي الأطروش (278ه).. أما الدولة الأخرى فقد ظهرت في نواحي صعدة على يد يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي الذي اتخذ لنفسه لقب: الهادي إلى الحق (284ه)، واستمر وجودها السياسي حتى (1382ه) فكانت بذلك أطول الدول عمرا في التاريخ الإسلامي.

تمثل شخصية الإمام الهادي وتاريخه ؛قبل وصوله اليمن وبعده؛ مصدرا مهما لمحاولة تفسير عدد من الظواهر التي اتسمت بها دولته وربما مذهبه واجتهاداته المعروفة. ولعل أبرز ما ينبغي التطرق إليه في هذه القراءة هو تلك الثنائية التي جمعها الهادي في شخصيته وحياته فكان الفقيه مؤسس المذهب والحاكم مؤسس الدولة في وقت واحد، ولعله الوحيد في التاريخ الإسلامي من مؤسسي المذاهب أوالدول الذي جمع بين هذين العملين مما يجعل قراءة بعض جوانب شخصيته أمرا ضروريا لمحاولة التعرف على الآثار المتربة لتلك الثنائية على مكونيها: الفقهي والسلطاني.

ووفق د. علي زيد فإن سيرة الهادي المتوفرة (لا تلقي ضوءا على نشأته وتعليمه وتكوينه والمؤثرات الثقافية التي احتك بها)(1)لكن الدور السياسي الذي قام به في اليمن وانتاجه الفكري يدلان على شخصية من الشخصيات التي تترك بصماتها بقوة في مجرى التاريخ وإن في بلد واحد، والهادي لم يترك في اليمن بصمات فقط؛ بل ترك مشروع دولة مذهبية ومعها خلف أسرة تناسلت وانتشرت وجعلت من السلطة غاية دينية مقدسة تهون في سبيلها الرؤوس والدماء، ولأنها السلطة والجاه والسؤدد فقد سفكت في سبيلها دماء العلويين على أيدي بعضهم بعضا بالقدر الذي حدث مع الآخرين من خصومهم ومنافسيهم، وهو أمر بدأ مبكرا في التاريخ الهادوي فبعد وفاة الناصر ابن الهادي (322ه)تفجر صراع دام على السلطة بين ابنيه: القاسم المختار لدين الله وشقيقه يحيى المنصور بالله انتهى بدمار صعدة، واتفاق القبائل على خلع إمامتهما معا واندثرت بذلك الدولة الهادوية الأولى إيذانا بفشل النظرية السياسية لفكرة الإمامة التي صاغها الهادي، وأحكم التنظير لها، وظل الحال كذلك في مراحل زمنية طويلة ألقت بظلالها السوداء وثمارها المرة على اليمن واليمنيين!(2)

(2)

تزخر سيرة الهادي بصفحات طويلة عن دوره السياسي–بالمعنى المعاصر- بأكثر بكثير من دوره الفكري والدعوي، الأمر الذي يدل على غلبة دوره السياسي على دوره الفكري؛ على الأقل في سنوات انغماسه في الحروب التي لم تكن تنتهي إلا لتبدأ من جديد.. وفي هذا السياق كان ملحوظا أن الهادي خلافا للدعوات والمشاريع المشابهة ( كالدعوتين العباسية والإسماعيلية في اليمن وغيرها) لم يكن حريصا على المرحلية في العمل، وإعداد الدعاة والأتباع، وتشكيل النواة الصلبة التي تقوم عليها الدولةفي أوان الظهور. وقد ارتكب الهادي ما يمكن وصفها بأنها خطوات غير مدروسة ومتعجلة جعلت من مشروعه السياسي صفحات طويلة من الإخفاق والحروب الدموية التي صاحبته حتى النهاية. ويمكن قراءة ذلك في ثلاث منعطفات في حياته منذ بدأ تنفيذ مشروعه في امتلاك دولة خاصة به؛ الأول: رحلته إلى دولة الزيديين في طبرستان، والثاني: رحلته الأولى الفاشلة إلى اليمن، والأخير: اندفاعه أو استدراجه إلى عسكرة دولته الناشئة وتورطها في الصراع الدموي على السلطة مع الكيانات السياسية الأخرى التي كانت قائمة قبل وصوله إلى اليمن؛ الأمر الذي فوت عليه مرحلة بناء دولة العقيدة وتقوية بنيانها، وجعلها مصدر جذب للباحثين عن العدل والخير الذي يفترض أن الهادي جاء لإقامتهما في اليمن.

ونبدأ من زيارة الهادي لطبرستان؛ فعلى الرغم من العلاقة الوثيقة بين تأسيس دولة الزيديين في طبرستان وآل الرسي( كان القاسم الرسي جد الهادي هو أرسل الدعاة إلى تلك المنطقة)(3) إلا أن نجاح مسعى تأسيس دولة زيدية لم يكن كافيا لاندماج العلويين في مشروع سياسي واحد ينطلقون منه لتحقيق آمالهم في استرداد الخلافة؛ التي آمنوا أن أبناء عمومتهم العباسيين قد اغتصبوها منهم؛ فقد غلب على الطرفين الحساسيات المعروفة لدى الحكام التي تجعلهم يخافون من المنافسين ولاسيما من نفس الدائرة، ويفضلون إبقاء الملك متوارثا في الأبناء والأحفاد. وتعطينا رحلة الهادي إلى طبرستان صورة عن هذه الحالة الإنسانية التي لا يفترق فيها الأمويون عن العباسيين عن العلويين عن غيرهم من الأسر التي حكمت في بلاد المسلمين وتوارثت السلطة بين أبنائها(4).

وربما كان من المهم الإشارة هنا إلى أن الهادي يحيى بن الحسين بدأ مشروعه السياسي لتأسيس الدولة حتى قبل أن يبسط سيطرته على شبر من الأرض؛ فلأن أهله وأبناء عمومته ؛بمن فيهم والده وأعمامه؛ آمنوا باستحقاقه لمنصب الإمامة فقد بايعوه إماما (280ه)، وعندما ذهب إلى طبرستان؛ الذي يعدها بعض الباحثين محاولة لاستكشاف المناطق المرشحة لإمكانية تحقيق حلمه في امتلاك دولة؛ فقد حرص على أن يكون موكبه مهيبا كمواكب الخلفاء والملوك، يحوطه تعظيم مرافقيه الحريصين على إظهاره إماما واجب الطاعة في المنشط والمكره حتى من أبيه وبصورة غير معهودة.. وكما جذبت إليه هذه الترتيبات اهتمام العامة فقد أثارت عليه في المقابل نقمة حكام طبرستان الزيديين ومخاوفهم من منافسته لهم على الحكم، فمرافقوه حريصون على التعامل معه كإمام مفترض الطاعة بينما كان حاكم طبرستان مجرد (داع) غير مستوف شروط الإمامة.. فأوحي إليه عبر بعض البطانة أن الأسلم خروجه من دولة الزيديين عاجلا غير آجل لكيلا يغضب أبناء عمومته، فخرجوا مسرعين حتى يقال إنهم تركوا ثيابهم عند القصار –أي المنظفين- وخفافهم عند الإسكافية. ورغم أن زيارة الهادي هذه أوجدت له مناصرين رحلوا إليه بعد وصوله إلى اليمن لمساعدته في حروبه ضد المخالفين والمتمردين؛ إلا أن الهادي عاد محبطا من موقف أقرانه في طبرستان، وعدهم كغيرهم من الحكام المنحرفين قائلا فيهم: (ما منزلة الحسن بن زيد ومحمد بن زيد الحسنيين أميري طبرستان عند الله (!!) إلا كمنزلة عبدين لبني العباس مملوكين من تحت أيديهم بل هم أعظم جرما لقرابتهما من رسول الله).(5)

(3)

الخطوة الثانية غير المدروسة للهادي كانت رحلته الأولى إلى اليمن؛ فقد واجه فيها مما لا يسره أو لم يكن يتوقعه ما جعله يعود أدراجه إلى الحجاز محبطا مما لاقاه؛ حتى أنه كاد بعد أربع سنوات أن يعتذر للنفر من اليمنيين الذين جاءوا يدعونه للعودة بسبب ما وصفه (شرة أهل اليمن وقلة رغبتهم في الحق). وتختلف الروايات حول أسباب عودته أو فشل رحلته؛ فرواية تقول إنه غضب من عدم تسليمه أفراد من علية القوم ارتكبوا ما يوجب إقامة حد شرعي عليهم، ورواية ثانية أنه استاء من تصرفات غير سوية من بعض الجنود حوله، ولم يجد أعوانا لنصرته على الحق فقرر العودة رافعا شعار ( سيرة علي وإلا فالنار).. ومهما يكن السبب الحقيقي الذي جعل الهادي يعود محبطا إلى الحجاز (للمرة الثانية بعد طبرستان) فمن الواضح أن موقفه ؛إن صحت الروايتان؛ لا علاقة لهما برجل دعوة وفكرة يأتي إلى قوم وبلاد غريبة فيعمل على نشر دعوته وإصلاح أحوال الناس فضلا عن أن يواجه مظاهر وممارسات خاطئة تغضبه فيترك كل شيء ويرحل! وأين هذا الداعية الذي بدأ دعوته في بلده أو انتقل إلى بلد آخر فوجد الطريق ممهدة له والقلوب مستعدة كلها لطاعته والاستجابة لأوامره، ولم يبذل جهودا مضنية لإحداث التغيير المطلوب؟أما الانزعاج من مخالفات محدودة في بداية الأمر واتخاذها مبررا عند الأتباع للعودة فلا تتفق مع سير أصحاب الدعوات؛ لذلك نرجح أن الهادي جاء وهو يظن الطريق ممهدة له لإقامة الدولة، ولما فوجيء أن الأمر ليس كما ظن أو قيل له فضل العودة إلى الحجاز. وهنا لا ينسى المؤرخون الهادويون أن يبتكروا حكايات البلاء والفتن والقحط الذي نزل باليمن بسبب خذلان الهادي؛ رغم أن سيرة الهادي تذكر حكاية (بيت ذؤد) التي أثبتناها الحلقة الماضية الذين قالوا إنهم عاشوا في رخاء ونعمة لمجرد أن الهادي مر عليهم فبايعوه فدعا الله لهم فحلت عليهم البركة.. وعلى العموم فقد شهد اليمن (290)ه في وجود الهادي مجاعة عظيمة بسبب القحط حتى أكل الناس بعضهم بعضا، ومات كثير من الناس جوعا الامر الذي يدل على أن ست سنوات من استقراره في اليمن لم تنقذ اليمن من مجاعة مهلكة وساءت الأحوال الاقتصادية والمعيشية بفعل الحروب المستمرة وما كان يجري فيها من تعطيل للأعمال وتخريب لوسائل الحياة.(6)

ولاستكمال الحديث حول مجيء الهادي الاول لليمن؛ فإن هناك من يرى أنها كانت زيارة استكشافية ليس إلا؟ لكن هذا التفسير يصعب قبوله لأن أصحاب الدعوات لا يذهبون بأنفسهم لاستكشاف المناطق المرشحة بل يرسلون أعوانا لهم للاستكشاف وتمهيد السبل لوصول صاحب الدعوة الأول.. ثم أن ما روي في المصادر الهادوية ؛وعن الهادي نفسه ؛من تعليقات غاضبة عن اليمنيين، وعبارات الاستياء مما حدث له، وعدم نصرتهم له لإقامة الحدود الشرعية والأمر بالمعروف لا تصلح لتفسير رحلته بأنها مجرد رحلة استكشافية؛ فالمستكشفون لا يجعلون من أهدافهم ممارسة السلطة وتنفيذ القوانين لأن ذلك مسؤولية الحاكم والدولة وليس من مهام مستكشف عابر سبيل! كما أنهم لاينزعجون من وجود مظاهر فساد وعدم وجود أعوان على الحق ناهيكم عنأن يقرروا الرحيل غاضبين طالما أنهم جاءوا للاستكشاف فقط.. وعلى أية حال؛ فالهادي بعد عودته الثانية إلى صعدة واجه من مظاهر الفساد،وانفضاض الأعوان عنه وخلانهم له، وتمرد القبائل ؛التي سبق وأعلنت ولاءها له؛ ومحاربتها له ما كان يمكن أن يجعله أن يعود فورا إلى أبعد من الحجاز، ودون أن يضطر لترديد العبارة المروية عنه أنه قالها عند العودة الاولى: ( سيرة علي وإلا فالنار).. فقد امتلأ قلبه مرارة مما حدث له ولأبنه المرتضى الذي سيخلفه فيما بعد في الإمامة ( وقع في الأسر في صنعاء وشهر به وأركب على دابة وطيف به في الأسواق) ثم تخلى عنها بعد أن وجد أن لا أعوان له ولا أمان للمناصرين له!(7). وفي هذا السياق تورد سيرة الهادي أقوالا مريرة عن معاناته كقوله: ( لولا أنني أخاف ضيعة الإسلام لما أقمت في اليمن، ولمضيت إلى بلدي، فما أحسب أن هؤلاء (!!) يحل المقام بينهم، ولا أستحل أقاتل بهم!)(8). كما تورد السيرة نصا لابن الهادي محمد المرتضى قاله لأنصار ابيه الذين جاءوا يطالبون بتولي أمر الإمامة: ( وكان يقاسي منكم الأمرين، وتصيبه منكم المحن المتواترة، وتعاملونه أقبح معاملة، وتقابلونه بالإساءة إليه والخروج عليه، فصحبه من ذميم أفعالكم وقبح معاملتكم ما لا يصبر عليه إلا من امتحن الله قلبه للتقوى..)(9).

الراجح إذن؛ أنه ليس هناك من تفسير أقرب للصواب إلا أن الهادي جاء لليمن المرة الاولى لا للاستكشاف ولكن لإقامة سلطانه وممارسة دور الحاكم في دولته الخاصة به التي خطط لها منذ زمن مبايعة أهله له إماما مفترض الطاعة. أما لماذا رجع خالي الوفاض فلأنه ارتكب الغلطة نفسها عند ذهابه إلى طبرستان؛ إذ ظن أن وصوله ؛بما أشاعه عنه بالضرورة مستقدموه إلى اليمن؛ سيكون كافيا لتسهيل تحقيق حلمه، لكنه اصطدم بما لم يخطر له ولا لأمثاله من السابقين واللاحقين الذين جاءوا إلى اليمن حاملين مشاريعهم السياسية فاصطدموا بالواقع اليمني : تضاريس وإنسانا وقبائل وتراثا طويلا من تفضيل العيش المستقل في بقعة صغيرة على الانضواء تحت حكم أحد آخر: يمنيا كان أو غريبا!

(4)

نواصل الاسبوع القادم–بإذن الله تعالى- القراءة في علاقة البعد السياسي لدعوة الهادي في عسكرة دولته.

(5)

تنبيه مهم: وقع في الأسبوع الماضي التباس أدى إلى نشر مسودة غير نهائية للحلقة (3) بسبب خطأ في عملية الإرسال عبر البريد الإلكتروني، ولذلك ظهرت بعض الأخطاء التي كان قد تم تصحيحها في المسودة النهائية.. ويهمنا هنا ذكر الاسم الصحيح لمؤلف كتاب (طبقات فقهاء اليمن) وهو العلامة/ عمر بن علي بن سمرة.. أما بقية التصحيحات فستظهر مستقبلا إن قدر الله لهذه المقالات النشر في كتيب خاص.

الهوامش:

1 - د, علي محمد زيد، معتزلة اليمن: دولة الهادي وفكره، ص 57.
2 - في التاريخ الهادوي في اليمن عارض العلويون من آل الهادي علويين آخرين جاءوا من الخارج ودعوا لأنفسهم بالإمامة ليس لعدم توفر شروط الإمامة ولكن لأن القادمين الجدد طمحوا بشيء تحول بفعل نفسية التوارث إلى شيء أو ملك خاص بأسرة معينة، وستظهر حالات كثيرة فيما بعد تحالف فيهاالعلويون المتنافسون علىالإمامة مع منافسين آخرين من داخل اليمن وخارجها ضد بعضهم بعضا.. لا فرق بين من يتآمر ضد أبيه أو أخيه أو آخرمن الذرية نفسها!

3 - د. علي محمد زيد، معتزلة اليمن: ص33 وص57.
4و5 - نفسه، ص 58و59.
6 - ابن الديبع الشيباني، قرة العيون بأخبار اليمن الميمون، ص 153. وكذلك: معتزلة اليمن، ص 82و83.
7 - د. علي محمد زيد، معتزلة اليمن.. ص 105.
8 -سيرة الهادي، 108.
9 - معتزلة اليمن، ص105 وما بعدها.

زر الذهاب إلى الأعلى